بعد الحديث عن لقاء غير معلن تم بين جهات سيادية مصرية ووفد من الحوثيين بالعاصمة المصرية القاهرة الأسبوع الماضي، اللقاء لم يدع إليه طرف دون الآخر ولكن يبدو أن ضرورة المرحلة هي ما دعت إليه، ولكن أمر عدم إعلانه هي رغبة مصرية صرفه، وذلك مراعاة للجانب الخليجي الذي يتخذ موقفًا معاديًا من تواجد الحوثيين على رأس السلطة في اليمن بقوة السلاح.
القاهرة ترى أهمية مثل هذا اللقاء وإن ظهر بعض المسؤولين لينفوا عقده من الأساس، وهذا أمر مفهوم جدًا في ظل مراعاة الاختلافات في وجهات النظر المصرية السعودية في ظل ترتيبات إقليمية يعد لها؛ فرأت السلطات في مصر أن الأسلم التنصل من اللقاء الذي أكدت مصادر إعلامية عدة حدوثه بالفعل، فالقاهرة تريد الاطمئنان على مصير قناة السويس بعد سيطرة الحوثيين على مضيق باب المندب، أحد أهم الشرايين المغذية للقناة، والتي تُعد بمثابة مصدر الدخل القومي المصري الوحيد الثابت في ظل ترهل اقتصادي وأوضاع تسوء بسبب الظروف السياسية غير المستقرة التي تعيشها القاهرة منذ انقلاب الثالث من يوليو.
يُعد “مضيق باب المندب” المدخل الجنوبي للبحر الأحمر، الطريق الحيوي الوحيد الذي يمر من خلاله أكثر من 30 % من نفط العالم، ولليمن أهمية إستراتيجية كبرى، فهي أسهل الدول التي تستطيع السيطرة عليه عن طريقة جزيرة بريم، هذا الأمر الذي أدى إلى قلق القوى العالمية بشأن هذا المضيق الذي يقع في قبضة دولة ضعيفة غير مستقرة كاليمن؛ ما أدى إلى محاصرته من جميع الجهات عن طريق أقرب الدول التي تُطل عليه، حيث التواجد الأمريكي الفرنسي في جيبوتي، بجانب التواجد الإيراني الإسرائيلي في إريتريا، وكذلك التواجد التركي في الصومال، مع الأخذ في الاعتبار الدوريات البحرية للناتو التي لا تنقطع من هذه المياه، كل ذلك من أجل ضمان استمرار الملاحة في هذا المضيق وعدم التفكير في إغلاقه حتى لا يتسبب في كوارث بالنسبة للطاقة لدى الغرب عامةً والدول التي تم ذكرها المشاركة في مراقبته خاصةً.
فعلى سبيل المثال قامت مصر بإغلاق هذا المضيق عام 1973 إبان حرب أكتوبر وهو ما حرم إسرائيل من 18 مليون برميل من النفط كانت إسرائيل تستوردهم من طهران ليصلوا إلى ميناء إيلات الإسرائيلي، لذا يدرك العالم أهمية هذا المضيق إستراتيجيًا وبالأخص تدرك إيران هذا، حيث تسيطر على مضيق آخر وهو مضيق هرمز وتدرك أهمية هذه الممرات البحرية، إيران التي لديها خبرة في كيفية إغلاق المضيق واستخدمه كورقة ضغط، صعّدت الحوثيين في اليمن عن طريق إمدادهم بالسلاح وتدريبهم في معسكرات داخل إريتريا حتى استطاعوا الوصول إلى سدة الحكم عبر انقلاب تواطأت فيه قوى خليجية لإقصاء التيار الإسلامي السني داخل اليمن من المشهد ولكن زمام الأمور أفلت منهم وربحت إيران هذه الجولة بصعود أحد أتباعها إلى السلطة في صنعاء.
استطاع الحوثيون بالفعل تنفيذ الخطة الإيرانية والوصول إلى ميناء الحديدة على البحر الأحمر وهو يعد كارثة للخليج ومصر على حد سواء إذا فكرت إيران في استخدام هذا المضيق ضمن الحرب الباردة مع الغرب.
فالخليج بدأ يُصدّر بتروله من هذا الممر المائي تاركًا لإيران مضيق هرمز الواقع تحت السيطرة الإيرانية الكاملة والتي تهدد إيران كل حين وآخر بإغلاقه لتهديد المصالح الغربية والخليجية في هذه المنطقة والمتعلقة بالطبع بتصدير النفط، وقد نفذت البحرية الإيرانية بالفعل مناورات عدة للتدريب على إغلاق المضيق هرمز وهو الأمر الذي حذرها الغرب منه أكثر من مرة.
السيطرة الأيرانية على مضيق باب المندب عن طريق الوكلاء الحوثيين هو أمر في غاية الخطورة للخليجيين المحاصرين إيرانيًا من كافة الاتجاهات لذلك فالأمر لدى الخليج هو جد خطير وتهديد لإستراتيجي لا يمكن التهاون معه.
هذا بالنسبة للخليج، أما عن مصر التي تطل على البحر الأحمر أو البحر العربي كما يطلق عليه – كل الدول التي تطل عليه دولًا عربية باستثناء دولة إريتريا التي رفضت الانضمام إلى الجامعة العربية وفضلت توطيد العلاقات مع إسرائيل -، يعد هذا المضيق البحري بالنسبة للدولة المصرية هو شريان الحياة المغذي للقناة التي تصل البحر الأحمر بالبحر المتوسط ومن ثم إلى أوروبا؛ ما يؤمن لها مصدرًا للدخل وأهمية إستراتيجية بالغة، حيث يمر كل هذا النفط القادم من مضيق باب المندب وكل الشاحنات التجارية عبر قناة السويس لتشق طريقها إلى القارة العجوز.
إذا صحت التهديدات التي تثار حول هذا المضيق فإن قناة السويس المائية مهددة بالبوار؛ لذلك أطلقت القاهرة أكثر من تهديد بشأن هذا الأمر أبرزه كان لرئيس هيئة قناة السويس الذي لم يستبعد تدخلًا عسكريًا مصريًا لحماية المضيق باعتباره عمق للأمن القومي المصري، وهذا كله لم يكن بعيدًا عن التنسيق مع الخليج.
لكن الذي حدث في مفاجأة مدوية هو أن الجنرال السيسي وأجهزته السيادية قررت أن تتواصل مع القيادة الإيرانية عبر الوكيل الحوثي في اليمن بعد تململ في خروج البعثة الدبلوماسية المصرية من اليمن عقب سقوطها في أيدي الحوثي، ومن المعلوم أن سحب هذه البعثة تم بالضغط الخليجي، القاهرة أردات أن تفتح منفذًا للحوار مع إيران بهذا اللقاء الذي حضره حسين العزي مسؤول العلاقات الخارجية في جماعة الحوثي والذي تعلم الإدارة المصرية جيدًا أنه سيعطي تقريرًا مستوف لكافة التفاصيل عن هذا اللقاء للقيادة الإيرانية.
هذا التصرف المصري يأتي عقب عودة الجنرال السيسي من السعودية والحديث عن بوادر خلاف في وجهات النظر بين الإدارة السعودية الجديدة والجنرال حول أولويات الصراع والمواجهات في المنطقة، والتي تراها السعودية في مواجهة المد الشيعي وتراها القاهرة في استكمال استئصال الإسلام السياسي من المنطقة وعلى رأسه الإخوان المسلمين، الأمر الذي تريد السعودية تأجيله حتى تنتهي من تحجيم المد الشيعي.
فسر المراقبون أن هذه الخطوة تأتي من القاهرة في إطار ابتزاز للرياض أو محاولة لفتح محور دعم آخر غير الخليج، حيث تحولت النبرة من التهديد باستخدام القوة العسكرية في حال التفكير في إغلاق مضيق باب المندب من قِبل المسلحين في اليمن، إلى الجلوس في مفاوضات معهم في قلب القاهرة ولكنها حتى الآن غير معلنة حتى لا يتم خسارة الطرف الخليجي إلى الأبد الذي يعتبر النظام المصري ابنًا غير شرعي له.
أما عن غرض الحوثيين من هذا اللقاء الذي سبق الإشارة إليه، فبالأساس هو لكسر العزلة الإقليمية والدولية التي يحاول الخليج فرضها على النظام الجديد في صنعاء والتواصل مع دولة بحجم الدولة المصرية التي لها عمق إستراتيجي في اليمن متمثل في مضيق باب المندب، حيث صرح السفير المصري في اليمن قبل ذلك أن سيطرة فصيل على المضيق يشكل تهديدًا للملاحة الدولية في البحر الأحمر، وأن مصر لن تسمح بذلك.
الحوثيون يعلمون جيدًا موقف مصر من هذا المضيق وهم يحاولون طمأنة القاهرة بأي شكل من الأشكال على مصير الملاحة فيه، لكسب نقاط قوة أمام الغريم الخليجي الذي يفرض عليهم العزلة الدبلوماسية بين دول المنطقة، وهو أمر تستغله القاهرة أيضًا في إطار المناورات السياسية ولكن لم يتضح حتى هذه اللحظة نتائج لقاءات القاهرة بالحوثيين لأنه لا يمكن إغفال الدور السعودي في القاهرة والذي سيحدد نتيجة هذا اللقاءات وغيرها بالطبع.