في نوفمبر الماضي، نشرت مجلة شبيجل الألمانية أنباءً من مصدر حكومي في ألمانيا عن القلق المتزايد في برلين من سياسات روسيا المعادية لأوروبا في البلقان، لاسيما في صربيا التي يتزايد فيها النفوذ الروسي عبر التعاون العسكري وصادرات الغاز، وتُعَد البلد المركزي بين كافة دول البلقان الغربي، والوريث الأساسي لجمهورية يوغوسلافيا بعد تفككها إلى سبع دول لم تنضم منها سوى اثنتين للاتحاد الأوروبي، كرواتيا وسلوفينيا، في حين لاتزال البقية إما تتفاوض للدخول، مثل صربيا، أو تقوم بتطبيق بعض المعايير الأوروبية قبل أن تبدأ رسميًا التقديم للعضوية، مثل البوسنة.
“بوتين يريد أن يضع البلقان تحت ضغط يسمح له بإجبارها على التخلي عن عضوية الاتحاد الأوروبي، أو التأثير على قرارات أوروبا بشكل يفيد روسيا إذا ما أصبحت عضوًا عبر التغلغل السياسي والاقتصادي في هذه البلدان”،هكذا صرح السياسي الألماني إلمار بروك، عضو الاتحاد المسيحي الديمقراطي الحاكم، بعد أيام قليلة من رفض صربيا المشاركة في العقوبات الاقتصادية الجديدة على روسيا، التي سببتها الأزمة الأوكرانية، حيث قال وزير خارجية صربيا، إيفان مركيتش، “الانضمام للاتحاد الأوروبي واحدة من أولوياتنا، ولكن صربيا لا تعتبره اختيارًا بين الشرق والغرب، صربيا لن تتخذ أي خطوات عدوانية تجاه روسيا، وهو أمر يدركه كل مواطن صربي”.
هكذا يشتد الصراع على البلقان، الواقعة على مفترق الطرق بين قلب أوروبا وروسيا وتركيا واليونان والعالم العربي، وهو ما جعلها اليوم واحدة من أكثر مناطق العالم ثراءً وتنوعًا من ناحية اللغات والأديان والمذاهب والتأثيرات الثقافية، والتي يراها المسافر إلى هناك حين يتذوق الطعام العربي والتركي واليوناني، وحين يستمع إلى أنغام موسيقى التوربوفولك Turbofolk البلقانية التي تمزج الغربي بالشرقي، وتحاول بالطبع منذ تسعينيات القرن الماضي أن تجنح أكثر للغربي، وهي للمستمع العربي ربما قريبة جدًا من الأغاني التركية.
هنا، حيث وطأت أقدام اليونانيين والرومان، ثم العثمانيين والنازيين، تجري حرب باردة بين قوة موسكو المتنامية والسوق الأوروبية، وهي حرب تعددت أطرافها مؤخرًا، إذ تشمل تركيا العائدة بعد أكثر من قرن إلى واحدة من أبرز مناطق نفوذها العثماني، والتي تعتمد على حلفاء مثل البوسنة وألبانيا وكوسوفو ذوات الأغلبية المسلمة، وهي تارة تعمل بالتناغم مع سياسات الاتحاد الأوربي لموازنة النفوذ الروسي، باعتبارها عضو بالناتو، وتارة تعمل بشكل منفرد لتعزيز نفوذها الخاص، خاصة في السنوات الأخيرة التي تشهد تراجعًا للنفوذ الأوروبي وبرودًا في العلاقات بين أنقرة وبرلين.
بالإضافة إلى الأتراك، أصبح العرب أيضًا جزءًا من الصورة، ولكن ليس عن طريق البلدان ذات الدور التاريخي في شرق المتوسط والبلقان، مثل مصر، ولكن عن طريق بلدان الخليج، التي تستخدم أموالها واستثماراتها لتعزيز نفوذها في بلدان البلقان المختلفة، إذ تشهد المنطقة تناميًا للدور القطري والإماراتي، وهو دور لايبدو أنه يصب في صالح أي سياسة عربية مستقلة، بل في صالح أطراف مختلفة، بل ومتعارضة، يعمل القطريون والإماراتيون بالتنسيق مع كل منها مقابل تعزيز تلك الأطراف لقوتهم الإقليمية في وجه الآخر، في إطار الصراع السياسي والاقتصادي المحتدم بين الدوحة وأبو ظبي.
ماذا تفعل الإمارات في صربيا؟
في مارس 2013، وفي نفس الشهر الذي افتُتِحَت فيه السفارة الإماراتية في العاصمة الصربية بلغراد، استحوذت شركة طيران الاتحاد الإماراتية على 49% من أسهم شركة الخطوط الجوية اليوغوسلافية JAT Airways المملوكة للدولة الصربية، لتتمتّع بحقوق استثنائية في إدارة الشركة لمدة خمس سنوات، ولتصبح الشركة بعد تجديدها في نفس العام طيران صربيا Air Serbia، وهو اتفاق تبعته مذكرات تفاهم ومفاوضات لمساهمة إماراتية كبيرة في الاقتصاد الصربي، ليس أقلها قرض بقيمة مليار دولار، أعلنت عنه أبو ظبي في مارس 2014، لمساعدة الاقتصاد الصربي المأزوم، والذي يحاول التقليل من العجز في ميزانيته ودفع ديونه.
شملت الاتفاقات بين الطرفين صفقات في مجال التسليح، إذ تم توقيع اتفاق بقيمة 200 مليون دولار بين شركة السلاح الصربية “يوغو إمبورت” Yugoimport SDPR، وشركة الإمارات القابضة للبحوث والتكنولوجيا المتطورة، وهو اتفاق صرّحت مصادر مطلعة لموقع ميدل إيست آي بأنه مرتبط بالنظام الصاروخي الصربي “ألاس” (نظام الهجوم المتطور الخفيف Advanced Light Attack System) المضاد للدبابات، والذي تطمح أبو ظبي للحصول عليه.
تُعَد الإمارات رابع أكبر مستورد للسلاح في العالم، طبقًا لمعهد ستوكهولم لبحوث السلام العالمي، حيث تخصص حوالي 15 – 20 مليار دولار سنويًا لميزانيتها العسكرية، وهو ما يجعلها الدولة الأولى في العالم من ناحية الإنفاق العسكري لكل مواطن (أي إذ تم تقسيم الإنفاق العسكري على التعداد السكاني)، وهو اهتمام بالمجال العسكري يُعتَبَر موجهًا بالأساس لإيران، التي يزداد نفوذها توسعًا مؤخرًا، وتُعَد القوة العسكرية الأولى بين دول الخليج، ولكنها لا تمتلك التكنولوجيا المتطورة التي يُتاح للإماراتيين الحصول عليها من حلفائهم الأمريكيين والأوروبيين.
جدير بالذكر هنا أن صربيا تتمتع بعلاقات عسكرية قوية مع إسرائيل، وهي واحدة من أكبر مورّدي السلاح لها، وكانت إسرائيل قد زوّدت الصرب بالسلاح أثناء الصراع مع البوشناق في التسعينيات، ورفضت التصويت لصالح قصف الناتو للصرب بعد مذابحهم، كما اقتربت من بلغراد على خلفية التوتر الأخير مع تركيا، والتي تدعم الموقف الأوروبي الأقرب للبوسنة وكوسوفو، إذ قام البلدان بإلغاء التأشيرة بينهما عام 2012، بالإضافة إلى وجود قوي للشركات الإسرائيلية في الاقتصاد الصربي يفوق المليار دولار، وهي علاقة ملفتة بالنظر لكون الإمارات على صلة أيضًا بإسرائيل، فعلى عكس السعودية التي تتحفظ في التعامل مع تل أبيب رغم مصلحتهما المشتركة في احتواء طهران، تملك أبو ظبي تعاونًا أمنيًا معها خلف الستار، إذ تعاون الطرفان عبر شركاتهما الأمنية في تدشين نظام أمن ومراقبة بمدينة أبو ظبي عُرِف باسم عين الصقر Falcon Eye بقيمة 600 مليون دولار، بالإضافة لمشاريع أخرى لحماية منشآت النفط وصلت قيمتها لأكثر من 800 مليون دولار.
كالعادة، وعلى هامش استثماراتها الضخمة، ستبني شركات الإمارات المهووسة بالعقارات برجًا بطول 180 مترًا في قلب العاصمة الصربية، هو برج بلغراد، والذي سيكون جزءًا من مشروع “بلغراد على الماء،”، الذي يشمل مركزًا تجاريًا ضخمًا على ضفاف نهر سابا Sava، وستبلغ تكلفته على الأقل 2.5 مليون يورو.
لماذا تهتم أبو ظبي بمنطقة البلقان؟ قد يقول قائل إن التواجد الإماراتي هناك جزء من رغبة قياداتها في التوسع اقتصاديًا، والبحث عن نفوذ في أسواق جديدة، بيد أن الصراع الجاري حاليًا في المنطقة، وفقر معظم بلادها النسبي مع صغر حجم سوقها، يجعل من هذه الحجة غير منطقية، كما قالت إحدى المصادر المطلعة، إذ يبدو بوضوح أن الاستثمارات الإماراتية تصب لصالح واحدة من اثنين: إما المحاولات الإسرائيلية احتواء الأتراك عن طريق غريمهم الصربي، لاسيما وأن الإمارات واحدة من أقرب الدول العربية إلى إسرائيل، وإما المحاولات الأمريكية تطويق النفوذ الروسي عن طريق رأس المال الإماراتي، في مقابل تزويده بما يريد بمواجهة إيران، أو ربما كليهما في آن واحد.
قطر والإستراتيجية التركية في البلقان
“إذا كان طيران الاتحاد قد حصل على 49٪ من طيران صربيا، فلما لا تفعل الخطوط الجوية القطرية الشيء نفسه هنا.. إننا نتمنى أن يفكر القطريون في الاستثمار في خطوط أدريا الجوية Adria Airways، دون الإخلال بمعايير الاتحاد الأوربي،” هكذا تحدث ألِس تسانتاروتّي، المسؤول بوزارة التنمية الاقتصادية والتكنولوجيا بسلوفينيا، بعد اجتماع بين الرئيس السلوفيني بوروت باهور والأمير تميم بن حمد الثاني أمير قطر في العاصمة القطرية الدوحة.
في نفس الشهر، كان تميم قد استقبل في الدوحة أيضًا الرئيس المقدوني جيورجي إيفانوف، وناقش معه تعزيز التعاون الاقتصادي عبر ضخ استثمارات قطرية إلى بلاده، والتي تعاني من عُزلة نسبية نتيجة اعتراض اليونان على اسمها، إذ يُعَد مقدونيا اسم واحدة من الولايات الشمالية في اليونان، والتي تتهم أثينا دولة مقدونيا بالسعي للتغلغل فيها، كما افتتحت قطر سفارتها في صربيا في مطلع فبراير، بعد زيارة مسؤول قطري لبلغراد في يناير، التقى فيها مع نائب رئيس الوزراء الصربي، رسيم ليايتش، “نتوقع قريبًا جدًا زيارة رسمية من صندوق الاستثمار القطري، والذي نخطط لتقديم مشروعات له في البنية التحتية والطاقة”.
ليس هذا النشاط المكثف لقطر في البلقان في مطلع العام الجديد بمستغرب، بالنظر للزيارة المهمة التي قام بها الأمير تميم إلى أنقرة في ديسمبر 2014، والتي شملت تأسيس مجلس إستراتيجي مشترك بين البلدين، إذ يبدو أن تركيا تعتزم توسيع نطاق تحالفها مع قطر ليشمل البلقان إلى جانب المنطقة العربية، كما تهدف قطر من ناحيتها إلى تعزيز قوتها في مواجهة الإمارات، لاسيما في البلقان، المسرح الجديد للصراع بين البلدين، وبطبيعة الحال، فإن الحصول على دعم تركيا، ذات الدور الكبير والتاريخي في البلقان، سيعطي قطر قدرة أكبر على منافسة الإمارات.
لماذا تحتاج تركيا إلى قطر، البلد الصغير، في منطقة بعيدة نوعًا ما عن الخليج؟ تدرك تركيا أنها لا يمكن أن تحتوي الدور الروسي في البلقان وحدها، وهو غريم تاريخي لها منذ قرون في تلك المنطقة، فالاقتصاد الروسي هو حوالي ضعف نظيره التركي، كما أن الغاز والنفط، وباستثناء الأزمة الحالية، يعطيان روسيا سيولة مالية تسمح لها بالتأثير في المنطقة بشكل أكبر، مما يعني أن تركيا تحتاج في تلك المنطقة إما إلى الالتزام التام بالخط الأوروبي، أو البحث عن شريك يستطيع ضخ الأموال بشكل أيسر وأكبر، وهو ما يبدو أنها وجدته في قطر كشريك إقليمي.
سيتيح هذا التعاون التركي القطري لأنقرة مساحة أكبر للتحرك بعيدًا عن أوربا، بعد أن كانت تعتمد عليها بشكل كامل حتى وقت قريب في ترجيح الكفة لصالح البوسنة وكوسوفو، وأيضًا لصالح كرواتيا وسلوفينيا الأقرب إلى أنقرة من صربيا، كما احتاجته لتحقيق التوازن بين دورها ودور اليونان، وهما غريمان أيضًا في منطقة البلقان، وإن كانت اليونان حاليًا في موقع لا يسمح لها بلعب دور كبير نظرًا لأزمتها الاقتصادية.
جدير بالذكر هنا أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، كان قد زار جمهورية شمال قبرص التركية وأذربيجان بُعَيد توليه منصبه، وهو تقليد تركي رسمي يتبعه كافة رؤساء تركيا لتوطيد العلاقات مع الشعوب التركية الموجودة في البلدين، ثم تبع هاتين الزيارتين مباشرة بزيارة إلى العاصمة القطرية، لتكون أول محطة له من اختياره، في دلالة على أهمية قطر المتزايدة للإستراتيجية التركية، ليس في الشرق الأوسط على ما يبدو من الآن وصاعدًا، بل وفي البلقان أيضًا.