عندما خرجنا في الأسابيع الأولى نهتف للحرية، طلبًا للعدل وأملاً في رفع الظلم، كان الأمل حليفنا في كل زاوية وحارة، كنا نرى النصر كلما هرب من أمامنا عنصر الأمن أو حفظ النظام، يتقدم الجمع خطوة، فيخيل لنا أننا اختصرنا الزمان، وأن أصابعنا تكاد تلامس النصر، وأن صدى أصواتنا يرتد من على صرحه.
لم يكن يحدونا إلى الظفر سوى تلك القيم السامية، نرى فيها خلاصنا، ونعتقد أنها الأساس الذي قد يُبنى عليه ما نطمح إليه من حياة كريمة وبلد عزيز.
كان ذلك أجمل ما في الثورة، فلا تثمر الثورة ما لم تبن على أساس كهذا، لأن القضية ببساطة لا تتوقف هنا، فالثورة وما قبلها وما بعدها مراحل مرتبطة ارتباطًا وثيقًا لا ينفصل، فالشعار الذي انطلقت على أصدائه الثورة هو الشعار التي سيُبنى عليه المجتمع فيما بعد، والشعار الذي حشد له الشعب في بدء الثورة هو الشعار الذي سيحشد عليه في عملية البناء القادمة.
شعارات الحرية والعدالة والمساواة هي التي حشدت جميع أطياف الشعب السوري على اختلافاتهم الفكرية والأيديولوجية في بوتقة واحدة في مطلع الثورة، حيث مثلت تلك الشعارات مرادهم الحقيقي، واستطاعت أن تجمعهم لوضوحها وعدم اختلافهم على صوابها، وليست تلك شعارات كذابة كما قد يتوهم أحدهم، إنها لسان حال الشعب ويصدقها أو يكذبها أن يقوموا لانتزاعها بأيديهم، أو يكتفوا بالهتاف لها متأملين من أحدهم أن يتكرم عليهم بها.
الثورة لا تكون إلا ثورة شعب، ويجب أن تتكلم بلسان الشعب، وما إن تدخلها المشاريع والأيديولوجيات حتى تقسمها وتحرفها عن مسارها، فلا يوجد مشروع يستطيع احتواء الشعب، كما لا توجد أيديولوجيا قادرة على إقناع الجميع بأفكارها، الوطن لا يُبنى على مشاريع مؤدلجة، وإنما يتحرر بتلك القيم الإنسانية الشاملة، ثم تأتي المنافسة بين المشاريع والأفكار وأيهما قادر على تجسيد تلك القيم على الأرض بشكل أقوى وأفضل.
المشاريع القائمة اليوم على الأرض السورية بشعاراتها المتباعدة لا تعدوا أن تكون مشاريع مزقت الشعب السوري وحرفت ثورته عن مسارها وشتتت جهوده وتكاد تهدر تضحياته، فإنها مهما تكن كبيرة العدد عظيمة الطموح، فلن تبلغ ما تبلغه ثورة شعب كامل شملت الثورة كل فئاته، وهي نتيجة إما لسوء فهم أو سوء نية.
الخطورة في غياب تلك الشعارات القيمية الواضحة هو سهولة استبدالها بشعارات مفرقة مقسمة، قد يمثل بعض منها الشعب السوري ولكنه – وفي أحسن أحواله – يستثني الآخر، ونحن لا نكاد نسمع في الفترة الأخيرة من يسعى إلى الحرية للجميع، أو يطالب بالعدل دون تمييز، أو يعمل على رفع الظلم عن غيره كما يجتهد في ذلك لنفسه، لقد استعجل الجميع قطف الثمار دون أن يكترثوا حتى بالزرع.
ليس صعبًا أن يحشد الناس على مسائل كالطائفية والقبلية والقومية وربما العرقية، ولكن نتائج ذلك لا يتحملها أحد، فما هذا بجائز في دين الله أو في القانون أو الأخلاق، وعلى الرغم من أنها قد تحسم المعركة لكنها لا تنتج إلا خرابًا على خراب الحرب ودمارًا على دمارها، فليس بعد دمار الإنسان من دمار.
يجب أن تحسب من الآن لحظة النصر، فعند إعلانها ربما تكون الأمور العسكرية في هذه اللحظة محسومة، ولكنها ذات اللحظة التي تكون فيها تراكمات المشاكل الاجتماعية قد ظهرت، وأكوام من العقد الثقافية قد طفت على السطح، والجميع رغم كل ذلك يتطلع إلى ثمار النصر بطريقته، فمن ظن أن النصر غنيمة، سارع إلى نيل حصته منه غير عابئ بغيره، ومن علم أن إعلان النصر هو إعلان لوقف القتل وبدء البناء، بادر إلى أخذ معوله وموقعه وباشر العمل، ولا يتضح ذلك في أذهان الشعب إلا أن نعلن أن غايتنا هي العدل والحرية، ونصرنا حين تتحقق تلك القيم وينعم بها الجميع.