في عدد الثلاثاء من هذا الأسبوع نشرت صحيفة نيويورك تايمز على صفحتها الأولى خبرًا يتناول مشكلة تواجهها هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية السابقة مع الأرشيف الوطني بسبب استخدامها لبريدها الإليكتروني الشخصي في المراسلات الرسمية بصفتها وزيرة الخارجية أثناء فترة توليها للمنصب.
قد يبدو مثل هذا الخبر عاديًا في إطار مناخ الشفافية والمحاسبة الأمريكي المعتاد، لكنه إذا وضع فى إطار التسخين للانتخابات المقبلة سيكون له معنى مختلف كليًا، فمنذ أسابيع قليلة، وقبل الانتخابات بأكثر من عام، تبادلت صحيفتا النيويورك تايمز ووول ستريت جورنال النيران عبر تقارير محرجة لكل من جيب بوش (المرشح المحتمل عن الحزب الجمهوري)، وهيلاري كلينتون (المرشح المحتمل عن الحزب الديمقراطي)، محورها توضيح روابط كلا المرشحين العائلية والمالية وكيفية استغلالهم لها للوصول إلى مقعد الرئاسة.
بإضافة الخبر الأخير عن تعامل هيلاري غير المسؤول مع طرق التواصل في الخارجية ومزجها لما هو شخصي بما هو رسمي؛ فإن الجدل سيتطرق إلى مسألة كفاءة كل مرشح لتولي المنصب، وهي منطقة لن تكون فيها هيلاري سعيدة، خصوصًا إذا استدعى القارئ خبرتها في التعامل مع قضية مقتل السفير الأمريكي في ليبيا التي اتهمها الجمهوريون فيها بعدم المهنية والاستهتار، على الرغم من عنف الخبطات، فمن المتوقع أن تستطيع هيلاري المنافسة على المقعد بسهولة أكبر من جيب بوش الذي عليه أن يتخلص من منافسين أقوياء داخل حزبه أولاً قبل التفرغ لمواجهة كلينتون في النهائيات.
في عدد 14 فبراير 2015 نشرت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية في عددها الأسبوعي مجموعة من خطابات جيب بوش إلى والده جورج بوش عندما كان الأول حاكمًا لفلوريدا والثاني نائبًا للرئيس ثم الرئيس، تضمنت الخطابات طلبات شخصية من جيب من شأنها استغلال نفوذ والده على الحكومة الفيدرالية لتعزيز نفوذ الابن في فلوريدا، عبّرت الطلبات عن نطاق نفوذه على القضايا الداخلية مثل ترشيح أحد أصدقائه كمحامٍ عام في فلوريدا أو القضايا الخارجية مثل طلب التدخل لدى الحكومة الكوبية بشأن أطفال كوبيين محتجزين في الولايات المتحدة، إلى طلبات تتضمن مجرد تحقيق ظهور أكبر في التجمعات الخطابية أو الصور الصحفية لتعزيز حضوره أمام منافسيه في حكم الولاية الجنوبية، هذه الحقائق التاريخية ذات دلالة في هذا التوقيت حيث تحاول الجريدة تنبيه الناخبين إلى دور والد المرشح الرئاسي وعائلته في ارتفاع حظوظه السياسية، يمكن تصديق الجريدة فيما ذكرته في تحقيقها المطول أن هذه الخطابات متاحة للجميع من أرشيف البيت الأبيض، لكن هذا لا يجيب على السؤال الملح: لماذا الآن؟
أتى التحقيق كقذيفة مدوية في معسكر الجمهوريين الذين لم ينتظروا كثيرًا حتى يردوا بمثلها على الديمقراطيين في عدد 19 فبراير 2015 لصحيفة وول ستريت جورنال بتحقيق استقصائي مطول أيضًا يتناول طرق تحايل بيل وهيلاري كلينتون على قوانين الحملات الانتخابية باستخدامهم لمؤسستهم الخيرية كباب خلفي لجمع التبرعات لحملتها الانتخابية القادمة من دول وشخصيات أجنبية، استطاعات الصحيفة تتبع سجلات مؤسسة كلينتون المالية واستخلاص أنها قد استلمت حوالي 26 مليون دولار مباشرة من حوالي 60 شركة كبرى كانت كلينتون تدافع عنهم وتسعى لتخليص مصالحهم عندما كانت وزيرة للخارجية، كذلك، أثناء تولي الوزيرة لمنصبها قامت المؤسسة بجمع أموال لأنشطتها بحوالى 3.2 مليار دولار تبرعت بها 44 شركة من الـ 60 لصالح مشروعات المؤسسة، قائمة طويلة تتصدرها مايكروسوفت، بوينج، اكسون موبيل، وجنرال إليكتريك، فيما تعده الصحيفة مفارقة صارخة لمرشحة يفترض أنها تتبنى برنامجًا يعالج تفاوت الدخول وينادي برفع الضرائب على الأغنياء والشركات إضافة إلى التأكيد على الشفافية والنزاهة التى ترى الصحيفة أنها قيم بعيدة عن المرشحة وممارساتها، لا يخفى التقارب في تواريخ نشر التقارير طبيعة السجال ولا درجة اشتعاله، لكن كيف سيكون التأثير المحتمل لهذه الحملات السوداء عليهما وعلى باقي المرشحين في السباق الرئاسي؟
طالما لم يتم اتهام أي منهما بخرق أحد القوانين فمن غير المتوقع أن تكون هناك تأثيرات كبرى على المسار السياسي لكلاهما، المجتمع الأمريكي منقسم بالفعل ولا يتوقع أن تحدث تحولات كبرى في سلوك الناخبين، ستظل المعركة حامية واتجاهات التصويت مستقرة حتى يحدث أمر جلل، وهو ما لم نره حتى الآن.
في ظل هذ المناخ المنقسم سيجري تفسير الأحداث وفقًا لرؤية كل طرف، فقبل مرور ساعات على القضية الأخيرة لهيلارى المتعلقة باستخدام بريدها الشخصي، بادر الكثيرون بالدفاع عنها بالتنقيب في تاريخ الجمهوريين في استخدام بريدهم الشخصي وتوصلوا إلى أن كولن باول، وزير خارجية بوش من 2005 إلى 2011، كان هو أيضًا يستخدم بريده الإليكتروني الشخصي في المراسلات الرسمية، من كل تفاصيل تحقيق النيويورك تايمز تبرز حقيقة هامة وهي أن هيلاري كلينتون كانت قد تعاونت بالفعل مع وزارة الخارجية لتسليمهم كل المراسلات الرسمية عبر بريدها الخاص منذ أكتوبر الماضي، هذه التفصيلة مثيرة للاهتمام من ناحية أنه برغم قِدم القضية وعدم وجود ما يدين كلينتون فيها قانونيًا بل وتعاونها مع الجهات المختصة، إلا أن النيويورك تايمز أبرزتها في صفحتها الأولى: لماذا الآن إذًا؟
هناك تفسيران محتملان لهذا التصرف؛ الأول هو تفسير متعلق بالاحتراف والمهنية، والثاني له نفس تآمري سياسي، فمن المعروف أن توجهات النيويورك تايمز ديمقراطية ومدافعة عن حقوق الإنسان والحريات العامة والمنحازة ضمنًا للحزب الديمقراطي ولذلك كان مفهومًا هجومها على جيب بوش الجمهوري، هذا في مقابل توجهات الوول ستريت جورنال المحافظة والمنحازة ضمنًا للجمهوريين وهو ما يجعلها منطقيًا تعادي هيلاري كلينتون، هذا لا يخرق المهنية في شيء مادامت الصحيفتان تلتزمان الدقة في المحتوى، لكن ماذا عن التوازن في التناول؟ هنا، ربما قررت النيويورك تايمز موازنة هجومها على جيب بوش بالهجوم على كلينتون أيضًا مراعاة لتنوع قراءها ولوقف انجرارها لمعركة تريد تجنبها، التفسير المؤامراتي للأمر مرتبط باتفاق بين ملاك الصحيفتين على وقف حرب التعليقات، لكن هذا التفسير، بالإضافة إلى غياب أي دلائل على صحته، لا يفسر لماذا قامت النيويورك تايمز بالهجوم على هيلاري مؤخرًا، يبدو أنه لا مفر من قبول تفسير المهنية والاحتراف الآن، حتى يثبت العكس.
الحقيقة الوحيدة التى تؤكدها الحملات الصحفية المتبادلة أن كلاهما محظوظ، وكلاهما أيضا غامض. من المتوقع أن تتنافس هيلارى في التصفيات الأولية داخل الحزب الديمقراطي مع أربعة آخرين أهمهم نائب الرئيس الحالى جو بايدن، وهو لكثيرينَ لن يكون مختلفاً جذريا عن كلينتون. بينما من المتوقع أن يتنافس جيب بوش مع عشرين آخرين داخل الحزب الجمهورى أهمهم راند بول (السيناتور عن كنتاكي) وتيد كروز (حاكم تكساس) وكرس كرستي (حاكم نيوجيرسي) وهي منافسة غير مضمونه النتائج في ضوء التفتت الشديد للأصوات والتباين في البرامج والتوجهات. من المتوقع أن ينتج التفتيت الكبير لأصوات الجمهوريين مرشحاً غير مقنع بالنسبة لغالبية القاعدة الجمهورية، وهو ما سيكون في مصلحة المرشح الديمقراطى ومحفزا للناخب الديمقراطى الغاضب من سيطرة الجمهوريين على المجلسين التشريعيين ومن مواقفهم المعطلة للحكومة في السنوات الماضية. كل هذا لا يعني ضماناً لأحد، فما زال السباق فى أوله والكل مترقب.
نُشر هذا المقال لأول مرة في صحيفة التقرير