لطالما تميّزت العلاقة الاستراتيجية بين الولايات المتحدة وإسرائيل بكونها عابرة للاتجاهات الحزبية والأيديولوجية، إذ ضمنت إسرائيل تأييد واشنطن لها بغض النظر عن الحزب المهيمن على الكونجرس وانتماء الرئيس الأمريكي، وهي ميزة عززتها جهود اللوبيات اليهودية التي ركزت جهودها على كافة القوى السياسية داخل الولايات المتحدة، مما أدى لواحدة من أبرز العلاقات الخارجية لواشنطن على مدار عقود، ولتصبح إسرائيل أكبر متلقٍ للمعونات المادية في تاريخ الولايات المتحدة منذ تأسيسها عام 1948 إلى الآن (بقيمة 121 مليار دولار)، بيد أن هذه العلاقة تمر الآن بواحدة من أصعب لحظاتها، إذ يبدو أنها تقترب من نهايتها لتتحول إلى علاقة تحالف بين حزبين فقط ليس إلا.
لا يُعَد الانقسام الحالي بين الديمقراطيين والجمهوريين حيال إسرائيل وليد اللحظة، أو نتيجة لخطاب نتنياهو المثير للجدل في الكونجرس وسينقشع بنهاية الأزمة، فهو انقسام له جذور تعود إلى ما قبل تأسيس الدولة الإسرائيلية، حين كان معظم اليهود والصهاينة من الأمريكيين يتجهون للحزب الديمقراطي وكانت المنظمات الصهيونية تعتمد على روابطها مع الديمقراطيين المرموقين في إدارة الرئيس والكونجرس، حتى تشكّل المجلس الأمريكي الصهيوني الطارئ عام 1939 كائتلاف بين مجموعات صهيونية مختلفة، وبدأت سياسته في خلق تأييد متجاوز للأحزاب لتأسيس الدولة اليهودية، وقد أصبح الائتلاف بعد تأسيس إسرائيل، المجلس الأمريكي الصهيوني، ثم ما نعرفه اليوم كمجلس العلاقات الأمريكية الإسرائيلية، أيباك AIPAC، عام 1963، وقد عمل أيباك في بداياته بالتنسيق مع مؤتمر المنظمات اليهودية الكبرى، لكنه أصبح منذ الثمانينيات قوة مستقلة بذاتها، وواحدًا من أكبر اللوبيات في واشنطن.
كانت سياسات اللوبي ناجحة بطبيعة الحال على مدار الأعوام الخمسين التالية لتأسيس إسرائيل، والتي دعمت فيها واشنطن إسرائيل على طول الخط باختلاف رؤسائها، حتى أخذ التحول الكبير في طبيعة العلاقات الأمريكية الإسرائيلية يظهر منذ الثمانينيات إلى مطلع القرن الحالي، كانعكاسٍ لتغيُّر وقع في السياسة الداخلية الإسرائيلية، وتغيُّر آخر في السياسة الداخلية الأمريكية، ليعود دعم إسرائيل إلى ما كان عليه في العقود الأولى من القرن العشرين: مسألة مرهونة بالسياسات الحزبية داخل الولايات المتحدة.
صعود الليكود والجمهوريين
كان التحول الإسرائيلي هو نهاية هيمنة حزب العمال على السياسة الإسرائيلية، والتي استمرت منذ تأسيس الدولة حتى عام 1977، ليبدأ صعود حزب الليكود المحافظ القريب من الجمهوريين في سياساته التي اتخذت موقفًا أكثر تشددًا من الفلسطينيين والبلدان العربية، أما التحوّل الأمريكي فكان صعود الجمهوريين بقوة في الولايات المتحدة بعد فوزهم في انتخابات الرئاسة ومجلس الشيوخ عام 1980، ثم فوزهم بمجلسي الشيوخ والنواب معًا عام 1994، ليهيمنوا على سياسة الولايات المتحدة في العقدين الأخيرين من القرن العشرين بشكل شبه كامل.
دفعت هذه التغيّرات بأيباك، والذي طالما عمل عن قرب مع الديمقراطيين لتحقيق أهدافه، إلى استراتيجية جديدة هي إبراز الشخصيات المحافظة القريبة من الجمهوريين والليكود، وهو اتجاه بدأ عام 1982، حين اختارت أيباك رئيسًا جمهوريًا لها، ثم قررت رفد مديرها التنفيذي، إدوارد كينيدي، الأخ الأصغر للرئيس الراحل جون إف كينيدي، وواحد من أبرز البرلمانيين الأمريكيين في القرن العشرين، لتعيّن بدلًا منه هاورد كور الجمهوري عام 1995، والذي لا يزال موجودًا في منصبه إلى اليوم.
ظهرت أول بوادر انقسام حزبي حيال إسرائيل في التسعينيات، إذ عارض الجمهوريون وبعض قيادات أيباك اتفاق أوسلو الذي رعاه الرئيس بيل كلينتون بين رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين ورئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات، كما مرر الجمهوريون في الكونجرس قانون السفارة الأمريكية في القدس، والذي تم بمقتضاه نقل السفارة من تل أبيب إلى القدس، والتأكيد على اعتبار القدس مدينة واحدة غير منقسمة تابعة لإسرائيل.
بعد اغتيال رابين عام 1995، وقف الجمهوريون خلف نتنياهو، والذي عيّن الجمهوري أرثر فينكلشتاين مديرًا لحملته الانتخابية عام 1996، بينما وقف كلينتون إلى جانب شيمون بيريز المرشّح ضده، بل واستضافه في البيت الأبيض قبل شهر واحد من الانتخابات للتوقيع على اتفاقية دفاعية، وكانت تلك أول مرة يعبر فيها طرفا السياسة الأمريكية عن هذه الانحيازات بوضوح، ويقرر كل منهما دعم فريق بعينه في الداخل الإسرائيلي، وهو ما تكرر الأمر مجددًا عام 1999، إذ سافر مدير حملة بيل كلينتون السابق، جيمز كارفيل، مع المسؤول عن استطلاعات الرأي في الحملة، ستانلي جرينبِرج، لدعم حزب العمال في الانتخابات الإسرائيلية ومرشحه إيهود باراك بوجه نتنياهو.
طوال التسعينيات، كان الدعم اليهودي في الرأي العام الأمريكي لا يزال قادمًا من الديمقراطيين اليهود رغم صعود الجمهوريين، حتى توقف ذلك أيضًا بمطلع القرن الجديد بعد حادثة 11 سبتمبر، والتي استغلها الإنجيليون من الجمهوريين لتدشين جبهة جديدة داعمة لإسرائيل بوجه مسيحي محافظ، مستغلين العداء المنتشر حينها للإسلام المتطرف، وهي جبهة كانت تميل بالطبع إلى حزب الليكود وأحزاب اليمين الديني الإسرائيلية بشكل عام، وكانت تعارض بشكل قاطع قيام دولة فلسطينية، وقامت في تلك الفترة بتمرير الكثير من القوانين والقرارات التي سمحت لإسرائيل بالهيمنة على الضفة الغربية، وقطعت الدعم الأمريكي عن السلطة الفلسطينية بعد انضماها للمحكمة الجنائية الدولية.
تبنّى نتنياهو بالطبع هذا التوجه الجمهوري الجديد في العلاقات الأمريكية الإسرائيلية، فقام عام 2008 بتعيين رون ديرمر، مستشار جمهوري سابق، مستشاره الرئيسي، ثم في عام 2013، سفيرًا لإسرائيل في واشنطن، وكان ديرمر هو من رتب لزيارة المرشح الجمهوري ميت رومني لإسرائيل أثناء الانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 2012، بالإضافة إلى الترتيب لخطاب نتنياهو الأخير في الكونجرس.
تباعًا، وكنتيجة منطقية لهذا التحوّل “الحزبي” في العلاقة بين الطرفين، لم يعد دعم الديمقراطيين لإسرائيل كما كان في السابق، حيث أسس جيريمي بِن أمي، أحد مساعدي كلينتون السابقين، اللوبي اليهودي المناصر للسلام جيه ستريت J Street لمنافسة أيباك، وهو اللوبي الذي يعارض نتنياهو بوضوح، ووقف مؤخرًا مع الرئيس أوباما وطالب بإلغاء زيارته الأخيرة، ويتنامى حضوره بين الديمقراطيين واليهود منهم بالتحديد.
المسألة الإيرانية والتوتر الأمريكي الإسرائيلي
نتيجة لتحوّل رؤية واشنطن تجاه إيران، وسياسة الاحتواء الجديدة التي دفعتها إلى المفاوضات المباشرة حيال برنامجها النووي، بدلًا من مواجهتها كما في السابق، لا سيما وواشنطن في حاجة إلى دور إيراني الآن لمواجهة الكثير من الأعداء المشتركين في العراق وأفغانستان، أصبحت هناك هوة كبيرة بينها وبين تل أبيب، ورُغم أن الدعم المادي لإسرائيل عن طريق المعونات لا يزال ساريًا، ولا يزال الديمقراطيون والجمهورين يدعمونه على حد سواء، فإن اتفاق جنيف الذي توصلت له القوى الدولية مع إيران قد وضع الدعم الأمريكي لإسرائيل في مقتل، ليصبح مرهونًا بالاتجاهات الحزبية؛ فالديمقراطيون يدعمون الاتفاق والجمهوريون مع أنصار الليكود يعارضونه تضامنًا مع موقف نتنياهو.
على سبيل المثال، أثناء المفاوضات مع إيران عام 2013، كان أيباك قد ضغط لتمرير قانون يُجبر إيران على الالتزام بشروط معيّنة لإنهاء العقوبات، وهي شروط إسرائيلية بطبيعة الحال، ويُلزِم الولايات المتحدة بالوقوف مع إسرائيل حال قررت مهاجمة إيران عسكريًا، وكان مشروع القانون الذي تبناه السيناتور الجمهوري مارك كيرك، والديمقراطي روبرت مِنِندِز، قد حصل على تأييد 43 من أصل 45 جمهوريًا، و16 فقط من أصل 55 ديمقراطيًا، وهو قانون هدد أوباما باستخدام الفيتو الرئاسي ضده إذا ما تم تمريره، مما أدى إلى تراجع مِنِندِز عن طرحه للتصويت.
مرة أخرى، في يناير الماضي، طرح كيرك ومِنِندِز مشروعًا بعقوبات جديدة إذا ما نجحت الأطراف المختلفة في الوصول لاتفاق مع إيران قبل الموعد النهائي في 24 مارس، ولكن تسعة من الديمقراطيين المرموقين مع مِنِندِز قرروا تأجيل التصويت عليه نظرًا لعدم اتفاقه مع سياسات أوباما، وهو ما دفع السيناتور بوب كوركر، الرئيس الجمهوري للجنة العلاقات الخارجية، إلى تقديم مشروع يُلزِم أوباما بتقديم أي اتفاق يتوصّل له مع إيران إلى مجلس الشيوخ للموافقة عليه، وأن يمتنع عن رفع العقوبات على إيران لمدة 60 يومًا، وهو قانون عدد أوباما مرة أخرى باستخدام الفيتو ضده.
في الواقع، إذا ما توصّلت الأطراف الدولية مع إيران إلى اتفاق نهائي، فإن مجلس الشيوخ لا يحق له التصويت عليه بالقبول أو الرفض، إلا أن الرئيس لا يستطيع أن يُنهي العقوبات الاقتصادية على إيران بشكل نهائي ودائم دون الحصول على دعم الكونجرس لهذه الخطوة.
كل ذلك، والكثير مما على مدار السنوات القليلة الماضية، يُنذِر بوضوح بطبيعة جديدة للعلاقات الأمريكية الإسرائيلية، تتسم بعلاقة وطيدة بين الليكود والجمهوريين، أكثر منها علاقة وطيدة بين البلدين متجاوزة للأحزاب، وهو ما يعني أن التحالف بين البلدين سيكون مرهونًا في الفترة المقبلة بقوة الجمهوريين من عدمها، وسيخضع لتقلّبات كثيرة تبعًا للتحولات في الساحة السياسية الأمريكية، بعد أن كان مستقلًا في السابق عن هذه الخلافات الحزبية، وهو اتجاه سيزداد بالطبع إذ ما نجح الليكود في الفوز بالانتخابات الإسرائيلية المُقبلة وظل نتنياهو رئيسًا للوزراء، وهو ما يعني ببساطة أن التحالف الاستراتيجي لم يعد موجودًا، وأنه لا يعدو اليوم مجرد علاقة قوية تاريخية، تآكلت لتقتصر على حزبين هنا وهناك.