تناولت في مقال سابق محاور الصراع المرتقبة خلال السنوات القادمة وفق المعالم الجديدة للمشهد السياسي التونسي عقب الاستحقاقين الانتخابيين الماضيين في البلاد، وكان من بين المحاور التي تم الإسهاب في تحليلها صراع متوقع بين اتحاد الشّغّالين وبين الحزب الفائز في الانتخابات نداء تونس، وكما كان متوقعًا بدأ هذا الصراع بالتبلور معلنًا جولة جديدة من صراع الاتحاد مع السلطة بعد الثورة.
الاتحاد أثبت أنه “ماكينة ترحي”
إثر انتخابات المجلس التأسيسي التونسي عقب الثورة والذي عهد إليه صياغة دستور الجمهورية الثانية وتشكيل حكومة تنبثق عنه لإدارة شؤون البلاد في الفترة الانتقالية، صرح عبيد البريكي الأمين العام المساعد للاتحاد العام التونسي للشغل في برنامج تليفزيوني بأن “الاتحاد ماكينة ترحي” ومثّلت هذه الكلمات عنوان مرحلة كاملة امتدت على أكثر من سنتين، فصعود المحافظين في تونس لسدة الحكم لم يكن سهل الهضم لدى المُتكلّسين أيديولوجيًا، باعتبار أن نتائج الانتخابات سببت صدمة حادة لدى أقصى اليسار الذي مُني بهزيمة قاسية مقابل اكتساح لغريمه الأيديولوجي الذي ما فتئ يتصارع معه منذ ظهوره وتشكّله الصريح في سبعينات القرن المنقضي، وبالنظر إلى ضعف تمثيله تحت قبة البرلمان، بحث الأخير عن أدوات أخرى للتعبير سياسيًا وبشدة عن مواقفه ووجد ضالته في الاتحاد العام التونسي للشغل الذي يعلم جميع المطّلعين على كواليسه بأنه منظمة وطنية تمكّن منها اليسار منذ سنوات مستفيدًا من تقاليده في العمل النقابي ولا أدل من ذلك انتماء البريكي نفسه لحزب الوطنيين الديمقراطيين أحد مكونات الجبهة الشعبية اليوم (ائتلاف لعدد من أحزاب أقصى اليسار).
وكما هو الحال في كل الثورات التي تكسر حاجز الخوف، تميزت الفترة الانتقالية بارتفاع منسوب المطالب لدى قطاعات واسعة من الشعب التونسي وهو ما وجه بذكاء ليتترجم في شكل سلسلة منظمة من الإضرابات التي قوّضت أي إمكانية للإصلاح لدى حكومة الترويكا وأضرب الاتحاد كما لم يضرب أبدًا طيلة 23 سنة من حكم المخلوع وكانت النتيجة تعطيل للمؤشرات التنموية والاقتصادية المتهالكة أصلاً، وخلُص الجميع إلى أن الاتحاد ماكينة أحمق من يُعكر مزاجها.
بعد الحوار الوطني .. للاتحاد حجم آخر
لا يمكن أن نختلف حول الرصيد النضالي لاتحاد فرحات حشاد ولا حول دوره الاجتماعي الراسخ سواء أثناء مسيرة التحرر الوطني من الاستعمار أو ما بعد ذلك، كما لا يمكن أن يختلف ذات الاثنين حول حقيقة أن نظام المخلوع لم يتوان في تدجين ما أمكن تدجينه داخل هذه المنظمة العريقة مما ساهم في تقهقر حضورها الوطني إشعاعًا وموقفًا؛ أثناء الحراك الثوري الديسمبري، ظل موقف الاتحاد رماديًا ولولا ضغط بعض المكاتب الجهوية لجاز الحديث عن خذلان المنظمة العريقة لأحلام شباب تاق للتغيير ذات شتاء قان.
تراجع المنظمة لم يدم طويلاً، فبعد الانتخابات وما لعبته من دور بالوكالة في علاقة بحكومات الانتقال الديمقراطي كما بيّننا في الفقرة السابقة، مثلت حادثة اغتيال البراهمي نقلة نوعية في حجم الاتحاد من عنصر مؤثر إلى عنصر محدد، فالرباعي الراعي للحوار (الرباعي الذي قاد حوار وطنيًا عقب الاغتيال السياسي الثاني وعقب انسحاب المعارضة من أشغال كتابة الدستور) وإن ساهم حسب محللين في إخراج تونس من أزمتها السياسية، إلا أن حقيقة كونه خلق مؤسسة قرار موازية ثابتة أيضًا فالاستقواء به لفرض ما فُرض على حركة النهضة وحُلفائها لا شك فيه.
قبل الانتخابات التشريعية بأيام قليلة، وعندما كانت هناك توقعات بأن تفوز حركة النهضة مرة أخرى، دار حديث حول ضرورة تواصل إطار الحوار الوطني بالنظر “لنجاحه” في نزع فتيل “الأزمات السابقة” ومع نشر النتائج وحلول نداء تونس في المرتبة الأولى تحول الحديث إلى أن دور الرباعي انتهى وبأن المؤسسات المنتخبة هي المطالبة بإدارة الشأن العام في تونس الجديدة، ولكم التعليق.
الحوار الوطني منح للاتحاد بعدًا آخر لن يتمكّن بسهولة من قبول تجريده منه كما أنه بات اليوم بمثابة الطرف الذي يُستعمل للاستقواء به على حركة النهضة وشركائها في الطرح السياسي متى حضرت الحاجة.
حكومة تتغير بها التحالفات والمواقف
لم يكن من السهل على نداء تونس تشكيل الحكومة عقب فوزه بالانتخابات الرئاسية والتشريعية، فبالإضافة لغياب الطابع المؤسسي لهذا الحزب وأيضًا تناحر قياداته من أجل الظفر بحقائب وزارية، ساهم اشتراط الجبهة الشعبية عدم تشريك حركة النهضة للقبول بالحكومة في تعقيد المسألة، ورغم أن حكومة الصيد الأولى كانت ذات لون يساري صرف خالية من أي حضور نهضوي، إلا أن الجبهة الشعبية عبّرت عن رفضها لهذه الحكومة ليتم ضم الأخيرة للائتلاف الحاكم بهدف توسيع قاعدتها السياسية.
حكومة حيّد بها نداء تونس مؤقتًا حركة النهضة صاحبة الكتلة الثانية تحت قبة البرلمان وصاحبة الامتداد الشعبي الكبير والخبرة الواسعة في الفعل المعارض، إلا أنها أنهت بحسب مراقبين تقاطع المصالح بين النظام القديم وأقصى اليسار الذي حضر وبقوة بهدف إخراج حركة النهضة من الحكم منذ سنتين.
تغير التحالفات والمواقع لم ننتظر كثيرًا لنلمسه على أرض الواقع، فإضراب أساتذة التعليم الثانوي الذي جوبه بحدة من طرف وزير التربية الندائي فُهم منه توجه الحزب الفائز في الانتخابات لصدّ “نهم” الاتحاد في علاقة بمطالب رفع أجور الموظفين في ظل عجز غير مسبوق في الموازنات المالية العامة للدولة التونسية، وهو مادفع نقابة الأساتذة للتصعيد من خلال جملة من الإضرابات كان آخرها عدم إجراء امتحانات الثلاثي الثاني في سابقة هي الأولى في تاريخ ما بعد الاستقلال.
في ذات السياق، تنطلق خلال أسابيع المفاوضات الاجتماعية بين الاتحاد العام التونسي للشغل والحكومة بهدف رفع أجور عملة القطاع العام؛ مفاوضات تدخلها المنظمة الشغيلة بطلب واضح وهو رفع جميع الأجور بما مقداره مائة دينار تونسي وهو ما يتفق جميع المحللين الاقتصاديين على استحالة توفيره ورصد اعتماداته مما يُنذر بأزمة مرتقبة بين الطرفين.
يبدو أن كلا الطرفين يستعد للمفاوضات الاجتماعية وما الحدة والحدة المضادة سوى تحسين لشروط التفاوض وعلى عكس “الارتياح” الذي لقيه الاتحاد في فرض أجندته الاجتماعية والسياسية على حكومة الترويكا، سيُعاني الأمرّين في مواجهته لنداء تونس الذي يحوي في رصيده جزءًا هامًا من النظام القديم المتمركز جيدًا في الإدارة التونسية والقادر على خلق الفارق بالإضافة إلى سيطرته على الإعلام الذي وإن هلل لإضرابات العمال في عهد الترويكا بات اليوم لها مشيطنًا.
بين الرجوع للمربع الطبيعي والتدجين
يسود حديث هنا في تونس حول أن النظام القديم هو الوحيد القادر على إرجاع الاتحاد العام التونسي للشغل لمربعه الطبيعي كمنظمة وطنية متحررة من التحكم الحزبي لبعض الأطراف النافذة فيه بحكم تموقعه الجيد في الدولة بل ويعتبر البعض بأن النزال بين الاثنين الذي سيشتد قريبا مع انطلاق المفاوضات الاجتماعية ومع اقتراب مؤتمر الاتحاد في سنة 2016 سينتهي بإرغام أحد الطرفين على الرضوخ للآخر.
يعاني الاقتصاد التونسي اليوم من تبعات الإضرابات العشوائية التي شنتها نقابات الاتحاد منذ أربع سنوات، ورغم تثمين المجهود المبذول الرامي لتحسين القدرة الشرائية للعامل، إلا أن المسحة السياسية الحزبية باتت مؤرقة ومنعت الاتحاد بأن يضطلع بدور طلائعي في مسألة إعادة بناء الاقتصاد الوطني، والمصلحة الوطنية اليوم حسب بعض المراقبين تقتضي تعقيم الاتحاد من الشوائب التي حولت تلك الطاقة البشرية الهائلة إلى معوق حقيقي من معوقات مرحلة البناء.
من جهة أخرى، الاتحاد العام التونسي للشغل كان وسيظل مظلة أوى إليها المضطهدون في النظام السابق وبإمكانه أن يلعب دورًا محوريًا في حماية الديمقراطية النّاشئة من الانتكاس خاصة وأن المرحلة يقودها حزب مفكك باتت خصومات قيادييه تذاع في الفضائيات وبات استعمال الوثائق السرية الخاصة بالدولة لابتزاز بعضهم البعض أمرًا عاديًا، فالنظام القديم الذي دجن الاتحاد سابقًا وحوله إلى أداة من أدواته لن يرفض إعادة الكرة متى سنحت له الفرصة.
وفي انتظار توضح معالم الصراع خاصة وأن الخلاف الداخلي في نداء تونس قد يدفع البعض لتوريط الاتحاد فيه، لا يسعنا إلا أن نقف بين مساحة “التحجيم الضروري” ومساحة “التدجين الممنوع” حتى نمنع الأخير من التحقق.