ما لبثت أخبار مقتل الرهينتين اليابانيتين، هارونا يوكاوا وكيني جوتو، أن انتشرت في اليابان، حتى اشتعلت النقاشات في وسائل الإعلام وبين اليابانيين، وعلى عكس المتوقّع في أحداث كتلك، كانت معظم ردود الأفعال اليابانية سلبية تجاه الرهينتين، إذ وجه الكثيرون اللوم لهما لاستهتارهما بتعليمات الحكومة اليابانية، والتي صرّحت من قبل لرعاياها بترك سوريا منذ نشوب الاقتتال فيها عام 2011، بل ووصل الحال بالبعض لإعلان رفضه تخصيص أموال من الميزانية اليابانية لتحريرهما، نظرًا لكونهما مسؤوليَن بشكل كامل عن وقوعهما في أيدي مقاتلي داعش.
ليست هذه أول مرة يكون هذا هو رد فعل اليابانيين على اختطاف مواطنين لهم في الشرق الأوسط، فقد وقع حادث مماثل عام 2004 في العراق، إذ اختُطِفَت مجموعة من اليابانيين هناك، وعندما نجحت طوكيو في تحريرهم وإعادتهم إلى أرض الوطن سالمين، استقبلهم اليابانيون بسيل من الانتقادات لأنهم اختاروا التواجد في مكان خطير.
هذه المرة، يُعَد النقاش أكثر سخونة، نظرًا لارتباطه بنقاش أوسع يجري في اليابان منذ دخول رئيس الوزراء شينزو أبِه إلى الحُكم، والذي أعلن عن رغبته في تغيير العقيدة العسكرية اليابانية، الملتزمة بالسلمية التامة وعدم الانخراط في أي صراع عسكري منذ هزيمة طوكيو في الحرب العالمية الثانية، إذ اعتمدت اليابان على اتفاقية التعاون والأمن الثنائي مع الولايات المتحدة لتدافع عنها منذ ذلك الوقت وحتى اليوم، بيد أن توسّع الدور الصيني في المحيط الهادي مؤخرًا دفع بالبعض إلى المطالبة بتغيير هذا الوضع، في مقابل غيرهم من المتمسكين بالموقف الياباني السلمي.
ينصب النقاش بالأساس على المادة التاسعة من الدستور الياباني، والتي تحظر أي فعل عسكري، حيث يحاول أبِه منذ سنوات الدفع نحو تغييرها تارة، أو تغيير الفهم السائد لها تارة أخرى، في واحدة من أكثر المسائل حساسية في السياسة اليابانية منذ عقود.
المادة التاسعة
“انطلاقًا من رغبته الصادقة في السلام العالمي المبني على العدل والنظام، فإن الشعب الياباني يتنازل للأبد عن الحرب كحق سيادي للأمة، وعن التهديد باستخدام العنف في حل النزاعات الدولية، ولتحقيق هذا الهدف، سيتم التخلّص من القوات البرية والبحرية والجوية، وكذلك من أي قدرات حربية، مع عدم الاعتراف بحق الدولة في العدوان الهجومي”.
هذه هي المادة التاسعة التي أضافتها اليابان إلى دستورها عام 1947، بعد إصرار القائد العسكري الأمريكي دوجلاس ماك أرثر على إضافتها أثناء الاحتلال الأمريكي لليابان بُعَيد الحرب العالمية الثانية، لتقوم واشنطن بحماية اليابان من أي عدوان خارجي بدلًا منها، انطلاقًا من قاعدتها العسكرية الأساسية في جزيرة أوكيناوا اليابانية، إلا أن الأمريكيين ضغطوا على طوكيو لتُرخي تلك القيود أثناء الحرب الكورية، نظرًا لعدم قدرتهم على حماية اليابان من روسيا الشيوعية آنذاك، وفي نفس الوقت الالتفات للجبهة الكورية، ليتم تشكيل قوة عسكرية محدودة، هي قوات الشرطة الاحتياطية الوطنية، تحت إشراف الجيش الأمريكي، لتصبح فيما بعد قوات الدفاع اليابانية، وهي بمثابة المؤسسة العسكرية اليابانية اليوم.
تباعًا، تدفق على اليابان سيل من صفقات الإنتاج العسكرية من الشركات الأمريكية، وهو ما أدى لنشأة شركات عسكرية يابانية تقوم بإنتاج السلاح والذخيرة بالشراكة مع نظيرتها الأمريكية داخل اليابان لصالح الجيش الأمريكي، لتتشكل تدريجيًا قاعدة صناعية عسكرية يابانية جديدة، مستفيدة من التكنولوجيا الأمريكية في مجال الدفاع، بل وأصبحت طوكيو مع الوقت حريصة على وضع شروط واضحة للشركات الأمريكية، أبرزها أن تتم عمليات معيّنة أثناء التصنيع العسكري على أراضي اليابان، مثل اختبارات الجدوة وليّ المعادن وتطوير الكاميرات والعجلات والمحرّكات والمواد الاصطناعية، لتنتقل هذه التقنيات رويدًا إلى الصناعة اليابانية.
نتيجة لذلك، استفادت اليابان حتى في المجال المدني من التكنولوجيا التي تمتعت بالحصول عليها ومعرفة دقائقها، كما حدث على سبيل المثال في ستينيات القرن الماضي، حين استخدمت اليابان البلاستيك المقوّى، الذي صُنِع خصيصًا لبناء طائرات لوكهيد إف-104 العسكرية، في بناء طائراتها المدنية، وكذلك حين استخدمت تكنولوجيا محرّكات الطائرات العسكرية الأمريكية، التي تتميز بالقدرة على العمل عند سرعات عالية، في بناء قطار “الطلقة” شيكانسِن السريع، المعروف اليوم.
من ناحيتها استفادت واشنطن من نقل التكنولوجيا العسكرية إلى اليابان، أولًا لأنها عادت على الشركات الأمريكية بالأرباح الوفيرة، حيث كانت اليابان ثاني أكبر اقتصاد في العالم آنذاك (قبل أن تحل الصين محلها خلال العقد الماضي)، وثانيًا لأنها خلقت قوة اقتصادية وصناعية كبرى في أسيا تستطيع صد التمدد الشيوعي في الشرق، على غرار ألمانيا في الغرب، وهو احتواء نجح في النهاية في إسقاط المنظومة السوفيتية، أو هكذا اعتقد البعض، لتسقط معها آخر الهواجس الأمنية اليابانية.
ما لبثت القوة الروسية أن تراجعت حتى ظهرت الصين، بنمو اقتصادها، وتزايد إنفاقها العسكري بشكل ملحوظ، وهو ما لفت أنظار اليابان، خاصة مع دخول الرئيس شي جينبينغ إلى سدة الحكم في الصين، وتعبيره هو الآخر بشكل واضح عن طموحات الصين الإقليمية والعالمية، والتي تبدأ من ادعاء ملكية جزء سينكاكو (ديايو) التي تديرها اليابان، وحتى محاولات خلق “طريق حرير” جديد، تهيمن به الصين على التجارة والاقتصاد في أسيا.
عقيدة عسكرية جديدة؟
في نوفمبر 2013، أعلنت الصين عن مجال دفاع جوي جديد على جزء كبير من بحر شرق الصين، بما في ذلك الجزر المتنازع عليها، وصرّحت بأنه يتوجب على أي طائرة تمر من هذا المجال أن تُخطِر وزارة الدفاع الصينية وإلا تعرّضت للخطر، وهو تصعيد ترمي به الصين إلى ترسيخ دورها الجديد كقوة عسكرية، لا اقتصادية فقط، وليس بالضرورة إشعال النزاع حول الجزر في حد ذاته، لاسيما وهي تعلم أنها لا تستطيع الحصول على الجزر في المرحلة الراهنة، نظرًا لوقوعها تحت بنود اتفاقية التعاون والأمن الثنائي بين واشنطن وطوكيو، وهو ما يعني التزام الأمريكيين بالدفاع عنها إذا ما تعرّضت لهجوم عسكري.
في الشهر التالي، كانت اليابان قد أسست مجلسًا للأمن القومي، وأصدرت ورقة للإستراتيجية الأمنية الوطنية، أعلنت فيها عن مبادئها الدفاعية الأساسية، والتي شملت ضمنًا مراجعتها لفكرة عدم استخدام القوة العسكرية، إذ تنص الورقة على أن استخدام اليابان للقوة في مواجهة هجوم مسلّح سيتم بشروط هي: “(1) إذا تعرّضت له دولة أجنبية تتمتع بعلاقات وطيدة مع اليابان بحيث يهدد بقاء اليابان، ويشكّل خطرًا واضحًا على حق الشعب الياباني في الحياة؛ (2) إذا لم تكن هناك وسيلة أخرى لرد الهجوم المسلّح؛ (3) أن يكون استخدام القوة بالحد الأدنى الضروري”.
ما إن نُشرَت الورقة اليابانية حتى انطلقت ردود الأفعال في الداخل والخارج استهجانًا للموقف الياباني، إذ صرّحت وزارة الدفاع الصينية أن طوكيو تزيد التوتر الإقليمي، في حين طالبت كوريا الجنوبية برفع أي ذكر لجزر دوكدو (تاكيشيما) المتنازع عليها بين البلدين، واتهمت صحيفة ليبرالية يابانية أبِه بأنه يقوّض أسس السلمية اليابانية التي نجحت بسببها اليابان في تحقيق معجزتها الاقتصادية.
بدورها، تحاول الولايات المتحدة التوفيق بين رغبتها في اضطلاع اليابان بدور أكبر في أمن المحيط الهادي من ناحية، لاسيما وأنها تستفيد بتحقيق التوازن مع الصين عبر حليف لها، إذ يوفّر عليها ذلك مليارات كانت لتنفقها هي إن اضطلعت بتلك المهمة وحدها، وبين توطيد التحالف الأمريكي في أسيا من ناحية أخرى، والذي يشمل كوريا الجنوبية بشكل أساسي، وهي البلد الذي تتسم علاقته بطوكيو بالتوتر جراء تاريخها الاستعماري في البلاد، وهو توتر يتصاعد بالطبع كلما ازداد الحديث عن عودة اليابان إلى دورها العسكري بالمنطقة.
على العكس من الألمان، والذي تصالحوا مع تاريخهم أثناء الحرب بشكل شبه كامل، ونجحوا في تأسيس تحالفات وطيدة مع بلدان استعمروها سابقًا، مثل فرنسا، فإن مسألة الاعتذار عن انتهاكات اليابان في الحرب العالمية الثانية لاتزال تخلق الكثير من الأزمات الدبلوماسية في شرق أسيا، خاصة مسألة “نساء المتعة”، التي قامت اليابان بموجبها باستعباد عشرات الآلاف من الكوريات لصالح جنود جيشها في الحرب العالمية، وكذلك مسألة ضريح ياسوكوني الذي يخلّد ذكرى قيادات عسكرية يابانية شاركت في الحرب، وتعدها كل من كوريا والصين مجرمي حرب، وهو الضريح الذي زاره أبِه مؤخرًا، ليزيد الطين بلة في العلاقات مع كوريا والصين (للمقارنة، يشبه هذا أن تقوم أنغلا مِركل ببناء ضريح يخلد قادة النازية العسكريين!)
في خضم هذه التحوّلات، لاتزال واشنطن تسير على خيط رفيع بين طوكيو وسيول، في حين تمضي طوكيو في طريقها نحو عقيدة عسكرية جديدة مثيرة للجدل في الداخل، وأقل ما يُقال عنها أنها لا تحظى بإجماع من الشرائح المختلفة في المجتمع الياباني.
***
في اليوم التالي لانتشار فيديو إعدام الرهينتين، صرّح شينزو أبِه بأن القيود التي تحرم قوات الدفاع اليابانية من التحرّك لإنقاذ رعاياها في الخارج أثناء حالات الطوارئ، يجب أن يتم رفعها، وهو طلب سيتم تقديمه على الأرجح للبرلمان الياباني، إلى جانب مشروع قانون إعادة تفسير المادة التاسعة الذي تم تقديمه العام الماضي، وسيساعد اليابان على المشاركة بشكل أوسع في عمليات الدفاع الجماعي.
من ناحيتهم، يقول أنصار تلك الخطوات أن ما جرى في سوريا يحتم على اليابان أن تمضي بشكل أسرع في توجهها الجديد، وأن تشارك بفاعلية أكبر، عسكريًا وسياسيًا، على الساحة العالمية، وهي أصوات تجد صدى بالطبع لدى الائتلاف الحاكم، الذي يضم الحزب الليبرالي الديمقراطي الذي يرأسه أبِه، مع حزب كوميتو اليميني المحافظ.
على الناحية الأخرى، يقول أنصار المادة التاسعة أن انخراط اليابان في تلك الصراعات النائية هو الذي سيجلب لها المخاطر، وهم يشيرون هنا إلى زيارة شينزو أبِه إلى مصر في 18 يناير الماضي، ولقائه بالرئيس السيسي، الذي لا تزال بلدان عدة تتحفظ على التعامل معه بشكل مفتوح، وتقديمه لمعونة قدرها 2.5 مليار دولار، ثم زيارته لإسرائيل بعد يوم واحد، والتي التقى فيها نتنياهو وتعهد فيها بمكافحة الإرهاب، وهو ما يعتبرونه مبررًا لما فعلته داعش كرد على انجرار اليابان إلى ساحة الشرق الأوسط بهذا الشكل، ودليلًا على أن الالتزام بالحياد والسلمية هو الأفضل لليابان، سياسيًا واقتصاديًا، كما كان في العقود الماضية.
يابانيون يتظاهرون احتجاجًا على محاولة تغيير المادة التاسعة وإحياء القوة العسكرية اليابانية