إنه فصل الشتاء في غزة، بكل ما للكلمة من معانٍ بائسة، وبعد ستة أشهر من الحرب الأخيرة التي هزت العالم، لايزال هناك عشرات الآلاف بلا مأوى، يعيشون محشورين في بعض الأحيان بين أنقاض المباني التي دمرها القصف، والأطفال هنا، يموتون من البرد، وفقًا للأمم المتحدة.
ومشى رباح، وهو صبي يبلغ من العمر ثماني سنوات يحلم بأن يصبح طبيبًا، حافي القدمين في هذا الطقس البارد جدًا بين أنقاض أحد الأحياء، الأمم المتحدة وزعت الأحذية، ولكن رباح قرر توفير حذائه لاستخدامه في المدرسة، وقال إنه، وللمرة الأولى في حياته، ليس لديه، ولا لدى العديد من الأصدقاء، أحذية للحياة اليومية، وجميع من تحدثت معهم تقريبًا قالوا إن الظروف في غزة هي أكثر بؤسًا مما كانت عليه في أي وقت مضى، وإن تفاقم المأساة تسبب في انتشار تشاؤم من أن حربًا أخرى تلوح في الأفق.
ولأنهم يفتقرون للألعاب الأخرى، يلعب الأولاد مثل رباح أحيانًا ببقايا الصواريخ الإسرائيلية التي دمرت منازلهم!
وقد تمت مقارنة غزة طويلًا بالسجن في الهواء الطلق، ولم أشعر قط من قبل بأن هذه المقارنة صحيحة أكثر مما هي الآن، ويرجع ذلك جزئيًا إلى أن العدد الأكبر من سكان غزة تركوا الآن في الهواء الطلق، ورغم ذلك، يتداول الناس هنا نكتة تقول إن الكهرباء على الأقل متوفرة في السجون.
وللمعاناة هنا أسباب متعددة، حيث تحافظ إسرائيل على الحصار الذي يرقى إلى حرب اقتصادية ضد السكان. وفي الوقت نفسه، تستفز حماس إسرائيل، وتبدد الموارد، وأغلقت مصر أنفاق التهريب التي تستخدم لتخفيف القبضة الخانقة على القطاع، وتحافظ في الغالب على حدودها مغلقة مع غزة، وبالتالي، يعيش سكان غزة البالغ تعدادهم 1.8 مليون نسمة بمفردهم، وإحدى الخطوات لتغيير أوضاعهم ستكون بأن يضغط المجتمع الدولي على إسرائيل ومصر لتخفيف الحصار عليهم.
ولا بد لي من الاعتراف بأن إستراتيجية إسرائيل القائمة على مبدأ العقاب الجماعي تبدو وكأنها قد حققت نجاحًا مع قطاع من سكان غزة، كثيرون هنا قالوا لي إنهم سئموا من الحرب ولا يريدون أن تطلق حماس الصواريخ على إسرائيل، خوفًا من تعرضهم للانتقام الرهيب، وقالت خضرة عبد، وهي امرأة تبلغ من العمر 50 عامًا، تعيش مع عائلتها في ما تبقى من منزلها: “أنا لا أريد المقاومة، لقد تحملنا ما يكفي من المعاناة”.
ومن جهتها، قالت حليمة جندية، وهي امرأة تبلغ من العمر 65 عامًا، إن الأطفال في عائلتها لازالوا يعانون من صدمة الحرب، وأضافت: “لا نريد من حماس إطلاق صواريخ، لا نريد حربًا أخرى”.
ومع ذلك، ينبغي على إسرائيل أيضًا أن تفهم بوضوح أن قنابلها وضعت بعض الأشخاص على طريق القتال ضدها، الصبي أحمد جندية، 14 عامًا وهو فرد من نفس عشيرة حليمة، توصل إلى استنتاج معاكس، وهو أنه يطمح ليكبر ويرتكب مذبحة بحق الإسرائيليين، قال لي أحمد: “جعلتنا الحرب نشعر بأننا سوف نموت على أي حال، فلماذا لا نموت بكرامة؟”، وأضاف: “أريد أن أكون مقاتلًا”.
ولدى أحمد صورة لرجل صديق للعائلة قتل أثناء إطلاق الصواريخ على إسرائيل، وهو يقول إنه يتوق لفعل الشيء نفسه، وعندما سألته كيف يمكنه تأييد المزيد من الحروب بعد كل سفك الدماء الذي تعرضت له غزة، قال أحمد: “ربما يمكننا قتلهم جميعًا، وبعد ذلك سوف تصبح الأمور أفضل”، وعندما سألته إذا ما كان يريد حقًا أن يتم محو كل إسرائيل، قال: “سوف أعطي روحي بمقابل قتل جميع الإسرائيليين”.
ويعكس هذا الرأي واقعًا مؤسفًا هو أنه إذا كنت صبيًا في سن المراهقة، فإن واحدة من عدد قليل من المسارات الوظيفية المتاحة في غزة هي أن تصبح مقاتلًا، والد أحمد هو عامل بناء عاطل عن العمل، ويتحدث الصبي عنه بنوع من النفور.
وتلاحظ منظمة حقوق الإنسان الإسرائيلية أنه أمر مثير للسخرية أن تصر إسرائيل على أن القبضة الاقتصادية الخانقة والمستمرة التي تفرضها على القطاع أمر ضروري لأمنها، وقد استمعت إلى آية (24 عامًا)، وهي متزوجة من رجل فلسطيني في الضفة الغربية، ولديهما طفل عمره 5 أشهر، لم ير والده أبدًا لأن إسرائيل لا تسمح لآية بمغادرة غزة، وقالت لي هذه المرأة: “أبكي كل يوم، لا أعرف ما يجب علي فعله”.
وبالمثل، تمنع إسرائيل بعض طلاب غزة الحاصلين على قبول في الجامعات الخارجية الأمريكية أو غيرها من مغادرة القطاع للدراسة، وعلى الرغم من أن تعلم المزيد من سكان غزة في الغرب قد يؤدي لزيادة الاعتدال، إلا أن النقطة التي تريد إسرائيل تحقيقها على ما يبدو هي جعل كل سكان غزة يعانون.
وفي زيارة إلى غزة في عام 2010، قمت بزيارة مصنع كعك في غزة يديره محمد التلباني، وهو رجل أعمال بارز، ولكني عندما عدت إلى القطاع في هذه الزيارة، ووجدت أن إسرائيل قصفت مصنع التلباني مرارًا خلال الحرب.
وقد أعاد التلباني ترميم جزء من المصنع، ولكن إسرائيل لم تسمح لثلاثة فنيين أوروبيين بالقدوم إلى غزة لوضع الأجهزة الدنماركية في المصنع، ولم يعمل جهاز التعبئة والتغليف لعدة أشهر أيضًا، لأنه يحتاج إلى قطع الغيار التي لم تسمح إسرائيل بوصولها إلى غزة.
ويسعى التلباني، وهو رجل أعمال واقعي، ومتحدث للعبرية بطلاقة، لبيع الكعك وتوظيف العمال وكسب المال، إلا أنه بدا أكثر سخطًا تجاه الإسرائيليين خلال هذه الزيارة من ذي قبل، وقال: “لقد أحرقوا 22 مليون دولار بدون سبب، ما خلقته منذ 45 عامًا دمروه في أقل من ساعتين، ما الذي يجب علي قوله لهم؟ شكرًا؟”، وأضاف: “هذه أسوأ فترة مررنا بها، ليس لدى الناس شيء ليخسروه، ولذلك؛ أتوقع قيام حرب أخرى”.
المصدر: نيويورك تايمز / ترجمة التقرير