على أطراف مدينة البصرة، حيث تضاعفت التجمعات السكنية التي تأوي الفقراء، تعج الشوارع بأكوام القمامة ومياه الصرف الصحي، بينما تعيش أحياء كاملة بدون مياه وكهرباء، في حين تمتلئ قنوات المياه التاريخية بالمدينة، والتي عاشت عليها الزراعة لقرون، بالنفايات التي تسدّ جزءًا كبيرًا منها، وهو أمر قد يثير دهشة الكثيرين بالنظر لكونها مدينة غنية بالنفط، ولا يتجاوز تعدادها أربعة ملايين شخص.
“يحتاج الكثيرون هنا عادة إلى الاتصال عدة مرات بالسلطات المحلية قبل أن تستجيب وتقوم بجمع القمامة من الطرقات، وعادة ما تفعل فقط حين يكون الشارع المطلوب تنظيفه على وشك الانسداد”، هكذا تحدث كريم، أحد قاطني المدينة، في دسمبر الماضي، قال أحد المسؤولين لوسائل الإعلام إنه من أصل 8.000 عامل تابع لسلطات المدينة طبقًا للأوراق الرسمية، يوجد في الواقع 2.500 فقط، في حين تُعَد البقية غير موجودة فعليًا، بل مجرد أسماء يقوم آخرون باستلام رواتبهم عبر تزييف أسمائهم، وهو أمر شائع على المستوى المحلي في العراق اليوم، مما دفع المحافظة على ما يبدو إلى توقيع اتفاق مع شركة كويتية للتنظيف لم تبدأ بعد في تقديم خدماتها.
“نمتلك النفط والموانئ، ولكننا لا نمتلك نظام صرف صحي، ولا نملك حتى القدرة على جمع القمامة، كل ما نحصل عليه هنا هو الإهمال والتهميش، بينما يسرقون هم (الحكومة المركزية) ثرواتنا، البصرة هي البقرة التي يحلبها الجميع بينما يتركونها تموت جوعًا”، كذا تحدث أحد الناشطين، الذين يحاولون الترويج لمحاولات انتزاع الحكم الذاتي من سلطان الحكومة المركزية في بغداد على غرار نموذج إقليم كردستان العراق، وهي محاولات تجد مقاومة من بغداد بالطبع، إذ تحتوي البصرة على 80%من النفط العراقي، وهو المصدر الأساسي للميزانية العراقية.
ينص الدستور العراقي بوضوح على الإجراءات التي يجب اتباعها لخلق منطقة حكم ذاتي، وهي إجراءات يسيرة نسبيًا، إذ يجب الحصول على دعم ثُلث أعضاء مجلس المحافظة لإجراء استفتاء، أو جمع توقيعات من 10% من سكان المحافظة، (وهم حوالي 160.000 من سكان البصرة المسجلين بالقوائم الانتخابية)، بيد أن محاولة إجراء استفتاء عام 2010، حين وقّع بالفعل 22 من أصل 35 بمجلس محافظة البصرة على إجراء استفتاء حُكم ذاتي، فشلت بعد رفض رئيس الوزراء العراقي آنذاك نوري المالكي وتجاهله لمطالبهم.
يعتقد البعض الآن أن فرص تحقيق الحكم الذاتي في البصرة أفضل تحت رئاسة حيدر العبادي لمجلس الوزراء، إذ صرّح العبادي بميله لفكرة نقل السلطات للمحافظات، وهو ما أعاد مبادرات الحكم الذاتي للواجهة مجددًا، حيث بدأ جمع التوقيعات من السكان، والتي وصلت إلى 100.000 حتى الآن طبقًا لمحمد الطائي، عضو بالبرلمان العراقي، وهي فرصة يرى كثيرون أنها قد تُجدي نظرًا لتراجع قوة العاصمة في الوقت الحالي جراء هزيمتها أمام داعش في الموصل، وهبوط أسعار النفط.
البصرة وقرن مضى
على مدار قرون الحكم العثماني كانت البصرة ولاية منفصلة ومرتبطة بالتجارة في الخليج الفارسي ومع الهند، أكثر منها بما يدور في الهلال الخصيب، وكانت تضم آنذاك محافظة البصرة الحالية، ودولتي الكويت وقطر، وجزء من شرق السعودية اليوم، بينما تمتعت بروابط قوية بين مشايخها ومشايخ شرق الجزيرة العربية، الذين أصبح بعضهم فيما بعد ملكًا أو أميرًا في دول الخليج، مثل أسرة آل صباح الحاكمة في الكويت الآن، وهي بصراوية الأصل كما هو معروف، كما امتلكت البصرة صلات قوية مع عرب خوزستان بغرب إيران اليوم.
بعد دخول البريطانيين إلى المنطقة مع مطلع القرن العشرين، وُضِعَت البصرة تحت سلطة بغداد في ما سُمي بدولة العراق، حتى بدأت محاولات للانفصال عنها في عشرينيات القرن الماضي، إذ تقدّم اثنان من كبار ملاك الأراضي البصراويين، أحمد الصانع وعبد اللطيف المنديل، بطلب للمفوض البريطاني الأعلى بيرسي كوكس في أبريل 1921 بالانفصال عن بغداد، لما رأوه من اختلاف في مصالحها التجارية كمدينة عن العاصمة.
في يونيو، وقعت مجموعة من رجال الدين ومشايخ القبائل والتجار والسياسيين البصراويين عريضة وقدموها للإدارة البريطانية في بغداد، وكتبوا فيها رغبتهم في الحصول على استقلال سياسي لصالح ولاية البصرة، لما في ذلك من خير يعود على أبنائها وأبناء العراق كذلك، وطالبوا بأن تكون البصرة، على غرار الكويت، دويلة خاضعة للحماية البريطانية، وحاولوا استمالة البريطانيين بالإشارة إلى طبيعة القيادات المحلية في البصرة، والتي كانت آنذاك أقرب إلى السلطات البريطانية من غيرها، لاسيما وأن مصالحها التجارية ربطتها مع الإمبراطورية البريطانية التي تحكّمت في الهند آنذاك، وكانت الشريك التجاري الأولى للبصرة.
مع ذلك، لم تلق تلك الدعوات قبولًا لدى البريطانيين، فرغم أن كوكس، والذي كان نفسه معارضًا للاستقلال، أبلغ لندن بأن كافة ملاك الأراضي والتجار ذوي النفوذ في البصرة يقفون في جبهة المطالبين بالاستقلال، إلا أن معظم القيادات البريطانية على الأرض وفي لندن حبذت الوقوف بجانب الملك فيصل والالتزام بالحدود المُتفَّق عليها في اتفاقية سايكس بيكو، لتصبح البصرة مع الوقت جزءًا من دولة العراق الوليدة، والتي انجذبت بشكل أكبر إلى مدار المشرق، واعتمدت على عوائد نفط البصرة، دون الالتفات إلى قياداته المحلية، والتي قل نفوذها تدريجيًا بوجه نفوذ هيلمان الدولة القومية الباطشة، لاسيما تحت حُكم صدام حسين المركزي.
الحسابات المعقّدة بين البصرة وبغداد وطهران
اليوم، وبعد أكثر من عقد على غزو العراق وتفكك منظومته القومية الحديثة بشكل كبير، ترتفع أعلام البصرة، ذات الألوان الزرقاء والبيضاء والخضراء، في أماكن عدها، أبرزها مطار البصرة الدولي، وسط قناعة متزايدة بين أهالي المدينة بأن مدينتهم تمتلك مقومات الحكم الذاتي لسبَّبين رئيسيَّين، أولهما وجود معظم حقول النفط فيها، والتي تشكّل أكثر من نصف الدخل القومي العراقي، مما يعني أن حصولهم على قسط أكبر من هذه الثروة سيتيح لهم تحسين الخدمات العامة، ولكن لم لا تقوم بغداد باستخدام هذه المليارات لخدمة البصرة؟ تنقلنا إجابة هذا السؤال إلى السبب الثاني: انعدام كفاءة البيروقراطية العراقية.
يرى الكثيرون من أنصار الحكم الذاتي أن بغداد لا تملك المقومات الكافية لتحسين الخدمات في البصرة إلى المستوى المطلوب نظرًا للفساد المستشري فيها منذ عقود، وهو ما تستطيع حكومة إقليمية صغيرة وجديدة أن تقوم به كما حدث في كردستان العراق؛ النموذج الذي يضطلع الكثيرون هنا إليه نظرًا لنجاحه في تحقيق قدر من الاستقرار وجذب الاستثمارات، بل وحتى الدفاع عن أراضيه في مواجهة أعدائها، لاسيما داعش، والتي يتصاعد بين البصراويين، وأغلبهم من الشيعة، القلق حيال توسّعها مقابل ضعف الجيش العراقي.
من ناحيته، يدرك حيدر العبادي المطالب المتزايدة في البصرة بالمزيد من الاستقلالية، فكما صرّح في جولة بالمدينة في ديسمبر الماضي، “توسيع السلطات الإقليمية حق دستوري، ولكنه يحتاج إلى نقاش مطوّل”، وهو ما يتفق فيه على ما يبدو الكثيرون هنا في هذه اللحظة رغم رغبتهم في الابتعاد عن بغداد، إذ تعتمد المحافظة على دفاع الميليشيات الشيعية عنها بوجه أي هجوم محتمل من خارجها، والتي يتمركز معظمهما في النجف وكربلاء وبغداد ومدينة الصدر، ويعارض أغلبها الحكم الذاتي للبصرة بالطبع، أولًا لأن الكثير منهم، مثل جيش المهدي، يعتمد في شعبيته على تقديم خدمات اجتماعية فشلت بغداد في تقديمها، وهو ما سيجد منافسًا قويًا من حكومة إقليمية بميزانية كبيرة، وثانيًا لأنهم بشكل أو آخر يعتمدون على التحالف السياسي القائم مع السلطة في بغداد، خاصة في هذه اللحظة التي تتعرض فيها لهجوم من داعش، والتي أدى ظهورها إلى توحيد نسبي في صفوف فصائل الشيعة العراقية.
في الواقع، إذا ما نجحت البصرة في المستقبل في تدشين نموذج كردي، فإنها ستخلق مركزًا اقتصاديًا في الجنوب يجذب معه كافة المحافظات الجنوبية الأخرى، لاسيما وأن سيناريو كهذا سيعني فعليًا نهاية السلطة المركزية نظرًا لاعتمادها على النفط في 90% من ميزانيتها، وهو ما يؤدي تباعًا إلى نشوء مركز ثقل شيعي عربي قد لا يعجب الإيرانيين، إذ بوسعه بسهولة أن يخلق نفوذًا بين العرب الشيعة في محافظة الأحواز الإيرانية، ولن يعجب دول الخليج أيضًا، إذ يمكن له بسهولة أن يجتذب الشيعة الموجودين في شرق الخليج، خاصة في البحرين، كما سيشكل ضغطًا على استقرار الكويت.
***
“إذا تم تجاهل مطالبنا في أي وقت بإجراء استفتاء، سنستطيع بسهولة أن ندعو لاعتصام في منشآت النفط للضغط على الحكومة، ولكن الآن ليس من الحكمة أن نضع تاريخًا محددًا لهكذا استفتاء”، هكذا تحدث الطائي، عضو البرلمان عن البصرة آنف الذكر، والذي يدعو هو الآخر إلى المضي قدمًا نحو حكم ذاتي ولكن بخطوات بطيئة وحذرة، وهو ما يبدو أن معظم البصراويين يتجهون إليه بينما تظل حساباتهم أسيرة العلاقات مع بغداد لأسباب إستراتيجية وحيوية، وكذلك مع طهران.