يعود أقدم مقهى في العاصمة البولندية وارسو (وارشاوا) إلى أواخر القرن الثامن عشر، وهو يعمل بلا انقطاع تقريبًا منذ ذلك الوقت، ليشهد على كل ما مرّت به بولندا، بدءًا من اختفائها كدولة من على الخريطة عام 1795، حين تم تقسيم أراضيها بين ألمانيا وروسيا وإمبراطورية النمسا والمجر، وحتى عودتها للوجود بعد الحرب العالمية الأولى لفترة قصيرة، قبل أن يدخلها النازيون في الحرب العالمية الثانية، ثم تصبح جمهورية شيوعية تدور في فلك الروس حتى عام 1989.
هنا عزف الموسيقار فريدريك شوبان بعضًا من مؤلفاته قبل أن يرحل إلى باريس في القرن التاسع عشر، بعد خروج الكثير من المثقفين البولنديين من البلاد إثر تقسيمها، وهنا شهد المقهى عنصرية وجرائم النازيين، حين جعلوه مقصورًا على الألمان بعد احتلالهم لوارسو، قبل أن يدمروه أثناء انسحابهم كما دمروا العاصمة كلها، ليعود للحياة بعد إعادة بنائه من خلال الصور الفوتوغرافية، ويظل مملوكًا للدولة طوال الحكم الشيوعي.
اليوم أصبح المقهى مملوكًا لرجل الأعمال البولندي أدام رينجر بالشراكة مع شركة كافّيه نيرو البريطانية المعروفة، بعد أن تبنّت البلاد سياسات السوق الحرة بقوة خلال العقدين الماضيّين، لتدخل الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، وتصبح سادس أكبر اقتصاد أوروبي بعد الخمسة الكبار؛ ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وإيطاليا وأسبانيا، وتحلق بعيدًا عن الكثير من دول شرق أوروبا التي تعرقلت مسيرتها نحو أوروبا مؤخرًا، أو لاتزال روسيا تحاول جذبها للشرق.
“أتذكّر جيدًا كيف كانت وارسو منذ عشرين عامًا، لقد كانت رمادية وقذرة، وكان مزاج البولنديين آنذاك سيئًا جدًا ويتسم بالعصبية”، هكذا أخذ يتذكّر رينجر وهو جالس على المقهى الذي يمتلكه في قلب العاصمة، والتي تتمتع مثل بولندا كلها بواحدة من أكثر الفترات استقرارًا ونموًا في تاريخها المعاصر، وتعج الآن بالمحال التابعة للشركات العالمية، حيث يلفت الأنظار الآن معرض سيارات فيراري، الذي حل محل مقر الحزب الشيوعي سابقًا.
العقد الذهبي
حين سقط الستار الحديدي الذي فصل دول حلف وارسو عن بقية أوروبا عام 1989، كانت بولندا على حافة الإفلاس، بقطاع زراعي شبه ميّت، وبنية تحتية متهالكة، وناتج قومي أقل من نظيره الأوكراني، وكانت الأنظار كلها موجهة للتشيك وسلوفاكيا (تشيكوسلوفاكيا آنذاك) والمجر بشكل أساسي، باعتبارهم الأكثر قدرة على التعافي، أما بولندا وأوكرانيا، فلم يكن الكثيرون متفائلين بتحسّن أحوالهما سريعًا.
على عكس التوقعات، انطلقت بولندا على طريق الإصلاح السياسي سريعًا بتدشين مؤسسات ديمقراطية ورفع كافة القيود على حرية الرأي وممارسة السياسة وتفعيل مجتمعها المدني، ثم تبع ذلك إصلاح اقتصادي شامل؛ ليصبح اقتصادها اليوم ثلاثة أضعاف أوكرانيا، ومتوسط دخل المواطن فيها أعلى من نظيره الروسي، ولتحقق نموًا مرتفعًا مقارنة ببلدان أوروبية عدة تعاني من أزمة اليورو، خاصة وأنها لم تدخل السوق الأوروبية واحتفظت بعملتها (زلوتي) لتعطيها مرونة في التعامل مع الأزمات المالية.
لا يعود الفضل في هذا “العقد الذهبي” البولندي إلى السياسات الرأسالمية بالضرورة، وهي محل خلاف إلى اليوم رُغم نجاحها النسبي في بولندا، ولكن إلى اهتمام الاتحاد الأوروبي، وألمانيا بالتحديد، بالبلاد نظرًا لأهميتها في شرق ووسط القارة، إذ جلب دخول بولندا إلى الاتحاد عمالة كبيرة رخيصة، ومساحات شاسعة من الأراضي الزراعية، بالإضافة إلى تأمين جبهته الشرقية، مما دفعه إلى تخصيص حوالي 100 مليار يورو لدعم الاقتصاد البولندي بين عامي 2007 و2013، لتصبح المستفيد الأكبر من المعونات الأوروبية فيما سماه البعض خطة مارشال البولندية، وهي أموال تم استثمارها في كافة أنحاء بولندا، من تنظيف الأنهار إلى تحديث السكة الحديد، ومن تعزيز الإصلاح الإداري وحتى ضمان استمرار الديمقراطية على مستوى مؤسسات الدولة.
على العكس من دول كثيرة في شرق أوروبا تناثرت فيها أموال الدعم الأوروبي بين شبكات الحزب الحاكم ورجال الأعمال الخارجين من رحم النظام القديم، نجحت بولندا في إنفاق الأموال الأوروبية بكفاءة في الخدمات العامة، واستغلت استضافتها مع أوكرانيا لبطولة أمم أوروبا عام 2012 في تجديد وتوسيع بنيتها التحتية في شتى أنحاء البلاد، من محطات القطار والمطارات وحتى الميادين والملاعب الجديدة، وكذلك الطرق السريعة التي تضاعفت خمس مرات خلال العقد المنصرم، بعد أن كان الطريق السريع الوحيد في بولندا هو الذي بناه هتلر أثناء الاحتلال، والممتد من غرب البلاد إلى شرقها، والمعروف بـ “أطول سُلَّم في أوربا”، نظرًا لاهتزاز السيارات بشدة أثناء مرورها على ألواحه الخرسانية.
هنا، حيث ترك الألمان ذكريات سيئة كثيرة، تتمتع ألمانيا بواحدة من أقوى علاقاتها السياسية والاقتصادية مع دولة أخرى، فيما يبدو أنها محاولة لمحو آثار الماضي، وبالطبع تعزيز ارتباط بولندا بغرب ووسط أوروبا على حساب أي ميول نحو موسكو، وهي محاولات ناجحة على ما يبدو، لاسيما وأن سياسات الروس نفسها في عهد ستالين هي التي عبّدت الطريق نوعًا ما لاتجاه بولندا أكثر نحو ألمانيا بشكل خاص، والغرب بشكل عام.
بين بولندا وألمانيا
لطالما لعبت الجغرافيا دورًا كبيرًا في التراجيديا التي عانتها بولندا على مدار قرنين، أولًا لأن البولنديين سكنوا منطقة مبسوطة إلى حد كبير، وذات سهول مفتوحة على شرقها وغربها، بدون أي حدود طبيعية تفصلهم عن جيرانهم، مما جعلها تقع بسهولة فريسة للغزاة من كافة الاتجاهات، بل وحتى من السويديين في شمالها، الذين لا يفصلهم عنها سوى بحر البلطيق، وثانيًا لأن موقعها وضعها بين القوتين الألمانية والروسية.
ظلت بولندا تلعب دورًا محوريًا في تاريخ أوروبا، ووقفت بوجه التوسع العثماني إلى جنوبها حين اتحدت مع دول البلطيق في الكومنوولث البولندي الليتواني Polish Lithuanian Commonwealth، حتى ظهرت كلٌ من موسكو وبرلين على الساحة وأطبقتا عليها بسهولة في القرون الأخيرة، لتتلاشى أو تصبح بالكاد دولة من الدرجة الثانية تحرّكها القوى الأوروبية الكبرى كيفما شاءت.
ماذا فعل ستالين إذن في بولندا؟ لقد غيّر ببساطة من حدودها التاريخية بعد الحرب العالمية الثانية، إيمانًا منه بضرورة توسيع المجال للنفوذ السوفيتي، حيث دفع بغالبية البولنديين إلى الغرب، نحو أراضي كانت حتى قيام الحرب تابعة لألمانيا وتعج بالألمان، لتصبح تلك الأراضي التابعة لألمانيا المهزومة نوعًا من التعويض لهم بعد استحواذ روسيا على شرق بولندا، وتشهد طرد ملايين من الألمان من بيوتهم في بولندا الجديدة إلى ألمانيا الشرقية والغربية ودخول غيرهم من البولنديين المطرودين من الشرق.
تغيّرات الحدود البولندية بعد الحرب العالمية الثانية – بولندا قبل الحرب بالأبيض، وما فقدته إلى شرقها موضّح بالحدود الرمادية، وما حصلت عليه في غربها وشمالها بالرمادي
كان قرار موسكو نوعًا من العقاب لألمانيا كما رآه ستالين، وكذلك لبولندا، ولكنه اليوم يبدو كخطأ إستراتيجي فادح، إذ كانت نتائجه على المدى البعيد أن تصبح بولندا جزءًا من المدار السياسي والاقتصادي الألماني، وهو ما وقع بالفعل منذ دخولها للاتحاد الأوروبي ونمو روابطها الاقتصادية بألمانيا بشكل مطرد، حيث سعت ألمانيا منذ خروج بولندا من الهيمنة الروسية إلى تعزيز نفوذها بدلًا من محاولة ادعاء ملكية أي أراضي في غرب بولندا – رُغم أحقيتها التاريخية في ذلك – لتتفادي بذلك خطأ ستالين، إذ كان من الممكن لأي محاولة من هذا القبيل أن تخلق توترًا مع بولندا يدفعها نحو الروس، ويعيد لأذهان البولنديين ذكريات النازية.
بدلًا من ذلك، لم تجد ألمانيا غضاضة من قبول الواقع كما هو؛ التعامل مع بولندا واقعة في الحقيقة في جزء من ألمانيا التاريخية، في مقابل فتح البلدين على بعضهما بشكل كبير، مع تمتّع برلين بالطبع بالقوة الاقتصادية والسياسية فيهما ككتلة كبيرة، حيث تُعَد بولندا الآن جزءًا أسياسيًا من مكنة التصدير الألمانية بوجود آلاف الشركات فيها، مستغلين التكاليف المنخفضة لإنشاء المشاريع ليتمكّنوا من منافسة الصين المعروفة بمنتجاتها الرخيصة، وجالبين معهم الجودة العالية إلى السوق البولندية في نفس الوقت، لتوسيع قاعدة الإنتاج الألماني ومنافسة شرق آسيا، الأكثر اتساعًا وتعدادًا بطبيعة الحال.
المثال الأبرز هنا هو قطاع صناعة السيارات، إذ تُعَد بولندا اليوم جزءًا محوريًا من نجاح صناعة السيارات الألمانية، حيث ينتج مصنع فولكس فاجن، وهي أكبر شركة ألمانية، حوالي 155.000 سيارة من مصنعِه في مدينة بوزنان البولندية سنويًا، وبمجموعة موظفين يبلغ عددها 6.900، كما توظّف شركة مان MAN حوالي 4.000 بولندي في ثلاثة مصانع تنتج الشاحنات الثقيلة وحافلات المواصلات العامة، وليس أدل على أهمية تلك العلاقة سوى قوة قطاع إنتاج السيارات في بولندا وتربّعه على عرش التصدير البولندي، رُغم أن بولندا في الحقيقة لا تملك سيارة خاصة بها معروفة عالميًا.
محور ألماني بولندي؟
نظرًا لأهميتها في عمليات الإنتاج الألمانية، والتي تشكل قاعدة قوة الألمان بسبب اعتمادهم على التصدير بشكل كبير في بث نفوذهم السياسي في أوروبا (تصدّر ألمانيا حوالي نصف ناتجها القومي حيث تفوق قدرتها الإنتاجية حاجة سكانها)، يتزايد بالتبعية نفوذ بولندا على السياسة الألمانية والعكس، وبالنظر للتقارب السياسي الكبير الحادث بينهما في السنوات الأخيرة، خاصة في عهد رئيس الوزراء البولندي دونالد توسك، القيادي الأبرز في بولندا منذ نهاية الشيوعية، يتحدث كثيرون الآن عن أن المحور الأساسي في أوروبا، بين ألمانيا وفرنسا، سيتحوّل قريبًا إلى محور ألماني بولندي، خاصة مع تراجع فرنسا وركودها الاقتصادي.
تباعًا، يبدو وأن القوة الأوروبية، والتي اعتمدت على غرب أوروبا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ستنتقل إلى قلب القارة، لاسيما وأن جذب شرق أوروبا باتجاه الغرب والاتحاد الأوروبي عن طريق بولندا سيكون أقوى كثيرًا نظرًا للروابط التاريخية والثقافية واللغوية التي تربط البولنديين بشعوب شرق أوروبا، على عكس الألمان سيئي السمعة في بعضٍ من هذه البلدان بسبب تاريخهم النازي، ونظرة البعض لهم باعتبارهم قوة تحاول التوسّع الاقتصادي ليس إلا.
ما إذا كانت بولندا ستستطيع أن تحل محل فرنسا بالفعل هو أمر ستكشف عنه السنوات، أو ربما العقود القادمة، بيد أن صعود بولندا سيتطلب بالطبع أن تصبح أكثر من مجرد مصنع ألماني كبير، خاصة إذا ما أرادت أن تتمتع باستقلالية في سياساتها عن برلين، وهي مسألة ستزداد إلحاحًا على ما يبدو بالنظر لاختلاف وجهات النظر بخصوص العلاقات مع روسيا، والتي تحرص عليها ألمانيا بشكل شديد لأهميتها للتصدير الألماني، في حين تنظر لها وارسو القريبة منها بالكثير من الشك والقلق، وتحاول أن تدفع أوروبا نحو مواجهة روسيا بشكل أشد، وهي محاولات لا تملك بولندا حاليًا القوة الكافية لتطبيقها، ولكنها مرشحة لامتلاكها في المرحلة القادمة.
ماذا يحمل المستقبل للبولنديين إذن؟