يقول درويش: “وأنت تعد فطورك فكّرْ بغيرك، وأنت تنام وتحصي الكواكب فكّرْ بغيرك! ثمة من لم يجد حيزًا للمنام وأنت تحرّر نفسك بالاستعارات، فكّرْ بغيرك من فقدوا حقهم في الكلام!”، ويجول فكري بشأن غيري مِمّنْ لا يملكون حق الطعام، حق المنام، حق النفس حتى! والفكر فيهم يُوجِع أيما وجَع، يوجع مُترفًا مثلي يتدفّأ بثيابٍ ثقيلة، وينام على فراشٍ لين، ويرى السماء، ويدب على الأرض متى شاء، أنْ تمشي، أن تقوى على النهوض من فراشك والمشي في أيّ اتجاهٍ، هذا ما لا يملكه محمد سلطان! ما الذي قد يكتبه أسيرٌ مثلي، عن حر كمحمد سلطان؟!
منذ أشهر وقفت الفتاة الإيرانية ريحانة – التي أُعدمت لأنها قتلت مغتصبها – وهتفت: “العالم لا يحبنا يا أمي؛ لذا سيتركني أُعدَم”، وصمتَ العالم كله! ثم مجددًا صمت العالم حين هتف محمد وقال: “ألا تعني حياتي شيئًا بالنسبة لكم؟! هل أصبحتْ حياتي بلا قيمة كمواطن أمريكي، فقط لأنّ اسمي محمد؟!”.
فقط لأنه محمد، فلن يلتفت له العالم، ربما لو كان – كما قال – يملك شعرًا أشقر وعيونًا زرقاء، لقامت الدنيا ولم تقعد كما حدث مع زملائه في المواطنة الأمريكية الذين تم اعتقالهم لدى نفس العسكر عام 2012.
يقول درويش أيضًا: “وأنّك حرٌ وحيٌ حين تُنسى!”، سلطان حرٌ بلا شك رغم نسياننا، لكن .. هل هو حي؟! نحن ننسى، ونمضي ونثرثر وننظر ونيـأس وننعزل ونكتئب، ومحمد ثابت لا يتزعزع، يُضرب كليًا عن الطعام ثم يحتجّ جسدَه ويرفض الإضراب ولا يُعيره محمد اهتمام، يضيق به جسده حتى الدماء في عروقه تكفّ عن مطاوعته، تتجلّط في رئتيه ويصبح النَّفس عسيرًا عليه إلى حدٍ بعيد، ومحمد يكمل إضرابه غير مكترث، تناشده عائلته بأن يرفق بنفسه، ثُم .. بضجرٍ وبعد عدة جلطات وإغماءات، يشرب الماءَ جسده، لايزال يأن ويذبل أمامه، يدرك محمد جيدًا أنه يمضي إلى حتفه، يغازله الموت كل عشية، يطلّ برأسه السوداء عليه ويقول: ها يا هذا أي جزء منك ستعطيني الليلة لألتهمه؟، يبتسم محمد – وهو لا يقوى على الابتسام – للموت بسخرية، وتتحرك شفتاه يحاول أن يهمس، تخرج الحروف متقطعة متباعدة عن بعضها البعض، لكنها مفهومة: ” أ نـ ا .. حُـ ر “، يغتاظ الموت ويصفع باب الزنزانة، ويمضي حانقًا على صاحب البضع وعشرين عامًا، كيف يزاول الموتَ ولا يهابه؟!
“تكبييير” هي الجملة التي نقولها ونبتسم حين يمر بخاطرنا طيف والد محمد، الدكتور صلاح سلطان، “تكبييير” يهتف بها، فيهتز الميدان بجنباته، يكبّر الناس وتُكبّر الأرض ويكبر الشجر والحجر كخلقٍ من خلق الله، يقف بجوار ولده في المحكمة ويضع يده على جبهته، يسحب محمد يد والده ويقبلها ويستمد منها قوته، ويضعها الوالد مجددًا على جبهته ويعيذه بكلمات الله التامات، ويكبر ويهمس له: “الله أكبر الله أكبر من أن يؤذيني في فلذة كبدي، الله أكبر من كل ظالم”، ويهتزّ عرش الظالم بتكبيره، ويكبر الحجر والبشر ويكبر باب الزنزانة الذي بات شاهدًا على ما يضنيه، ويكبر من يسمع تكبيره؛ لأنهم خلق من خلق الله، إلا السجان فلا يعرف الله ابتداءً، يصرخ فيهم “ولدي يذوي ولدي قد نقص وزنه بشكل مريع”، وهم كذلك يا سيدي، قد نقصت إنسانيتهم بشكلٍ مريع، يقول “أحمّلكم مسؤوليته أمام الله”، وهم يا سيدي لا يعرفون الله أصلاً، يبحث عندهم عن بقايا إنسانية، وهو يعلم أنه يحدّث داعرًا ليطلب منه العدل، يظن أن الإنسانية قاسم مشترك بين كل بني جلدته، ويثبتون هم أن الحيوان يرحم ويحس أكثر مما يحس القاضي الذي اختاره الله بغضًا له لظلم محمد ولهدم الإنسان الذي هو بنيان الله في أرضه، ملعون من هدمه، واختاره ليحكم على صحفيي الجزيرة بالسجن عشر سنوات، واختاره لظلم خلق كثير، ثم اصطفاه ليفضحه في الدنيا بفضيحة أخلاقية، وعسى أنْ يبلغه الله قعر جهنم.
أنت تخيفهم يا محمد! أيُّ رضى من الله يتنزل عليك؟! وأيُّ قوة ينفخها من روحه في روحك لترهبهم، فتُقيّد يدك للسرير، وأنت أصلاً لا تقوى على الحراك؟! تطل علينا صورة محمد وهو ثابت لا يتزحزح، يحاول سجانه الضغط عليه، يحاول دفعه للجنون! عزله في السجن الانفرادي، منعه من رؤية والده، يضغط النظام القذر بكل ما أوتي من قوة ليصبح محمد مجرد رقم، مجرد مسجون عادي ككل المساجين، تخرج لنا الصورة بعد عام ونصف من إضرابه ممددًا على سرير السجن يتسلل من فمه خيطٌ رفيعٌ من الدم ليلطخ الوسادة، ويلطخ وجوهنا جميعًا بلا استثناء، ليهمس في آذاننا: كلكم مذنبون، لا استثني أحدًا سواءً بالمشاركة أو بالصمت العاجز الموافِق قليل الحيلة .. كلنا مذنبون!