انطلقت السيارة التي تقلّني من مطار سيمفِروبول، أكبر مدن شبه جزيرة القرم، إلى شوارع المدينة لتستقبلتني بصور الأطفال والورود وألوان العلم الروسي الثلاثة، الأبيض والأزرق والأحمر، التي وُضِعَت إلى جانب خريطة القِرِم، وبالأعلام الروسية الكبيرة التي ترفرف فوق كل البنايات الإدارية في المدينة، ماسحة أي أثر للدولة الأوكرانية من قريب أو بعيد، وحاملة الأمل إلى القِرِم كما يعد باستمرار المسؤولين الروس الذين غمروا المدينة بعد انضمامها إلى روسيا.
بوصولي إلى مدينة سِفاستوبول الساحلية، تواجهني صورة كبيرة تغطي مبنى سكنى بأكمله للرئيس الروسي فلاديمير بوتين في زيه العسكري، وهو يمشي نحو البحر عبر حقول القمح الصفراء وفي الخلفية تظهر بنايات الكرملين العريقة، لأجد صورته بعد دقائق مرة أخرى على قُمصان وملابس تُباع في الأكشاك؛ مرة ببدلة سوداء، ومرة أخرى وهو ينعت أوباما بالأخرق، ومرة أخرى وهو مع واحدٍ من كلابه.
تعيش القِرِم الآن كجزيرة معزولة عن العالم، فمطار سيمفِروبول الدولي الذي كان يعج بالسياح من كافة أنحاء أوروبا وأسيا لم يعد دوليًا، إذ أصبح مطارًا روسيًا داخليًا يخدم المسافرين إلى بضعة مدن روسية، في حين اختفت بشكل كبير سفن الرحلات الكبيرة الراسية عند المنتجعات المطلة على البحر الأسود بعد أن هبط عدد السياح الوافدين على الجزيرة خلال عام بحوالي 50%، والذين حاولت موسكو تعويض خسارتهم بإجبار موظفي شركات القطاع العام الروسي على تقضية العُطلة الصيفية الماضية في القِرِم بدلًا منهم.
لا تبدو الجزيرة معزولة فقط من غياب السياح الأجانب المعتاد، بل ولعدم قدرة سكانها على الحركة بسهولة سواء إلى أوكرانيا أو روسيا، فالمرور برًا نحو أوكرانيا عبر الحدود المتوترة الآن أصبح كابوسًا لا يطيقه أحد، وقد يستغرق ساعات يتعرّض فيها أي حامل لجواز سفر روسي للمضايقات، وتُمنَع فيها السيارات التي تحمل ألواحًا روسية من العبور، وفي نفس الوقت، فإن عبور مضيق كيرتش للوصول إلى قلب الأراضي الروسي هو أيضًا مسألة شاقة لا تتم إلا بحرًا وجوًا.
موسكو! موسكو! موسكو!
هكذا تعيش إذن شبه الجزيرة التي لاتزال غالبية دول العالم تعترف بها جزءًا من أوكرانيا، حيث يحكمها الروس فعليًا؛ مما يعني أنها تخضع لما تمر به موسكو: عقوبات اقتصادية وهبوط في العملة (الروبل)، وهو ليس بالضبط ما تمناه أهلها، ونصفهم من الروس، وهم يدلون بأصواتهم في استفتاء العام الماضي لصالح الانضمام لروسيا، إذ كانت الأجواء في مدنها تعج بالتفاءل والإثارة بعد العودة إلى “الوطن الأم” آنذاك، والانفصال عن أوكرانيا وفسادها ومشاكلها الاقتصادية وإرثها السوفيتي البيروقراطي الذي لم تنجح إلى اليوم في التخلّص منه.
الذهاب إلى موسكو، هذا ما أراده أهلها، كما أرادت “إرينا”، إحدى بطلات قصة الأخوات الثلاثة لأنطون تشيخوف، والتي كتبها الروائي الروسي الشهير، للمفارقة، في القِرِم من بيته في يالطا، وهو متحف الآن، إذ صرخت ضجرًا من حياة الهامش المملة والبائسة تطلعًا إلى المدينة الروسية الأم “موسكو! موسكو! موسكو!”
صورة الرئيس الروسي بوتين مرسومة على إحدى البنايات في القِرِم، ومن خلفه تظهر بنايات الكرملين
“منذ نهاية الاتحاد السوفييتي لم تقدم لنا أوكرانيا أي شيء، ولم تستثمر بشكل جدي في البنية التحتية، ولم توفر لنا الوظائف، ولذلك كان الناس هنا يائسين وساخطين على كييف، ولم يشعروا بأي ارتباط بها”، هكذا قال أوليج، سائق التاكسي الذي أقلني في سيمفِروبول، والذي صوّت لصالح الانضمام إلى روسيا.
بيد أن ما يمر به أوليج يقول الكثير عن متاعب القِرِم منذ اختيارها لموسكو، فقد كان أوليج يدير في السابق مشروعًا للغواصين من السياح، ويقوم بجولات في الماء لصالح مشاريع البناء الكبيرة على سواحل القِرِم، ولكنه اضطر للعمل كسائق تاكسي منذ عام بعد أن هيمنت الشركات الروسية على القِرِم، وهمّشت من المشاريع المحلية الصغيرة، ومع ذلك، فهو يعتقد أن الأمور ستتحسن، وأن البقاء مع روسيا يجنّبه وأهل القرم حالة الحرب الموجودة في أوكرانيا، “المرحلة الانتقالية صعبة، ولكنني على يقين أنها ستصل بنا إلى حال أفضل ولو استغرقت سنة أو اثنين، أو ربما خمسة”.
ترقيع روسي وانتقام أوكراني
الكثيرون هنا على يقين أيضًا بأن اقتصاد روسيا الأكبر والأقوى من أوكرانيا سيعطيهم مستقبلًا أفضل، وهم يدركون أن الثمن قد يكون مرتفعًا قليلًا على المدى القصير، بيد أن الضربات التي يتلقاها الاقتصاد في القِرِم، خاصة قطاع السياحة الحيوي المعتمد على الانفتاح على الخارج، قد لا يتعافى أبدًا، كما جرى لأنريه بروجيف، صاحب محل الملابس والإكسسوارات في سيمفِروبول، والذي هبطت مبيعاته بنسبة 40%، وتضاعفت مصاريف الشحن التي يدفعها نظرًا لتوقف الطرق التقليدية جراء العقوبات.
في خضم كل ذلك حاولت روسيا بأسرع ما يمكن إنهاء المرحلة الانتقالية، وضخت كميات من الأموال في صورة دعم، بلغت 18 مليار دولار على حد وعود بوتين، في محاولة لإنعاش اقتصاد القِرِم، بيد أن الإدارة الروسية لا يبدو أنها ستكون قادرة على الاستمرار في ضخ المال في ظل الأزمة التي تعصف بالروبل، ناهيك عن أن جهودها لم تكن موفقة كعادة البيروقراطية الروسية، حيث شهدت القِرِم موجة من الروس الذين أتوا من موسكو ليملأوا المناصب الإدارة والأمنية والعسكرية والسياسية، ليزيدوا من تعداد مدينة سيمفِروبول بشكل ملحوظ أدى إلى ازدحام الطرق بدرجة لافتة في مدينة كانت هادئة نسبيًا، الروس على ما يبدو لا يثقون حتى بحلفائهم في القِرِم، وقد أرسلوا لهم موسكو بنفسها!
على الناحية الأخرى، تحاول أوكرانيا استخدام نفوذها لمعاقبة الروس على حساب أهل القِرِم، إذ أوقفت كافة القطارات التي كانت تسافر من كييف إلى سيمفِروبول، وتعرّض باستمرار الروس من أهلها للمضايقات أثناء محاولات عبورهم للجانب الأوكراني، وتقطع الكهرباء لفترات طويلة عن الجزيرة، والتي لاتزال الكهرباء فيها تأتي من الشبكة الأساسية في أوكرانيا، كما قامت بإغلاق قناة القرم الشمالية، وهي المصدر الرئيسي للريّ في مناطق الجزيرة الداخلية الجافة، مما أدى إلى انهيار زراعة الأرز، وهو ما يحاول بعض الفلاحين المتضررين تخفيف حدته بحفر الآبار، ولكن دون جدوى، إذ إن المياه الجوفية عالية الملوحة على التربة في القِرِم.
الروس على ما يبدو قد استحوذوا على القِرِم، ولكنهم يتكبدون عناء خلق وضع طبيعي في الجزيرة، وسيظلون هكذا لفترة طويلة، وربما لن يتمكنوا من العودة بالأوضاع إلى ما كانت عليه، فالأمر، كما قال الكاتب الروسي ليونيد كاجانوف، أشبه بسرقة هاتف محمول ثمين دون الشاحن الخاص به.