ترجمة وتحرير نون بوست
أم أسامة
“اسمي أم أسامة، لا أعرف تمامًا كم عمري، ولكن أعتقد أنني بحدود الـ 75 عامًا، ولدت قبل عام 1948، وكنت في الرابعة عشرة من عمري عندما نزحنا من أرضنا في بئر السبع، في البداية، وجدنا ملجأ في قرية خزاعة، وفي وقت لاحق، عندما ازدادت الأمور سوءًا، وقُتل العديد من الأشخاص على يد الجيش الإسرائيلي، انتقلنا إلى غزة، وتركنا كل شيء وراءنا، حتى أغراضنا الشخصية، تركنا حقول القمح ومزارع البطيخ وغيرها من الخضروات التي كان والدي يزرعها”.
“خلال حرب عام 1948، ذهب والدي مع حمارين إلى أرضه الزراعية لحصاد القمح، وفي ذلك الوقت، كان الجميع يلزمون بيوتهم، قُتل والدي في حقله مع الحمارين، ولم يعد إلينا أبدًا، وخلال الجنازة اضطرت والدتي أن تقول للجميع إنها حامل، حتى لا يظن الناس عندما تضع حملها أنها كانت على علاقة مع رجل آخر، وعندما ولد الطفل أسميناه عوض، لأننا شعرنا أنه كان إلى حد ما تعويضًا عن فقدان والدنا”.
أم أسامة عملت على مدى السنوات الـ 20 الماضية في بيع البضائع على الطريق الرئيسي الذي يؤدي إلى المسجد الأقصى في البلدة القديمة بالقدس، وتمكّنت من إيجاد مكان لنفسها في منطقة صغيرة على الدرج الذي يقع تحت المنزل الذي اشتراه أرييل شارون، رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، في قلب الجزء الفلسطيني من البلدة القديمة، حيث يرفرف العلم الإسرائيلي فوق رأسها كل يوم.
أم أسامة تتعرض لمضايقات بشكل يومي تقريبًا، سواء من قِبل الشرطة الإسرائيلية أو من جنود الجيش أو عناصر البلدية الذين يحاولون دفعها للخروج من البلدة القديمة، ولكن رغم كل الصعوبات التي واجهتها، لم تتخل أم أسامة عن زاويتها الشهيرة على مدى العقدين الماضين، حيث ناضلت مرارًا وتكرارًا لتعود دائمًا مع بضائعها التي تتكون من ملابس نسائية ملونة تقوم بعرضها على الأرض.
زبائن أم أسامة هن من النساء الفلسطينيات اللواتي يصادفنها في طريقهن إلى المسجد الأقصى، والنساء اللاتي يناقشنها بأسعار القطع يخسرن دائمًا، لأنها حديّة ومصممة على أسعارها، حيث تقول “إذا لم تعجبكِ أسعاري، اشتر البضاعة الصينية”، وتضيف “منذ أن دخلت البضاعة الصينية وسيطرت على السوق هنا، أصبح الأمر أكثر صعوبة بالنسبة لنا، فعلى الرغم من أن البضاعة الصينية نوعيتها سيئة، إلا أنها أرخص بالنسبة للشعب، وهذا ما اضطرني إلى تخفيض الأسعار، هل ترين هذه الدشداشة؟ أنا أبيع 12 قطعة منها مقابل 100 شيكل أي 24 دولارًا”.
تقول أم أسامة إنها لا تحقق أرباحًا كبيرة، وتشير حاليًا إلى معاناتها جرّاء إغلاق الطرق بين المدن الفلسطينية، كون هذا الإغلاق صعّب عليها مهمة جلب البضائع من الخارج، مما اضطرها إلى شراء السلع من المحلات التجارية القريبة منها، وبيعها بربح لا يتجاوز الـ 1 أو 2 شيكل “أي ما بين 24 و49 سنتًا”.
عندما جاءت أم أسامة أول مرة إلى مدينة القدس في عام 1996، كان التنقل بين الضفة الغربية وغزة والقدس أكثر سهولة، وانتقلت إلى القدس مع زوجها، الذي توفي في ذات العام، وتذكر أم أسامة أنها منذ وفاته تعمل وحدها، وتقول “أشتاق له، لقد كان رجلاً جيدًا، ذا روح جميلة”.
تتذكر أم أسامة الأيام القديمة حيث تقول “كنا نستقل الحافلة من منطقة مصرارة بالقرب من البلدة القديمة بالقدس ونذهب بسهولة ويسر إلى غزة، كنت أذهب كل شهر لأرى عائلتي في غزة، كنت أحب الليالي التي تسبق أيام العيد، الطرق مفتوحة، ويمكننا أن نمر من معبر إيرز (معبر بيت حانون) من خلال إظهار هوياتنا فقط، وفي تلك الأيام كانت البلد مكتظة بالناس الذين يحضرون من جميع أنحاء فلسطين، والسوق كان مزدحمًا، الفلسطينيون كانوا يأتون من نابلس ورام الله وأبو ديس ومناطق أخرى، وكنا نحقق ربحًا جيدًا، حيث انتقلنا إلى القدس لأن الناس كانت تقول لنا إنها مكان جيد للأعمال التجارية، أما اليوم، أصبحت القدس معزولة بسبب الجدار، ولا يمكن لأحد أن يأتي إلى هنا إلا بصعوبة، وغزة تحت الحصار، والبعوضة الطائرة لا يمكنها أن تمر عبر معبر إيرز، إنظري حولكِ، هل ترين أي شخص هنا؟ إما جنود أو مستوطنين”.
عندما دخل شارون إلى المسجد الأقصى في عام 2000 واندلعت الانتفاضة الثانية، تطور الوضع السياسي ليصبح أكثر سوءًا، وكذلك ساءت حياة أم أسامة، فمنذ ذلك الحين، لم تعد قادرة على العودة إلى غزة، كون ذهابها إلى غزة سيحرمها من العودة إلى القدس حيث تكسب رزقها؛ لذا بقيت أم أسامة بالقدس حتى تتمكن من مساعدة أولادها وأحفادها وعائلاتهم.
في الحرب الأخيرة على غزة، في صيف عام 2014، توفي خمسة من أقاربها من الدرجة الأولى – بما في ذلك نساء وأطفال – قُتلوا على يد الجيش الإسرائيلي وفقدت عائلاتهم بيوتها، ومنذ ذلك الحين، توسعت دائرة العائلات التي تساعدها أم أسامة، حيث تقول “لا يوجد عمل في غزة، حتى الذين درسوا في الجامعات ليس لديهم وظيفة، أبنائي وبناتي وعائلاتهم جميعهم يعتمدون عليّ، ومن وقت لآخر أبعث لهم بطانيات وزيت وملابس وبعض الحلويات”.
أم أسامة لم تلتقِ أبدًا بأحفادها، في عام 2008، قمتُ بزيارة عائلتها في غزة وجلبت معي صورًا لأولادها، ولكنها لم تعرف أي ولد منهم، حيث قالت “لقد كبروا بسرعة”، وعندما عرضتُ عليها إرسال شخص معه جهاز كمبيوتر لعائلتها، حتى تتمكن من رؤيتهم على السكايب، رفضت وقالت لي “هذا سيكسر قلبي، وأنا لا أحب أن أكون عاطفية”.
أم أسامة استطاعت تأسيس حياتها في البلدة القديمة بعد 20 عامًا، قضتها تقاتل لتحفظ مكانها داخل البلدة، وتحارب العديد من المحلات التجارية في السوق، وتناضل ضد السلطات الإسرائيلية الذين كانوا يأتون كل يوم لمضايقتها، وصادروا بضاعتها مئات المرات، ولكن أم أسامة لم تستسلم أبدًا، حيث كانت تجمع عزمها وتبدأ من جديد مرة أخرى.
تقول أم أسامة إنها أصبحت جزءًا من البلدة، وتضيف “أعتقد أن الإسرائيليين يئسوا من مطاردتي، لقد حاولوا بشتى الطرق الممكنة طردي خارج البلدة، صادروا بضاعتي، اقتادوني إلى مركز الشرطة، حتى إن الجيش جاء ليلاً بحثًا عن الفلسطينيين غير القانونيين عندي وهددوني أيضًا، ولكن كل هذا لم يدفعني لترك البلدة، أنا هنا، وسأبقى هنا حتى أصنع لأولادي وعائلاتهم مستقبلاً أفضل في غزة”.
جمعية الأخوات
إلى جانب أم أسامة تجلس العديد من النساء، يأتين من الضفة الغربية أو من الخليل أو بيت لحم أو نابلس، حيث يبعن بضائعهن أيضًا في شوارع البلدة القديمة، ويواجهن مخاطر الاعتقال والمصادرة، هؤلاء النساء يعرفن قصص بعضهن البعض جيدًا، ويبحثن ويتفقدن بعضهن كل يوم، وأحيانًا يتركن بضائعهن بأمانة نساء السوق في حال اضطرت إحداهن للمغادرة، كما يقمن بتحذير زملائهن في حال مرور المسؤولين من البلدية، حيث يجب على كل البائعات حينها لملمة البضاعة على عجل والانضمام إلى زوار السوق.
أم محمد
أم محمد (67 عامًا) هي إحدى الأخوات العاملات في السوق، ومثل أم أسامة، عمل أم محمد هو المورد الوحيد لرزق عائلاتها، زوجها تركها قبل 20 عامًا مع ثمانية أطفال صغار وتزوج من زوجة ثانية، ولكنها تقول “أنا لست بحاجة له في حياتي، لقد تمكّنت من إرسال بناتي للدراسة في الجامعة، ولكن ابني لم يتابع دراسته لأنني لا يمكنني تحمل نفاقاته”.
أم محمد تبدأ يومها في الساعة الـ 4:30 صباحًا، وفي الليل المظلم تستقل سيارة أجرة من مدينة يطا إلى الخليل ومنها إلى بيت لحم ومنها تستقل الحافلة إلى القدس، وتشرح أم محمد عملها ومعاناتها بقولها “الآن بعد أن أصبح عمري 67 عامًا لم يعد الجنود يهتمون لأمري، ولكن لسنوات عديدة، كان علينا أن نتسلل من خلال الطرق الخلفية في الجبال لتجنب الجنود في نقاط التفتيش، وأحيانًا كنا نبدأ رحلتنا في الساعة 2:30 صباحًا”، وتضيف “الجنود كانوا يوقفونا ويجبرونا على العودة، ولكننا لم نكن نعود إلى منازلنا، وحينها لم يكن الجدار قد اكتمل بعد، لذا كنا نستعمل الطرق البديلة لتجنب نقاط التفتيش، وهذه الطرق كانت صعبة وطويلة، حتى أحيانًا كان يستغرق معنا الطريق حوالي 12 ساعة لنصل إلى البلدة القديمة، كل هذا لنأتي ونعمل هنا”.
تتابع أم محمد بقولها “هم لا يفهمون، الإسرائيليون لا يفهمون أن لدي ثمانية أطفال، وهؤلاء يحتاجون لشخص يعمل حتى يطعمهم ويشتري لهم الملابس واحتياجات المدرسة، أنا لن أقبل التبرعات أبدًا من أي شخص، أريد فقط أن يسمحوا لي بالعمل لإطعام أطفالي وتعليمهم، أنا أعمل منذ 20 عامًا، وبعض أولادي تزوجوا، والبعض الآخر تخرجوا من الجامعات، ولكنهم بلا وظيفة، عندما يسألني الجنود على الحاجز عن وجهتي، أقول لهم إنني ذاهبة للصلاة في الأقصى”، حيث تعمد أم محمد إلى دس الجبن والحليب وإخفائهما ضمن ثوبها الفلسطيني الطويل لتبيعهما عند وصولها إلى البلدة القديمة.
وبعد صلاة العشاء، تجمع أم محمد بضائعها وتبدأ برحلة طريق العودة إلى يطا، وفي أحسن الأحوال تصل إلى منزلها الساعة الثامنة مساءً بدخل يبلغ نحو 10 دولارات.
ماريا
بالقرب من أم محمد و أم أسامة تجلس ماريا، من قرية أرطاس بالقرب من بيت لحم، تبيع المريمية والنعناع وورق العنب في المدينة القديمة منذ عام 1989، ولكنها لم تكن طوال عمرها بائعة، حيث تقول “كان لدينا أرضنا وعشنا منها، ولكن الإسرائيليون صادروا الأراضي ولم يتركوا شيئًا لنا”، وتتابع ماريا قائلة “كنا مكتفين ذاتيًا، وعملنا في أرضنا، لم نكن بحاجة إلى أي شخص، فقط كنا نريد أن يتركونا وشأننا”.
أرطاس تقع بالقرب من مستوطنة إفراتا الإسرائيلية، حيث عانى أهلها لسنوات عديدة من مصادرة الأراضي، وعلى الرغم من أن بعض الأراضي لاتزال في أيدي أصحابها الأصليين، إلا أنه تم تخريب العديد من الأراضي سواء عن طريق اقتلاع الأشجار أو منع الزراعة بغية تطوير المستوطنة المجاورة.
ماريا، مثل أم محمد، تغادر منزلها في الساعة الثالثة أو الرابعة صباحًا مع النساء الفلسطينيات اللواتي يبحثن عن حياة أفضل، والنساء اللواتي يتم إيقافهن من قِبل حواجز الجيش الإسرائيلي، يتابعن طريقهن عبر الجبال، وتعلق ماريا على هذا الموقف بقولها “إنهم يعرفون أننا سنصل إلى هناك بطريقة أخرى، ولكنهم لا يريدوننا أن ندخل القدس بطريقة محترمة، يريدون أن نشعر أننا لصوص”.
عندما سألتُ ماريا عن رأيها بالمرأة الفلسطينية، قالت لي “إنها بطلة، إنها شجاعة ومخلصة، هذه المرأة تعطي العالم بأسره درسًا في القوة والحياة”.
المصدر: ميدل إيست آي