مع اعتلاء الملك سلمان لعرش المملكة السعودية عقب وفاة الملك عبدالله حتى انهالت الدبلوماسية الغربية والمنظمات الحقوقية في إرسال البرقيات والالتماسات إليه متحدثة بشأن ملفات حقوق الإنسان في المملكة التي تشهد زيادة في وتيرة ملاحقة الناشطين والمدونيين وسجنهم بتهم مختلفة، آخر هذه الحالات كانت سجن المدون والناشط الحقوقي رائف بدوي مؤسس “الشبكة الليبرالية السعودية” لمدة عشر سنوات بالإضافة لجلده 1000 جلدة وغرامة مالية لاتهامه بتأسيس موقع مسيء للمملكة ومؤسساتها الدينية.
رأت الدوائر الحقوقية في كلٍ من الولايات المتحدة وأوروبا أن وفاة الملك عبدالله وظهور سلمان بنوع من السياسة الجديدة فرصة لا تعوض في سبيل إنجاز تقدم في الملف الحقوقي السعودي المتدهور للغاية في ظل تكنهات بميل سلمان للتشدد في هذا الملف، والتي ترفض السعودية مطلقًا أي تدخل غربي فيه، وبالطبع فإن سكوت الغرب عن هذا الملف مدفوع الثمن مقدمًا بالتشابك الاقتصادي بين الدولة النفطية ودول الغرب.
هذه المحاولات الغربية كان آخرها رسالة من منظمة العفو الدولية بالولايات المتحدة وقّع عليها عدد من أعضاء الكونجرس الأمريكي وأُرسلت إلى الملك سلمان تضمنت تعزية لوفاة الملك عبدالله ومحاولات لتذكرة السعودية بالأخطار التي تحدق بها شمالًا وجنوبًا، وإظهار التعاطف مع المملكة في حربها ضد تنظيم الدولة، ثم مطالبات بتحسين الأوضاع الحقوقية في الداخل في إطار السياسة الجديدة الذي يتبناها الملك الجديد في وجهة نظرهم، والتي قالوا عنها إنها فرصة تاريخية للملك، كما تحدثت الرسالة عن المدون رائف بدوي كذلك عن النظام القضائي السعودي وضرورة إصلاحه، والأوضاع الحقوقية المختلفة منها منع ممارسة التعذيب ومنها ما يتعلق بالمرأة كحق قيادة السيارة وغيرها.
هذه الرسالة ضمن سلسلة محاولات غربية للحديث عن الأوضاع الحقوقية في المملكة من خلال قضية رائف بدوي دون رد سعودي جديد أو تجاوب ما، حيث أكدت منظمة العفو الدولية أن السعودية قررت للمرة الخامسة على التوالي تأجيل جلد رائف بدوي، الذي من المفترض أن يجلد 1000 جلدة خلال عشرين أسبوعًا في كل أسبوع 50 جلدة، بعدما أدين بتهمة إهانة الدين الإسلامي، وتضمنت عقوبته أيضًا السجن لعشر سنوات.
وكانت قضية رائف بدوي قد شهدت تطوراتٍ عدة في الأسابيع الأخيرة، فقد قررت المحكمة السعودية العليا إعادة فتح القضية، وإعادتها إلى المحكمة الجزائية المختصة في مدينة جدة، للنظر في إمكانية إعادة محاكمته أو تخفيض عقوبته، حيث شهدت القضية أيضًا ضغوطات هائلة من دول وحكومات غربية على المملكة العربية السعودية، خاصةً النمسا وكندا وبريطانيا، فيما شددت المنظمات الحقوقية حول العالم من لهجتها حيال النظام السعودي، مطالبين بالإفراج الفوري عن بدوي ووقف جلده.
فالنمسا كادت أن تقطع علاقتها مع الرياض بسبب هذه القضية بعد استدعاء السفير السعودي في النمسا لإبلاغه الاحتجاج على جلد رائف، كذلك أبلغ وزير خارجية النمسا احتجاجه رسميًا لوزير الخارجية السعودي على هذا الحكم من خلال عدة اتصالات تليفونية.
كما اندلعت موجة من الاحتجاجات الشعبية المؤيدة من قبل جمعيات حقوقية في النمسا تطالب بطرد مركز الملك عبدالله للحوار بين الحضارات في فيينا، والتي أدت إلى بحث الحكومة في النمسا إلى الانسحاب من المركز وطلب نقله إلى بلد آخر بسبب هذه القضية.
كذلك كندا، تدخلت للضغط بعدما أطلق وزير خارجيتها نداء للحكومة السعودية للإفراج عن المدون الشاب، كذلك ذكرت الصحافة العالمية أن الأمير تشارلز أثار موضوع المدون السعودي مع الملك خلال اللقاء الذي جمع بينهما خلال زيارته للسعودية، بعدما تواصلت مع الأمير عدة جمعيات ومراكز حقوقية بشأن الملف الحقوقي في المملكة من بينها منظمة العفو الدولية.
ولحساسية الأمر لدى الحكومة السعودية، ذكر سفير بريطاني سابق لدى السعودية، وهو السير وليام باتي لشبكة BBC في وقتٍ سابق إن للأمير تشارلز القدرة على إثارة المواضيع الحساسة المتعلقة بحقوق الإنسان مع المسؤولين السعوديين دون أن يستفزهم.
وفي ظل هذه الانتقادات الغربية بانتهاك حقوق الإنسان في السعودية، صرح مندوب السعودية الدائم لدى الأمم المتحدة السفير فيصل بن حسن طراد بأن السعودية تحرص على الالتزام بالعهود الدولية والمبادئ التي أقرتها الأمم المتحدة، وذلك ردًا على تصريحات قالها وزير الدولة للشؤون الخارجية بالنرويج بحق السعودية، انتقد فيها الأوضاع الحقوقية المتردية التي تشهدها المملكة، حيث أثارت هذه التصريحات غضب السفير السعودي الذي شدد على أن السعودية لا تقبل التدخل في شؤونها الداخلية وأنه لا تشكيك في نزاهة القضاء السعودي.
ورغم كل هذه الانتقادات يشارك الآن وفد سعودي في أعمال الدورة الـ 28 لمجلس حقوق الإنسان الذي يعقد في جنيف في الفترة من 2 إلى 27 مارس، والذي سيشهد التبريرات السعودية المعتادة لكل ممارساتها القمعية الداخلية بأنها شأن داخلي وخاضع للقانون المستمد من تطبيق الشريعة الإسلامية العادلة، وذلك كله سيواجه أيضًا بردود غربية نمطية حرصًا على المصالح مع هذه الدولة المصدرة للنفط.
الولايات المتحدة والغرب عامةً يريد أن يثير هذه النقطة في هذا الوقت بالتحديد في ظل التحولات التي تشهدها المملكة مع صعود نفوذ سلمان وإتيانه بحاشية جديده من المتوقع أن تتطرف أكثر ناحية المؤسسة الدينية بعد اعتبارهم أن فترة الملك عبدالله هي الأكثر ليبرالية بالرغم من كل ما شهدته من تعديات حقوقية، حيث يُعتقد أن مزيدًا من التشدد سيبديه الملك الجديد ورجاله؛ ففي الأسبوع الثاني من حكمه دعى الملك سلمان علماء الدين المحافظين، الذين كان الملك “عبدالله” قد همشهم لزيارته في الديوان، ما يوضح أن الملك يميل إلى الجناح المحافظ الذي تم تهميشه في عهد الملك عبدالله والذي أطلق بعض الإصلاحات التعليمية، وأعطى هامشًا من حرية الإعلام على عكس الملك الأسبق “فهد” الذي كان محافظًا على النسق الوهابي للدولة ومحتفظًا بالعلاقات الأمريكية على طريقة هذه نقرة لنا وتلك نقرة لكم، ويعتقد أن سلمان سيكون نموذجًا من حكم فهد على الصعيد الحقوقي حيث التشديد على الحريات وارتفاع صوت المؤسسة الدينية وتدخلاتها في جانب الحريات مع الاحتفاظ في نفس الوقت على العلاقات الخارجية مع الغرب وأولهم الولايات المتحدة، مع التأكيد أن ملف الحقوق والحريات هو شأن داخلي سعودي.
لذلك من غير المتوقع أن يرضخ الملك الجديد إلى هذه الضغوط والمطالبات المتلاحقة من الغرب من أجل تغيير سياسة المملكة الداخلية بشأن فتح مزيد من الحقوق والحريات، إذ إن الواقع يقول باتجاه السعودية إلى الأسوء في هذا الملف الفترة القادمة.