لم أطلع على محضر اجتماعات العاهل السعودي بالرئيسين التركي والمصري، ولكني مستعد لأن أجزم بأن “الإخوان المسلمين” لم يُذكروا أبدًا خلال الساعات التي أمضاها كلّ من الرئيسين مع الملك سلمان، كثير من الإعلاميين والمعلِّقين السياسيين كانت لهم وجهة نظر أخرى، وانقسموا – على طريقة محللي كرة القدم – كل ينحاز إلى فريقه المفضل، بين قائل إن الرياض بصدد فتح صفحة جديدة مع الحركة العابرة للحدود، وآخر يحذّر من خطر ذلك، بل ذهب رجل أعمال إماراتي شهير إلى أن نشر مقالة على نصف صفحة في صحيفة كويتية، دعا فيها بعبارات “حادة” السعودية إلى ألا تفرش السجاد الأحمر للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، قائلاً: “إنه لا يستحق ذلك بحكم علاقاته بالإخوان”، بالطبع، لم تلتفت المملكة إلى مثل هذا الكلام، وفرشت السجاد الأحمر، وفتحت صفحة تعاون واسعة مع الأتراك.
حالة الشرق العربي المتهاوي لم تعد تحتمل هذه الصراعات العبثية، بل يجب إخراج “عنصر” الإخوان وكل صاحب هوى أو أطماع ضيّقة من معادلة صناعة موقف فاعل لوقف حال التداعي هذه، والحق أن إقحام عنصر الإخوان في خطط مواجهة التداعي قبل عامين زاد من تفاقم الحال، وأدى إصرار بعضهم على إخراجهم من معادلات التغيير إلى تعطيل التعاون السعودي – التركي، وهو التعاون الوحيد القادر على وقف التداعي بحكم استقرار البلدين وقوّتهما، كما أدى إلى تفاقم الأوضاع في ليبيا واليمن وسورية، وتهديد الاستقرار في غيرها، بينما كان يجب النظر إلى الإخوان على أنهم مجرد طرف بين أطراف، وإعطاؤهم حجمهم الطبيعي من دون مبالغة ولا تقليل، يفوزون في انتخابات ويخسرون في أخرى، لا أكثر ولا أقل، الأهم منهم هي الأوطان واستقرارها مع استقرار التحوّل السلمي من خلال الديموقراطية ورعايتها، وإن كانت عرجاء، فالبديل عنها هو حرب قبيحة دميمة نراها في سورية والعراق وليبيا، ونخشاها في اليمن.
التعاون السعودي – التركي ضروري للمواجهة المقبلة، وهو في مصلحة مصر الدولة والوطن في نهاية المطاف، وليست المملكة في معرض الاختيار بينها وبين تركيا، فهي لن تنتقل من حال العداء للإخوان إلى التحالف معهم، كما أنها لن تنتقل من حال التحالف و”الشيك على بياض”، وفق وصف الزميل في هذه الصحيفة الدكتور خالد الدخيل في مقالته الأسبوع الماضي إلى التخلّي عنهم، إنما ستكون في منزلة وسط بين المنازل الأربعة السابقة الذكر.
الهوس بموضوع الإخوان شغلنا عن المهمّ والأهم، كتب تُطبع، وكتّاب يُستأجرون، وأموال هائلة تهدر، ومؤتمرات تعقد، ومؤامرات تحاك، وفضائيات وصحافة تتخلى عن كل قيم المهنية وتتحوّل إلى إعلام حملاتي يقسم المجتمع ويشكّك الأخ في أخيه، محاكمة نوايا وحالة استقطاب بغيضة امتدت حتى شملت المجتمع الواحد، مجلس التعاون الذي نفخر به والبقية الباقية من إنجازات أهل الخليج، كاد يفرط بسبب هذا الهوس، وضاعت خلال هذا اللجج أصوات العقلاء والحكماء الذين تسلّط عليهم الإعلام الحملاتي بمكارثية بغيضة تلوح لهم بالأصابع والتقارير السرية.
في الوقت نفسه، كان “داعش” كما يقول في شعاره “باقية وتتمدد”، وبالفعل تمدّد فوق معظم العراق الأوسط، والشرق السوري، واكتسح مناطق الثوار السوريين الذين استبسلوا في تخليصها من يد النظام الجائر، وتمدّد معه رئيس النظام السوري بشار الأسد بعدما كان يترنح ويستعد العالم لاستبداله بحكم ديموقراطي في سورية، أنصار داعش اغتنموا فرصة الحرب على الإخوان في ليبيا، فتمددوا من كهوف في الجبل الأخضر إلى كل درنة ثم إلى سرت وجيوب عدة في ليبيا الغارقة في الفوضى، وها هم الآن يقتتلون مع قوات “فجر ليبيا” في منطقة الهلال النفطي، في وقت يزعم من بدأ الحرب هناك أنه والإخوان نسيج واحد، لم يستمع أحد إلى خبير يعرف جيدًا أن الإخوان مجرد فصيل وسط غابة من القوى القبلية والسياسية في ليبيا، وأنهم يستحيل أن يحكموا ليبيا وحدهم، وفي الوقت نفسه لا يجوز في زمن ما بعد القذافي أن يهمّشوا أيضًا.
القليل الذي تسرّب من لقاءات خادم الحرمين الملك سلمان ببضعة عشر زعيمًا، يشير إلى أن محور اللقاءات أكبر من مسألة هامشية مثل الإخوان، وإنما ثمة إعداد لسياسة شاملة لوقف حالة التداعي الجارية وبناء شرق عربي جديد بمشاركة القوى الفاعلة في المنطقة والتي قرأت المشهد في شكل صحيح، وستظهر تفاصيلها خلال الأيام المقبلة، وستشهد أيضًا إعادة ترتيب بيت السياسة الخارجية السعودية.
من المعلومات القليلة والموثوق بها التي تسرّبت، ما صرّح به مستشار الرئيس التركي، الذي رافقه في الزيارة، إبراهيم كالين، وهو إسلامي معروف، قال إن العاهل السعودي والرئيس التركي اتفقا على تفعيل العلاقات بين البلدين في خمسة محاور: سياسية، اقتصادية، دفاعية، أمنية، وشعبية، لكن الأهم هو اتفاقهما على فتح قناة اتصال مباشرة بينهما بعيدة عن “تهويل الإعلام وإثارته” ، وفق قول أستاذ الفلسفة الذي تحوّل إلى سياسي، وفي الأخيرة اتفق معه، وإن كنت إعلاميًا، فإن الإعلام في المرحلة السابقة لم يخدم القضايا الكلية.
نُشر هذا المقال لأول مرة في الحياة