ترجمة من الفرنسية وتحرير نون بوست
جرت يوم الثلاثاء الثالث من مارس الجاري في موسكو مراسم تأبين المعارض الروسي بوريس نمتسوف وسط أجواء مشحونة بالتوتر في ظلّ تواصل الغموض الذي يلف الجريمة وعدم توفر معلومات واضحة حولها، وقد أعلن المحققون أنهم يبحثون في كل الفرضيات الممكنة مثل إمكانية أن تكون الجريمة بسبب دوافع دينية بسبب مساندة القتيل لجريدة شارلي إيبدو الفرنسية أو لأسباب سياسية بسبب موقفه من الحرب في أوكرانيا.
وقد صرّح مقربون من نمتسوف بأنه كان بصدد إعداد تقرير حول وجود جنود روس في شرق أوكرانيا رغم أن موسكو ظلت دائما تنفي بشدة مشاركة جيشها في المعارك إلى جانب الانفصاليين.
ولكن يبدو أن السلطات الروسية مهتمة بمتابعة فرضية ثالثة قد تشكّل مفاجأة، ولهذا تمت إحالة ملف التحقيق إلى جنرال معروف باطلاعه الجيد على الأوساط القومية والراديكالية وهو إيغور كراسنوف.
وتمثل هيئة التحقيق التي أوكلت إليها القضية حالة خاصة في روسيا، فبعد أن تم إنشائها سنة 2007 أصدر فلاديمير بوتين في 2011 مرسومًا يقضي بجعلها منفصلة عن الجهاز القضائي؛ ولهذا فهي اليوم لا تخضع لسلطة غير سلطته المباشرة، وتمت إحالة رئاسة هذه الهيئة لأحد المقربين من الرئيس وهو الجنرال ألكسندر باستريكين البالغ من العمر 61 سنة وهو متخرج من كلية الحقوق في لينينغراد أين تعرف على الرئيس بوتين، ويقول فلاديمير ماركين الناطق الرسمي باسم الهيئة: “تعود أول فكرة لإنشاء هيكل مستقل للتحقيق إلى عهد بيار الأكبر الذي وضع هذه الهيئة تحت سلطة الإمبراطور المباشرة، ولكن بيار الأكبر ليس بوتين، أليس كذلك؟”.
وتضمّ هيئة التحقيق 21 ألف موظف وثمانية آلاف محقق ولكنها لا تخضع لأي سلطة غير سلطة الرئيس ولذلك يعتبرها الكثيرون الذراع الطويلة للكرملين، وقد ازداد نفوذها كثيرًا بما أنها مكلفة خاصة بقضايا الفساد، وفي هذا السياق يضيف فلاديمير ماركين “كل شيء يمر من تحت يدي هذه الهيئة من الجرائم الخطيرة إلى النظام العام وأمن الدولة وجرائم الحرب والعمليات الإرهابية والعصابات والفساد والجرائم التي ترتكبها قوات الأمن، يملك المحقق كل الصلاحيات للتصرف بمبادرة فردية، والحد الوحيد لهذه الصلاحيات هو إمكانية أن يغلق المدعي العام ملف التحقيق خلال الأربع وعشرين ساعة الأولى بسبب عدم جدية الأدلة، أما إذا بلغ التحقيق مراحل متقدمة فما عليه سوى مجاراة قرار توجيه الاتهام”.
قاضي التحقيق
تتخذ الهيئة من مبنى عصري متألف من خمسة عشر طابق مقرًا لها في شارع باومنسكايا، في هذا المبنى تم التحقيق في كل القضايا الحساسة مثل قضية الثري ميخائيل خدركفسكي الذي عفى عنه بوتين بعد عشر سنوات قضاها وراء القضبان، وقضية الناشطات النسويات اللاتي حكم عليهن بسبب تصوير أغنية والرقص في الكنيسة والسخرية منها، ونشطاء منظمة السلام الأخضر الذين حوكموا بسبب اقتحامهم لمنصة استخراج نفط تابعة لشركة غازبروم، فيما يتواصل إلى الآن التحقيق في قضية المعارض أليكسي نافالني الذي يتعرض للمتابعة بتهمة الاختلاس وقضية اهتم شيغوز أحد الزعماء التتار في شبه جزيرة القرم والمتهم بتنظيم مظاهرات حاشدة في فبراير 2014 ضدّ إلحاق القرم بروسيا.
وحول قضية اغتيال نمتسوف يؤكد السيد ماركين “نحن لا نستعمل الرصاص ضد خصومنا ولا نحتاجه، فالمحقق لا يركض وراء المجرمين بل يكتفي بجمع الأدلة ويصدر الأمر لعناصر الأمن الفيدرالي أو وزارة الداخلية التي تقوم بالتنفيذ وتزودنا أيضًا بالتسجيلات الهاتفية عند الضرورة”، يعني هذا أن هذه الهيئة أقوى من جهاز الأمن الفيدرالي التابع للاستخبارات الروسية وأن هؤلاء المحققين الذين يتجولون في السيارات السوداء ذات الخط الأحمر ليسوا شرطة بل موظفون برتبة قضاة، وللدخول لهذا الجهاز الأكثر حساسية في القضاء الروسي يخضع المترشحون لتحقيقات واختبارات كشف الكذب ويشترط حصولهم على تزكية أحد المحققين المباشرين.
ويعتبر البعض على غرار السيد ماركين الذي كان في السابق يعمل كصحفي أن رتبة جنرال مناسبة لتولي هذه الوظيفة ولكن التكوين العسكري غير مناسب لها ولهذا يُنتظر فتح أكاديمية داخلية لتكوين المحققين، ويثير أسلوب عمل هذه الهيئة الكثير من الانتقادات ولكن من يجرؤ على تحدّي “هيئة التحقيق”؟ فتحقيقاتها لا تترك منفذًا للنجاة، ما إن يكتمل الملف ويحال للقضاء فقط 0.4 من المتهمين يُحكم لهم بالبراءة، وهو أمر عادي حسب رأي المحققين الذين يعزونه إلى مهارتهم ويعتبرونه اتقانًا منهم للعمل، وفي هذا السياق يضيف السيد ماركين “نحن لا نرسل للمحكمة إلا الملفات التي تحمل أدلة دامغة،على عكس الولايات المتحدة التي لا يوجد بها تحقيق أصلاً”.
المتهمون الأوكرانيون
يوجد اليوم بمقر الهيئة قسم كامل يهتم بأوكرانيا؛ فرغم أن روسيا ليست مشاركة رسميًا في الصراع الدائر في جوارها فإنها تحتجز 65 مواطنًا أوكرانيًا للتحقيق معهم على بعد 850 كيلومتر من العاصمة الأوكرانية، يوجد من بينهم رئيس الشرطة السرية الأوكرانية ووزير الداخلية الأوكراني أرسن أفاكوف، وعن هؤلاء يقول السيد ماركين”إذا كانوا يعتقدون أنهم بوجودهم في أوكرانيا سيتملصون من مسؤولياتهم فإنهم مخطؤون”.
ويقبع اليوم الكثير من الناشطين الأوكرانيين في السجون الروسية بعد أن تم إيقافهم بشكل غير قانوني، وينطبق هذا الأمر على الطيارة الحربية نادجدا شافتشنكو البالغة من العمر 33 سنة والمشتبه بأنها قامت بالتبليغ على مكان صحفيين روسيين؛ مما أدى لقتلهما في إطلاق قذائف على مدينة لونسك الأوكرانية في يونيو 2014، ويوجد أيضًا في هذه السجون المخرج السينمائي أوليغ سنتسوف البالغ من العمر 38 سنة والذي كان ناشطًا خلال الثورة الأوكرانية في ساحة ميدان في كياف، وهو اليوم متهم بالتحضير لأعمال إرهابية تستهدف البنية التحتية لشبه جزيرة القرم التي ولد فيها ويعيش فيها.
وتعتمد لجنة التحقيق على الفصل 12 من قانون العقوبات الروسي الذي يسمح لها بالتحقيق مع أشخاص أجانب، وهي الآلية التي سمحت لها من قبل بفتح تحقيق ضد الرئيس السابق لجورجيا ميخائيل ساكاشفيلي الذي وصفه السيد ماركين في العشرين من يناير الماضي في الصحيفة اليومية الروسية سوبسدنك بأنه آكل ربطات العنق على إثر حادثة عضه لربطة عنقه بسبب توتره الشديد ونسيانه أنه أمام الكاميرات، رغم أنه اليوم لاجئ في الولايات الأمريكية بعد حرب أوسيتيا الجنوبية فإن الهيئة تواصل التحقيق في قضيته.
نورمبرغ
وتخصص هيئة التحقيق الروسية جهدًا مضاعفًا للقضايا المتصلة بأوكرانيا، ومنذ إسقاط طائرة البوينغ الماليزية في يوليو 2014 في الأجواء الأوكرانية على يد الانفصاليين المواليين لروسيا في مدينة دنمباس، تقوم موسكو بشحذ أسلحتها تحسبًا لأي تدخل دولي في الصراع الأوكراني الذي أوقع حتى الآن ستة آلاف قتيل، وفي هذا السياق يقول السيد ماركين بعصبية: “إذا كان رئيس الوزراء الأوكراني أرسيني يستنيوك قادرًا على الوقوف أمام العالم والادعاء بأن الاتحاد السوفيتي الذي كانت أوكرانيا جزءًا منه قد غزا ألمانيا وأوكرانيا خلال الحرب العالمية الثانية فكيف يمكننا أن نأخذ على محمل الجد ادعاءاته حول علاقتنا بتحطم الطائرة الماليزية، أنا على يقين بأن هذا النظام الذي يعطي الأوامر بقتل المدنيين باتت أيامه معدودة، نحن نجمع الأدلة شيئًا فشيء وأنا أؤكد أنه عاجلاً أو آجلاً سيخضع قادته للمحاكمة على غرار محاكمات نورمبرغ الشهيرة التي تلت انهيار النازية، نحن نملك العديد من الأدلة الملموسة حول استعمال الجيش الأوكراني للقنابل الفسفورية وأخذنا أيضًا عينات من الأرض”، ولكن يوضح السيد ماركين الناطق الرسمي أين ستتم هذه المحاكمات وكيف سيتم جلب المتهمين.
المصدر: صحيفة لوموند الفرنسية