ترجمة وتحرير نون بوست
منذ أحداث سبتمبر، تنظر واشنطن إلى تنظيم القاعدة على أنه أكبر تهديد للولايات المتحدة، وعلى أنه التهديد الذي يتوجب القضاء عليه بغض النظر عن التكلفة أو الزمن، وبعد تصفية أسامة بن لادن من قِبل واشنطن في عام 2011، أصبح زعيم القاعدة الجديد أيمن الظواهري الهدف الجديد لأمريكا، ولكن الظروف الحالية التي تتسم بعدم الاستقرار في الشرق الأوسط في أعقاب الثورات العربية، وصعود تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام “داعش”، تطلبت من واشنطن أن تعيد النظر في سياستها تجاه تنظيم القاعدة، خاصة في ظل أن استهداف الظواهري في هذا الوقت، سيعمل على زعزعة استقرار تنظيم القاعدة، وهذا في الواقع سيقوض الجهود الأمريكية الحالية المتوجهة نحو هزيمة داعش.
مما لا شك فيه أن الضربات القاسية التي وجهتها الولايات المتحدة إلى تنظيم القاعدة في أفغانستان وباكستان، أضعفت التنظيم كونها استهدفت قياداته المركزية، مما صعّب على التنظيم مهمة التخطيط لإجراء هجمات على الغرب، كما أن تحطيم القيادة المركزية للقاعدة أدى إلى مفاقمة الصعوبات التي كان يعاني منها التنظيم أساسًا في التواصل والإشراف على فروعه المختلفة المنتشرة في مناطق العالم، وهذا أدى بالتبعية إما إلى ابتعاد الفروع عن الإستراتيجية الأساسية للمنظمة الأم من خلال فتح جبهات قتال مع الأنظمة المحلية، أو إلى مبالغة الفروع بهذه الإستراتيجية من خلال استهداف المدنيين المسلمين وخصوصًا الشيعة؛ فعلى سبيل المثال، قام أبو مصعب الزرقاوي – الزعيم السابق لتنظيم القاعدة في العراق – بتنفيذ هجوم لم تتم الموافقة عليه في نوفمبر 2005، أسفر عن مقتل العديد من المدنيين في عمان، كما كان هذا الهجوم أيضًا خارج نطاق منطقته ومسؤولياته، هذه الانحرافات تسببت بإحجام فروع التنظيم عن الإسهام بالهدف الأسمى لتنظيم القاعدة المتمثل بمحاربة الغرب أو “العدو البعيد”، وباستثناء فرع القاعدة في اليمن، أصبحت مهام فروع “فرنشايز” تنظيم القاعدة محدودة في استهداف “العدو القريب” في مناطقها المحددة، وعلى الرغم من مساهمة هذه الفروع في انتشار تنظيم القاعدة، إلا أن الفروع ضمن فرنشايز القاعدة تحولت إلى فروع تعهد بالولاء للشركة الأم، بدلًا من أن تكون أصول مملوكة للعلامة التجارية المسماة بالقاعدة.
ولكن حاليًا، وإن كان تنظيم القاعدة لايزال يشكل تهديدًا خطيرًا، إلا أنه تهديد واحد فقط ضمن عدة تهديدات تنطلق من منطقة الشرق الأوسط، ومهمة واشنطن النابعة من هذه المنطقة لا تتمثل فقط باحتواء الطموحات الإيرانية الساعية للهيمنة والتوسع والتي تهدد حلفاء الولايات المتحدة، بل تتضمن أيضًا محاربة توسع داعش، وإن فشل واشنطن في مسعاها لتحقيق التوازن ما بين هذه المصالح المتباينة أصبح جليًا عندما ارتكبت خطأ شنيعًا بمواءمة قصف أهداف داعش في سوريا مع قصف مواقع جماعة خراسان – وهي خلايا تابعة لجبهة النصرة فرع تنظيم القاعدة في سوريا -، هذا الهجوم المزدوج عزز من المنطق الجهادي الذي يفترض أن واشنطن تعادي المسلمين السنة، ومستعدة للمساومة مع النظام العلوي القاتل للرئيس السوري بشار الأسد، كما أن هذه الضربات لم تقتصر على زيادة شعبية جبهة النصرة فقط – لأن السنة شاهدوا كيف قامت أمريكا بضرب المجموعة التي ركزت في المقام الأول على محاربة الأسد -، بل صعّبت من مهمة واشنطن في إقناع المتمردين السنة لمحاربة الدولة الإسلامية، ودفعت جبهة النصرة لمهاجمة الفصائل المتمردة المدعومة من الولايات المتحدة في شمال سوريا؛ ففي وقت سابق من هذا الشهر، أعلنت حركة حزم – جماعة معارضة ومعتدلة في سوريا تُدعم من الولايات المتحدة – عن حل الحركة بعد تعرضها لهزائم متوالية من جبهة النصرة.
إن تردد واشنطن في نشر قوات أرضية لمكافحة داعش، جعلها تحدد خياراتها في محاربة التنظيم باستخدام القوة الجوية والاعتماد على القوات البرية لحلفائها على الأرض، وهذه الإستراتيجية لها بعض المزايا، وأثمرت عن بعض النتائج حيث أدت إلى تراجع داعش من بعض المواقع التي احتلتها كما هو الحال في سنجار بالعراق وكوباني في سوريا، ولكن عدم الرغبة في استثمار المزيد من الموارد الأمريكية ضمن هذه الحرب تم على حساب تنازل قدمته الولايات المتحدة، يتمثل بتعويلها على إحداث أضرار محدودة وتراكمية بعيدة المدى في حربها ضد داعش، وهذه الأضرار بالطبع غير كافية لتدمير التنظيم والقضاء عليه.
نتيجة لهذا النهج المتبع من قبل أمريكا في التعامل مع الخطر الداعشي، استطاع التنظيم التأقلم مع الحملة الجوية الأمريكية وخلق حلول لها من خلال توسيع نشاطه إلى ما وراء الأراضي العراقية والسورية، حيث أعلن عن إنشاء ولايات جديدة في أفغانستان والجزائر وليبيا والمملكة العربية السعودية واليمن، وطرح شعار جديد يتمثل بـ “باقية وتتمدد”، وسلسلة الهجمات التي نفذها وكلاء التنظيم في شبه جزيرة سيناء وليبيا بيّنت مصداقية سعي تنظيم الدولة نحو التمدد، وساعد على التخفيف من الضربات الجوية في العراق وسوريا.
لكي يستطيع الرئيس الأمريكي باراك أوباما الوفاء بتعهداته المتمثلة بإضعاف ومن ثم تدمير داعش، يجب عليه إضعاف سيطرة التنظيم على المراكز السكانية الكبرى له مثل الموصل والرقة، ووقف توسع التنظيم واستيلائه على مناطق أخرى، وفي الواقع، ونتيجة لنهج الإدارة الأمريكية الحذر في التدخل العسكري، أصبح تنظيم القاعدة – الذي ينظر إلى داعش كتنظيم مرتد – لاعبًا مهمًا في الطموح الأمريكي للحد من نمو تنظيم الدولة.
ولكن ميزة عداء تنظيم القاعدة لتنظيم داعش التي قد تستفيد منها أمريكا قد لا تستمر طويلًا، كون المكاسب الإقليمية المفاجئة التي يغتنمها داعش، وقدرته على تجنيد حوالي 20.000 مقاتل – وهو عدد يفوق العدد الذي جندته أي منظمة إرهابية منذ عام 1980 وفقًا للمركز الدولي لدراسة التطرف والعنف السياسي – شكلا ضغوطًا عديدة على تنظيم القاعدة بشكل عام، وعلى فروع التنظيم المختلفة بشكل خاص، للانشقاق عن تنظيم القاعدة والانضمام لركب داعش الآخذ بالتوسع.
ومن خلال إعلان نفسه أنه الخليفة الإسلامي، كشف زعيم داعش أبو بكر البغدادي أن طموحاته تتجاوز السيطرة على العراق وسوريا، حيث طالب جميع الجماعات الجهادية الأخرى بمبايعته والتعهد بالولاء له، وإذا كُتب لمسعاه النجاح، فإن موقع البغدادي القيادي سيتعاظم بشكل كبير من خلال استيلائه على الأصول الإسلامية في جميع أنحاء الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وأوروبا، وإن مسعى الضغط على الجماعات الإرهابية بالتوحد تحت راية جماعة واحدة فقط، ازداد وتعاظم بعد انضمام الولايات المتحدة للحرب ضد داعش في أغسطس الماضي، حيث عمل كبار الجهاديين، مثل عبد الله محمد المحيسني في سوريا وأبو قتادة الفلسطيني وأبو محمد المقدسي في الأردن على دعوة جميع الفصائل إلى تجاوز الخلافات والتوحد ضد العدوان الأمريكي.
على الرغم من أن تنظيم القاعدة يتفق مع الدعوات التي تحفز على توحد الجهاديين والتعاون ضد عدوهم المشترك (الولايات المتحدة)، إلا أن التنظيم وفروعه يرفضون الانضمام لداعش عن طريق اتباع البغدادي، ورغم حقيقة أن الظواهري أقل تأثيرًا من سلفه بن لادن، إلا أنه استطاع حتى الآن الحفاظ على جميع فروع تنظيم القاعدة بدون انشقاق، حيث جددت جميع هذه الفروع بيعتها للظواهري بعد أن أعلن البغدادي خططه لإنشاء الخلافة، والواقع يشير أنه طالما استمر الظواهري على قيد الحياة، فإن قادة فروع تنظيم القاعدة الذين بايعوا الظواهري شخصيًا من غير المحتمل أن يحولوا ولاءهم وينشقوا للانضمام إلى داعش.
ولكن إذا نجحت واشنطن في قتل الظواهري، فإن قادة فروع تنظيم القاعدة سيكون لديهم الفرصة لإعادة تقييم موقفهم من البقاء مع تنظيم القاعدة أو الانضمام لخلافة البغدادي، من المحتمل أن يستطيع خليفة الظواهري أن يُبقي تنظيم القاعدة موحدًا، خاصة إذا تم اختيار ناصر الوحيشي – زعيم فرع تنظيم القاعدة في اليمن – لاستلام هذا المنصب، ولكن من المرجح أنه في ظل غياب الظواهري ستنجرف القاعدة نحو معسكر داعش، وستقدم لدولة الخلافة الرجال والموارد، وستسمح لها بالوصول إلى ساحات أخرى مثل الجزائر واليمن، وهما الساحتان اللتان لم يستطع تنظيم الدولة التوسع نحوهما بشكل كبير نتيجة لإعاقة هذا التوسع بهيمنة تنظيم القاعدة على هذه المناطق.
إضافة إلى ما تقدم، يمكننا القول إنه منذ عهد بن لادن، اعتمد تماسك تنظيم القاعدة على قدرة قيادته على جمع ولاء الفروع، ومن غير الواضح ما إذا كان تنظيم القاعدة قادر على تحمل قدوم قائد آخر للتنظيم، خاصة في ظل تضاؤل عدد الزعماء المخضرمين بالتنظيم بشكل كبير في السنوات الأخيرة الماضية، مما جعله أكثر اعتمادًا على شخصيات الحرس القديم مثل الظواهري للحفاظ على الوحدة.
بناء على ما تقدم فإن مصير الجماعة يعتمد على بقاء الظواهري على قيد الحياة، ومن المفارقات الغريبة في هذا الموضوع أنه عند هذه النقطة، والتي تعتبر أقرب نقطة وصلت إليها الولايات المتحدة لتدمير تنظيم القاعدة منذ تأسيسه، تبين أن الحفاظ على مصالح أمريكا يتطلب الحفاظ على قوة تنظيم القاعدة وعلى حياة قائده أيمن الظواهري.
المصدر: فورين أفيرز