تلك اللحظة المُفجعة التي خُلق فيها الإنسان صارخًا، مُنشقًّا، شاكيًا وفرحًا أنه الآن صار موجودًا!، دائمًا ما أُسأل عنها، لماذا أصفهاعادةً بالوجع والألم ولا أصفها مثلاً بالفرح والترنّم والدهشة التي انتابت العالم والملائكة بوجود هذا الكائن الجديد المُختلف؟ وعادة ما أجيب أني أعتقد أن فجأة الشجون والتعب والحنين الذي انتاب الإنسان حينها كفيل بأن يوصف بالمعاناة، فكل شعور سيشعر به طيلة حياته، قد شعر به دفعة واحدة! وعلى الرغم من ألمها واحتدام مُختلف المشاعر فيها إلا أنها كانت لحظة سامية خلق الله فيها أول مخلوق .. حر!
نعم، مخلوق حرّ فلا أجد غير الحرية معلمًا فريدًا أميز به الإنسان عن غيره، وإن اعتقادك بحرية الإنسان يعني ضمنًا أنك قد آمنت بوجود الله تعالى، ففي القرآن الكريم يقول الله عزّ وجل {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} المؤمنون 14، والذي يُفهم واضحًا أن قدرة الخلق موجودة عند أحد غير الله، فصيغة (أحسن) تدل على أن هنالك عدد من الخالقين تفضّل الله عليهم وتفوقهم وكان أحسنهم، وهذه نقطة قد تُثير العديد من التساؤلات وعلامات الاستفهام، فمن هذا الذي يخلق من دون الله؟!
إذا نظرنا حولنا جيدًا لن نجد من المخلوقات سوى ثلاثة: نباتات، حيوانات، وإنسان، وفي كفة أخرى نجد أن أعظم ما اخترعه الإنسان هو آلة صنعها على صورته، وبهذا يكون الإنسان قد استخدم مجموعة من الأدوات وكوّن منها شيء جديد ومتميز، كما استُخدم الطين في خلق شيء جديد، لكن لحظة! هنالك شيء مميز وفريد في صنيع الطين هذا، إنه يُقرر ويتحمل مسؤولية أفعاله، على عكس ما صنعه الإنسان من آلة لا تتصرف إلا وفق أوامر قد بُرمجت عليها من قبل، وكما يقول مولانا علي عزّت بيجوفيتش “إن الحرية والإنتاج فكرتان متعارضتان، إن الله لا يُنتج ولا يُشيّد، إن الله يخلق”، لذلك فإن قضية الخلق فعليًا ووجود خالق متفوق على الإنسان هي قضية الحرية الإنسانية.
في نظرة لتاريخ البشرية منذ البدء نجد أن هناك خطًا فارقًا ملموسًا تأنّس فيه الحيوان المتفوّق المُكتفي بتلبية احتياجته البيولوجية، عندما قرر هذا الحيوان أن يرفض أن يكون حيوانًا، لحظة قام بوضع الحجر الذي سيصطاد به وصلّى لقوى خفية أن تساعد هذا الحجر في اصطياد غنيمته في الوقت الذي كان فيه الحيوان ينقض مباشرة في الصيد على فريسته بلا صلاة أو رسم أو رقص، لحظة نظر فيها داخله فسمع نداء عالمٍ كان دائمًا موجودًا داخله، عالم يحن إليه دائمًا كما لو كان موطنه القديم، عالم متجاوز لكل ما هو مادي ومتعلق تمامًا بالرمز .. كل الرمز والمعنى.
الطبيعة الثنائية للإنسان هي مدخل المعرفة لعالمه، وبداية الشفاء من ذلك الدوار الميتافيزيفي المفاجئ، أما النموذج المُركب الذي يظهر ليفسر هذه الثنائية فتستطيع من خلال إدراكه وفهمه أن تعزو كل ظاهرة إنسانية إما للجانب الروحاني/ الجوّاني من الإنسان أو الحيواني/ البرّاني منه، فإذا استطاع الإنسان أن يُدرك ثنائيته ويصنف الأفكار التي تنتابه والممارسات التي يأتي بها والقيم التي تحكم حياته فسيتخلص من حيرته ويخرج من متاهته الأولى، حيث السؤال الأول كان واستمر، حيث تشتت الكثير من المعجزات بين الجوهر الديني والمشاعري والأخلاقي والتفكيك المادي الأداتي التقني، حيث سيتسنى للكائن الأول الذي قال “لماذا”، أن يبحث أخيرًا عن إجابته.
وبين الأداة والعبادة كُتبت حياة الإنسان، فالأداة تعبّر عن استمرار الحياة البيولوجية والتطور التاريخي والأداتي التقني، أما العبادة فتعبّر عن الطقوس والشعائر والممارسات الروحية الخالصة الخالية من المنافع المادية تمامًا، والأداة هنا أيضًا تعبر عن الحضارة، أي كل ما ينتج عن تطور الإنسان بيولوجيًا وماديًا عبر الأزمان وغالبًا ما تكون الحضارة هي المؤثر الخارجي على الإنسان، فالذكاء والحاجة الدائمة إلى اختراع احتياجات جديدة يستطيع هذا الذكاء تحقيقها هو سبب نهوض العديد من الحضارات واستمرار ظهورها، وهذا لا يعني أن الحضارة شيء سيء أو غير ضروري، على العكس إنها تمثل نقص الإنسان من حريته وتفوقه العقلي على غيره من المخلوقات ويجب أن تستمر الحضارة حتى يكون لوجود الإنسان طابع مختلف عن وجود غيره من الكائنات، لأن هذا المخلوق المتفوّق يستطيع بثنائيته صنع المعجزات، ويظهر ذلك في العديد من الحضارات التي قامت على التطور والإبداع والتقدم يوازيهما العبادة التي تعبر عن الثقافة المُتعلقة بالمشاعر والأخلاق والدين.
في عصر ما كان الإنسان أكثر وعيًا بثنائيته، أما الآن فقد اضمحل هذا الوعي خلف أسلوب حياة تم التسويق إليه على أنه أسلوب العصر والنهضة، بينما هو لا ينطوي إلا على نكران الذات وتبجح الجسد على الروح، والحرص على عدم إشباع حاجات المُستهلك حتى يستمر الإنتاج ويتضخم، والأمثلة على ذلك حاضرة في التاريخ الفكري والسياسي والاقتصادي للبشر، منها الاشتراكية التي قامت على فكرة التشارك وما للفرد هو ما للمجتمع، وبالفعل نرى أن جميع الدول التي طبقت النظام الاقتصادي الاشتراكي مكتفية بذاتها اقتصاديًا، بل وتساعد غيرها من الدول وتنخفض معدلات الفقر لديها ويتساوى المواطنون في مستوى المعيشة فلا غني ولا فقير، ولكن ما يصدمنا حقًا هو وعلى الرغم من هذا الرخاء الاقتصادي إلا أن الإنسان في مثل هذه الدول هو إنسان بلا ذات أو فردانية، إنسان مسلوب المعنى والشخصية والخطط المستقبلية الخاصة، إنسان مُعلّب لديه كل شيء إلا الحرية، تلك التي ميزته في يوم ما عن البهائم.
ولنأخذ أمريكا الرأسمالية مثالاً آخر والتي تسابق العالم كله بتكنولوجيتها وتطور أفرادها وإقبالهم الدؤوب على العمل، فهنا كل نفس بما كسبت رهينة، حيث ما تجني من أرباح هو ما يعبر عنك، فيتدمر الإنسان كقيمة في ذاته، وتندثر روحه وحيويته تحت الآلاف من أوراق الحسابات والضرائب والرسائل النصية، ووفقًا لتقرير رسمي لسلطات الصحة العامة الأمريكية سنة 1978، فإن واحدًا من كل خمسة أمريكيين عانى من انهيار عصبي أو كان على حافته، هذه النتيجة مؤسسة على مادة لا تقبل الشك، فقد اختيرت عينة من الأشخاص تمثل 11 مليونًا من السكان في سن النضج بين سن (19 – 79) سنة.
في حيرة الإنسان هذه، بين الثقافة التي تنوّر جوهره وتبنيه لا تهدمه وتعجز عن تفسيره فيكون أعظم معجزات الكون، وبين الحضارة التي تفكك الإنسان بمادياتها إلى أصغر أجزائه حتى يصبح ذرة في الهواء، هنالك قنديل واحد قد يضيء لك الطريق ويساعدك على تلمّس الحقيقة وسط هذا الضباب، هو أن تدرك ثنائيتك وتعيها وتفهمها وتستخدمها كنموذج تمر من خلاله حياتك، وتذكر أن “الإنسان دائم التردد، وسلوكه مرتبط بحريته واختياراته المتنوعة، فهو لا يمكن أن يكون جزءًا من آلية وظيفية اجتماعية مقررة مُسبقًا، ثم هنالك ذلك الخوف والقلق الذي يشعر به الإنسان من خلال تأمله الدائم في الكون ومعضلاته، وهو ليس مجرد خوف بيولوجي (مثل ذلك الذي يستشعره الحيوان)، إنما هو خوف روحي كوني بدائي، موصول بأسرار الوجود الإنساني وألغازه، وممتزج بحب الاستطلاع والإعجاب والدهشة والنفور، تلك المشاعر المُختلطة هي العامل الخالد الأزلي المحدد لوجود الإنسان” .