“أحتاج أن أروي قصة، إنه هاجس، كل قصةٍ هي بذرة في داخلي، تبدأ في النمو والنمو، مثل ورم، ويجب عليّ أن أتعامل معها عاجلاً أو آجلاً، لماذا قصة بعينها؟ أنا لا أعرف ذلك عندما أبدأ، ولكنني أعلم ذلك فيما بعد.
على مرّ السنين، اكتشفت أن كل القصص التي رويتها، كل القصص التي سأرويها على الإطلاق، مرتبطة بي بشكل أو بآخر، عندما أتكلم عن امرأة في العصر الفيكتوري ترحل عن الأمان في بيتها وتأتي مطاردةً حمّى الذهب في كاليفورنيا، فأنا أتكلم عن الأنثوية، عن التحرّر والانعتاق، عن الأمور التي مررت بها في حياتي الخاصة، هاربةً من عائلة تشيلية، كاثوليكية، محافظة، بطريركية، فيكتورية … خارجة إلى العالم.
عندما أبدأ بكتابة كتاب، فأنا لا أملك أدنى فكرة إلى أين سيذهب، إذا كانت رواية تاريخية أكون قد بحثت في الفترة الزمنية والمكان، ولكنني لا أدري ما هي القصة التي سأرويها، أنا فقط أعرف بأنني أريد، بشكل رقيق وخفي، أن أوقع تأثيرًا على قلب القارئ، وعقله”. إيزابيل اللندي
لا أعتقد أن كاتبًا قد أفلت من سؤال الدافع – قبل وأثناء ممارسة عملية الكتابة – كسؤال يتصل مشيميًا بذهن الكاتب حتى في أعمق لحظات الجفاف اللغوي والتعبيري، ويصل به مرحلة أن يعرّفه ويرسم ملامحه في نفوس الآخرين، تتعدد مناهل الإجابة على هذا السؤال بتعدّد واختلاف نفوس الكتّاب، والتي سبق وشكّلتها مختلف الرؤى والفلسفات، وباختلاف طبيعة المحيط الفكري الذي اكتنف مسار الكاتب في رحلته، فليست هذه الإنتاجات الهائلة إلا وليدة هذا الكل من الحيثيات والاحتمالات.
يرسي مشروع تكوين بالعمل المترجم الأول له: كتاب “لماذا نكتب” لميريديث ماران، الأرضية العلمية للكتابة الإبداعية، بحيث يجعل من موضوع الكتابة – بحد ذاته – موضوع بحث وتأمل في الآلية والغاية وكل التفاصيل التي تقع بينهما، حيث يقوم على إخراج هذا الخطاب من عزلته ويبتكر هذه العلاقة الخاصة بين الكاتب والقارئ؛ أصفها بالمناجاة الصادقة التي تعبر عن الجانب الذي يحتم على كليهما إدراكه في المقابل.
يختلف حجم التأثير الذي توقعه الأعمال في نفوس القرّاء باختلاف المواد التعبيرية وبجسارة التعامل بها وبأدواتها، وهذا كله يقع بدوره تحت تأثير روح الكاتب على النص، وروح تجربته وعالمه الخاص والذي تؤطره عملية الكتابة بشكل أكثر وضوحًا وصدقًا إن ارتبطت بالغاية بتسامِ.
يقول جيمس فري في هذا: “إذا جاء يوم صرت فيه مهتمًا بآراء الناس وبأرقام المبيعات وبعدد الحضور في أمسياتي أكثر من سعيي لكتابة ما يزحزح العالم ويضع الناس في الفوضى سأعتزل الكتابة وأمتهن شيئًا آخر”.
يحوي كتاب “لماذا نكتب” عشرين فصلاً لعشرين كاتبًا يتحدث عن دافعه إلى الكتابة، بالإضافة إلى أفضل وأسوأ لحظات الكتابة لديه، أهم المحطّات التي ساهمت في تكوينه، ويُختم الفصل بعددٍ من نصائح الكتابة التي يوجهها الكتّاب العشرون إلى الكاتب الطموح الذي يتطلع إلى النهل من بصيرةِ غيرِه، وتجربته.
كنوع من الإلهام الفريد، كان لزوم سماع صوت هذا الخطاب الصادق المؤثر ضروريًا، والذي يكون أحيانًا صعب التناول والتداول والإيصال من الكاتب للقارئ، حيث تعمل هذه الإلهامات على رسم صورة أوضح وأعمق في ذهن القارئ عن مختلف الأعمال وتشكيلاتها وتسبر في ذهنه عمقها الحقيقي.
إن عملية الكتابة تتلخص – بشكل خاص أدبيًا – في أن تقول الحقيقة دون خرق الغرائز الأدبية، بحيث يجب أن يكون هدف الكاتب منها أن يتوسل بأدبياته المختلفة جزءًا من الحياة ويجعله مفهومًا بالنسبة للقارئ، بحيث يشعر الأخير بأن ما يصعب تناوله أحيانًا قد استطاعت روح قلم ما أن تجعله مفهومًا ومعبّرًا عنه ومجسدًا أمامه، وأعتقد شخصيًا بأن هذه هي تحديدًا قيمة العمل بكل بساطة.
سيبقى سؤال الدافع كالغيم الذي لا يبخل كفّه بمدّ مسيرة الكاتب الصادقة، وستبقى الكلمة مهما كانت مجانية معجزة التعبير عن كل ما يستحق أن يُسطِّر ويخلد في الأذهان، هذا النوع من العالم الخاص حيث بإمكاننا – أحيانًا – داخله حماية أنفسنا من إخفاقاتنا في الحياة اليومية عن تناول كثير مما حولنا، سنبقى نكتب لأن العالم ليس مثاليًا ولأننا لا نتصرف فيه بشكل مثالي.
“أظن أنني عندما أكتب أو بشكل أدق، متى كتبت أكون إنسانًا أفضل وأكثر سلامًا”. ريك مودي