ترجمة وتحرير نون بوست
هذا ليس أستاذي في الجغرافيا، أو بشكل أدق، أنا لا أتذكره بهذا الشكل إطلاقًا، لا أتذكره كما صورته سلسلة الصور التي نشرتها صحيفة ديلي ميل البريطانية وصحف أخرى، والتي ظهر فيها حماد الحسنات ممدًا في أحد المساجد، ويحيط بجثته الهامدة مجموعة من مقاتلي حماس، في الوقت الذي توافد فيه المصلون لأداء صلاة الميت قبل دفن الحسنات مع بندقية تعانق صدره.
تم دفن الحسنات مع اللاجئين في مقبرة مخيم النصيرات للاجئين وسط قطاع غزة، حيث توفي في 2 مارس عن سن يناهز الـ 80 عامًا.
“حماد الحسنات الذي شارك في تأسيس الجماعة الإرهابية حماس في 14 ديسمبر من عام 1987″، كتبت الصحيفة البريطانية الشعبية للتعريف بالزعيم الفلسطيني الأسود، وأنا أقول هنا “الأسود”، رغم أن لون البشرة لم يكن أبدًا قضية تستحق المناقشة في السياق السياسي لغزة الفلسطينية.
الحسنات كانت تجمعه علاقات طيبة مع أفريقيا، وبالأخص مع تنزانيا وجبل كليمنجارو، وأنا أعرف ذلك، لأنه كان أستاذي في الجغرافيا، وأحد أفضل أساتذتي طوال الثلاث سنوات التي قضيتها في مدرسة بنين الأونروا الإعدادية بحي النصيرات.
شعبية الحسنات كانت نابعة إلى حد كبير من حقيقة أنه لم يكن يفرض على الطلاب الكثير من الواجبات المنزلية، كما أنه لم يكن يضرب الطلاب أسوة بالعادة التي كانت متبعة من قِبل أغلب المدرسين، ولهذا كان فصله مثاليًا تمامًا، حيث كان يمكنك التعرف على العالم بأسره من خلال حصته، ومعرفة كيف ولماذا تتشكل الرياح، وكانت دروسه تتضمن الكثير من القصص والحكايا التي يرويها لنا، وهذا الطابع جعل من الحسنات شخصية محببة وأبوية للكثير منا، على عكس أستاذنا في الرياضيات – أتحفظ على ذكر اسمه لأنه لايزال يخيفني حتى يومنا هذا – الذي كان عنيفًا ويأتي إلى الفصل في الكثير من الأحيان في حالة من السكر الشديد.
ضمن مراهقتنا قمنا باستغلال الشخصية الطيبة لأستاذ الجغرافيا، حيث تعمدنا إثارة شائعة تقول إن الحسنات كان يستغرق في قيلولة أثناء الحصة الدراسية لأنه تم لدغه من حشرة أثناء تسلقه لجبل كليمنجارو، وبطريقة ما، كان الحسنات هو الذي يدفعنا لهذه السخرية، لأنه كان يتحدث بشكل غريب ودائم حول هذا الجبل بالذات، فكلما كان ينطق اسمه، كان يهمل التركيز على كلمة “جبل” ويزيد من التركيز على الكلمة الثانية ” كليمنجارو” فيلفظها بشكل عالٍ وخشن يهتز له الفصل الدراسي بأكمله، بحيث يتردد صدى صوت الحسنات المدوي حول الجدران المتهاوية لمدرسة اللاجئين التي تمولها الأمم المتحدة.
ضحكنا وقهقهنا كثيرًا على الحسنات، ونادرًا ما كان يرد بغضب على ضحكتنا، وعندما كان يغفل ذكر كليمنجارو في فصله، كنا نتحذلق في سؤاله لنحثه على ذكره مثل سؤالنا “أبو ياسر، ما هو أعلى جبل في أفريقيا، هذا الذي يوجد في تنزانيا؟”، وكان الحسنات يجيب بسهولة “كليمنجارو”، ونحن بدورنا كنا ننفجر من الضحك مرة أخرى، وهلم جرا.
رغم وضع بندقية على صدره تمهيدًا لدفنه، إلا أن الحسنات لم يكن خلال حياته مسلحًا، ولكن عندما نضع الأمور في نصابها الصحيح، يمكننا القول إن الظروف التاريخية حولت أستاذ الجغرافيا اللطيف والمحبب، إلى – كما تشير صحيفة ديلي ميل – “أحد مؤسسي الجماعة الإرهابية”.
الابن الأكبر للحسنات هو ياسر، لهذا كنا نناديه بـ “أبو ياسر”، ورغم أنني لم يسبق لي أن التقيت بياسر، إلا أنني كنت أعرف طارق دخان جيدًا، حيث أسس كل من طارق وياسر مع مراهقين آخرين، الجناح العسكري لحركة حماس، والمعروف الآن باسم كتائب عز الدين القسام.
كان طارق يدرس في ذات المدرسة التي كنت أدرس بها في حي النصيرات، وهو ابن مدير المدرسة عبد الفتاح دخان، الذي كان صديقًا للحسنات، حيث أطلق عبد الفتاح دخان وحماد الحسنات والشيخ أحمد ياسين حركة المقاومة الإسلامية حماس في 14 ديسمبر من عام 1987، وعمل أولادهم على تأسيس كتائب القسام.
القرار المصيري بتأسيس حماس الذي اتخذه المدرسان في مدرسة الأونروا “الحسنات ودخان” أحدث تغييرًا جذريًا في المشهد السياسي الفلسطيني، ومهّد الطريق لصعود أقوى قوة مقاتلة في النضال الفلسطيني المسلح، والتي كان آخر إنجازاتها الصمود الأسطوري في حرب الصيف التي شنتها إسرائيل ضد غزة العام الماضي، حيث شنت اسرائيل عدوانًا على قطاع غزة العام الماضي باسم عملية “الجرف الصامد” أدت إلى مقتل حوالي 2200 فلسطيني معظمهم من المدنيين، ولكن بالمقابل تم قتل 70 إسرائيليًا، أكثر من 60 منهم كانوا من العسكريين، هذا الإنجاز أدى إلى تداول أسطورة حماس بشكل غير مسبوق في المجتمع الفلسطيني.
مؤسسو كتائب عز الدين القسام ياسر وطارق قُتلا بعد فترة وجيزة من تشكيل الكتائب إثر معركة جريئة مع الجيش الإسرائيلي، وحينها شغل مركز طارق شقيقه محمد، الذي كان زميلي في الفصول الدراسة منذ الصف الثالث، وفي ذلك الوقت، كنت أحبه لاسيّما وأنه كان يتيح لنا الوصول إلى مخزن كرة القدم بعد الدوام المدرسي، حيث كان يسرق مفاتيح مستودع المدرسة من والده كلما كنا بحاجة للوصول إليه، علماً أن محمد قُتل على يد إسرائيل في سن الـ 20، وعلى الرغم من أن كادر كتائب القسام الأول تم القضاء عليه بسرعة على يد الجيش الإسرائيلي، إلا أن الجناح العسكري لحماس استطاع ترك بصمته بشكل ناجح ودائم من خلال فتحه لمنبر الانضمام لقواته مما ساعد العشرات والمئات وفي النهاية الآلاف على الانضمام إليه.
ولكن الأستاذ حسنات كما كنا نناديه، لم يكن مسلحًا بالمعنى النمطي لهذه الكلمة، وكان وسيكون دائمًا أستاذي في الجغرافيا الطيب، الذي تؤكد شهادته التي حصل عليها من جامعة القاهرة في عام 1963 شغفه بهذه المادة، حسنات اللاجئ المولود في مدينة بئر السبع الفلسطينية، التي تم احتلالها لتصبح مدينة إسرائيلية بعد النكبة الفلسطينية عام 1948، ولد لأسرة بسيطة من الفلاحين، وتعرضت أسرته لمأساة أخرى – بالإضافة إلى مأساة النزوح – في عام 1951، عندما قُتل شقيقيه راجي ومحارب من قِبل الجيش الإسرائيلي سويًا وفي ذات اليوم.
زعيم حماس الحالي ورئيس الوزراء السابق إسماعيل هنية قال في بيان له إن الحسنات “كان قائدًا فذًا للحركة الإسلامية، وأحد مؤسسي جماعة الإخوان المسلمين وحركة حماس في فلسطين”، وحسنات قد يكون “قائدًا فذًا” كونه أسس للمجتمع الإسلامي في النصيرات، وهو المجتمع الذي كان له دور مهم في تشكيل حماس، ولكن بالنسبة لي وللعديد من طلابه، لا يمكن وصفه بأنه أصولي أو متعصب بأي شكل من الأشكال.
في شتاء عام 1992 كان الحسنات أحد الـ419 شخصية التي قامت إسرائيل بإبعادهم إلى مرج الزهور في الجنوب اللبناني، وأتذكر حينها الخوف الذي اعترى العديد منا حول المصير الذي سيلقاه هؤلاء الرجال الذين قد يموتون وسط عري الجبال الثلجية القاسية، ولكن بطريقة أو بأخرى، استطاع أستاذي النجاة من الشتاء القارس في تلك المنطقة الجبلية، قبل أن يُسمح له ولمبعدي مرج الزهور بالعودة إلى الأراضي المحتلة، ليتم زج الكثير منهم بالسجون الإسرائيلية إبان عودتهم فورًا.
أستاذي في الجغرافيا، الذين كان يأخد قيلولة في كثير من الأحيان أثناء الحصة الدراسية، كان أصعب مراسًا مما كنا نتوقعه، فعلى الرغم من مقتل أغلب مؤسسي حماس، إلا أن حسنات استطاع النجاة بحياته والهرب من هجمات الطائرات بدون طيار والطائرات الحربية والدمار الذي سحق غزة لعدة مرات، ليموت مؤخرًا نتيجة للشيخوخة بعد مرض استمر لفترة قصيرة.
توفي أستاذي في الجغرافيا مع بندقية فوق صدره، رغم أنني أشك في أن هذا الرجل المسن يعرف كيفية استعمال البندقية، حيث شيعه إلى قبره الآلاف من اللاجئين في موكب جنازة مهيب ترافق مع عشرات المقاتلين، كثير منهم لم يكونوا قد ولدوا عندما أسس ياسر وطارق كتائب القسام قبل حوالي 26 عامًا.
عندما شرحت للأستاذ حسنات لماذا كنا نضحك في كل مرة كان يقول فيها “كليمنجارو”، ضحك كثيرًا، ولكنني لم أخبره أننا كنا خلف الشائعات التي انتشرت حول تسبب حشرة أفريقية بقيلولته التي كان يأخذها في كثير من الأحيان أثناء الحصة الدراسية.
المصدر: ميدل إيست آي