تُعرف كتائب المتطوعين الذين يقاتلون إلى جانب الجيش الأوكراني بكون أعضائها لا يعرفون الخوف في ساحة المعركة، كما أن هؤلاء معروفون بقوميتهم الشرسة وآرائهم اليمينية المتطرفة، أحد هذه الوحدات هي كتيبة أيدار الهجومية، ومقرها في بلدة سكاستيا التي تقع على حدود منطقة لوهانسك التي تسيطر عليها القوات الموالية لروسيا.
من المعروف لأغلب الأشخاص أن كتيبة أيدار اُتهمت بارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان من قِبل أعضاء منظمة العفو الدولية، ولكن ما لا يعرفه أغلب الناس هو أن بعض المتطوعين ضمن هذه الكتيبة هم من النساء، بعضهن يعمل ضمن المجال الطبي أو في مجال الخدمات لكن أخريات يضطلعن بأدوار قتالية فاعلة، ورغم أن جميع النساء على خط الجبهة واثقات من أن وقف إطلاق النار الحالي لن يدوم، إلا أنهن يتطلعن قدمًا إلى حياتهن بعد الحرب، وإليكم قصصهن:
ماما تانيا
هذه ليست الحرب الأولى لماما تانيا، ففي تسعينيات القرن الماضي كانت تعيش مع زوجها في أذربيجان وعملت في المجال الطبي أثناء حرب ناغورنو – قرة باغ، ولكونها خبيرة من جهة وقومية من جهة أخرى انخرطت مرة أخرى في النزاع الحالي الذي يدور في شرق أوكرانيا، حيث تتمثل مهمتها بتقديم الإسعافات الأولية وسحب الجنود الجرحى من ساحات القتال خلال العمليات الخاصة.
“أقاتل من أجل حرية ووحدة أراضي بلدي”، قالت ماما تانيا وهي تسحب سيجارة وتشعلها، وتابعت “هذه أرضنا، نحن لسنا معتدين مثل روسيا، نحن نحمي أراضينا”.
تشير ماما تانيا أنها قد أصيبت في ساحة المعركة، وتعرضت للأسر والضرب من قِبل الجنود الشيشان الذين يقتالون مع الانفصاليين، إلا أنها مع ذلك عازمة على البقاء في خط الجبهة.
“الأمور تصبح مخيفة جدًا هنا عندما يباشر القصف المدفعي”، تقول ماما تانيا، وتضيف “أنا أول الأشخاص الذين يهرعون إلى القبو خوفًا من القذائف، وإنني أحث الآخرين جميعًا على ذلك، لأنه من الغباء أن تموت جراء قذيفة، أما أن تموت في ساحة المعركة أثناء رؤيتك للعدو، فهو شيء آخر”.
“أصعب جزء من الحرب هو فقدان الأشخاص الذين تحارب معهم، أنا أحب كل شخص هنا”، قالتها ماما تانيا، وتابعت بحسرة “ولكنني أحزن بشكل خاص على الشباب اليافعين، وأتساءل دائمًا، لماذا يأتون إلى هنا؟”.
مثل العديد من المتطوعين في كتيبة أيدار، ماما تانيا لا تثق بإعلان وقف إطلاق النار الأخير، وتقول ساخرة “إن القافلة الإنسانية الجديدة القادمة من روسيا وصلت، ونحن بانتظارالهدايا التي ستقدمها لنا جمهورية لوهانسك الشعبية، سوف يمطروننا بالهدايا صباحًا وظهرًا ومساءً، لقد أصبحنا نعرف الجدول الزمني لضربات المدفعية التي يقومون بها ضدنا”.
رغم أنها تحلم بالسلام، بيد أنه من الصعب عليها ترك الحياة على الجبهة “نحن أسرة كبيرة”، تقول ماما تانيا “الحرب ستنتهي عاجلًا أم آجلًا، وعندما نفكر ماذا سنفعل بعد أن تنتهي، أقترح على سبيل الدعابة الذهاب للقتال في العراق أو لتحرير جورجيا”.
فيتامينكا
رغم أنها تعيش في منطقة حرب، ولكن مشكلة فيتامينكا الأكبر هي أن صديقها لا يتحدث معها، وتشرح لنا قصتها الطريفة بقولها “لقد ذهب هذا الساقط إلى الجبهة بدوني، قال لي إنه ذاهب للعمل وطلب مني انتظاره في كييف، انتظرته لبعض الوقت، ولكنه اختفى لمدة شهرين، واكتشفت أنه تطوع في الجبهة”، وفي نهاية المطاف، تطوعت الفتاة البالغة من العمر 24 عامًا في الجبهة الشرقية للانضمام إلى صديقها.
عندما اشتدت الحرب مع المتمردين الموالين لروسيا في الصيف الماضي، طلب صديق فيتامينكا منها العودة إلى بيتها، ولكن هذه المرأة الأوكرانية العنيدة يصعب إقناعها بسهولة، فبدلًا من العودة انضمت إلى كتيبة أيدار الهجومية كمقاتلة.
تقول فيتامينكا “أصعب شيء هو أن إخواني يموتون هنا، وباقي الناس لا يهمهم ما يحدث، الناس في بلدتي زابوروجييه يعيشون ليقودوا السيارات الفاخرة، وليشتروا الملابس باهظة الثمن، ولهذا تجد المقاتلين يتشاجرون مع هؤلاء الأشخاص عندما يذهبون في إجازتهم”.
ساحة المعركة لا تخيف فيتامينكا، ولكن المخيف والصعب بالنسبة لها هو الانتظار والخوف من المجهول.
بعد الحرب، تأمل فيتامينكا أن تتزوج وتنجب أطفالًا، وتعمل كمعالجة نفسية للأطفال عن طريق اللعب “Play Therapy”، وعند هذه النقطة تتساءل بقولها “كيف يمكنني أن أساعد الناس من تجاوز الآثار النفسية للحرب طالما لم يسبق لي وأن شهدتها بنفسي؟” وتضيف “ما يعجبني هنا هو أن الحياة تبدو أكثر حيوية، الحزن حولك في كل مكان، وتعاني منه في غالبية الأوقات، لذلك عندما تشعر بالسعادة فإنك تختبر هذا الشعور بشغف غامر، أنا لا أستطيع تغيير موقفي تجاه الأحداث، لذا من الأسهل تغيير الأحداث بدلًا من ذلك”.
أناكوندا
أناكوندا هو اللقب الذي أطلقه قائد الوحدة على هذه الفتاة، بكناية مرحة عن بنيتها وقوتها، حيث تقول الفتاة ذات الوجه الطفولي والبالغة 19 عامًا إن والدتها دائمة القلق عليها، وتتصل بها عدة مرات في اليوم، وأحيانًا تتصل أثناء المعركة، وتشير أناكوندا أنه من الأفضل أن تجيب على اتصالات والدتها، كون الأخيرة لن تتوقف عن الاتصال حتى تجيب على الهاتف.
“في البداية كانت والدتي تقول لي دومًا أن الحرب ليست للفتيات”، تقول أناكوندا، وتضيف “لكن الآن ليس لديها مجال سوى لقبول خياري، والدي كان يرغب بالتطوع بالجبهة، ولكن حالته الصحية لا تسمح له بذلك، لذا هو فخور بي الآن”.
أناكوندا كانت تخدم في منطقة قرب ديبالتسيفي، لكنها قررت الانتقال إلى كتيبة المتطوعين أيدار للانضمام إلى أصدقائها، وتشير إنها كانت تعمل كممرضة في المستشفى العسكري في كييف، وتشرح لنا سبب قدومها إلى الجبهة بقولها “لم يعد بإمكاني رؤية رجالنا يموتون وأنا أشاهدهم من بعيد، لهذا اخترت الانضمام إلى الحرب، هذا بلدي وهؤلاء شعبي، ومن المؤلم أن نرى كيف يموت المقاتلون والمدنيون من طرفي الصراع، أنا فقط أريد لهذه الحرب أن تنتهي بأسرع ما يمكن”.
رغم عدم وجود الكثير من النساء في القطعة العسكرية، إلا أن الرجال يعاملونها بشكل جيد، ولكن المشكلة الوحيدة على حد تعبير أناكوندا هي”العثور على غرفة لتبديل الملابس”.
فيكتوريا
في مقبرة صغيرة على مشارف ستاروبيلسك يمكنك رؤية حوالي 30 قبرًا كُتب عليها “بطل أوكراني مجهول مؤقتًا”.
أثناء تجولها بين القبور، فيكتوريا تحتفظ بقصة لترويها حول كل جندي مجهول، رغم أنها لم تلتق أيًا منهم، وتقول الفتاة البالغة من العمر 22 عامًا، إنه تم إرسالها إلى ستاروبيلسك بعد إصابتها بجروح أثناء إحدى المعارك التي خاضتها على الجبهة ضد الانفصاليين الموالين لروسيا.
وريثما تتعافى، تولت فيكتوريا مسؤولية دفن القتلى من المقاتلين، حيث تقوم بإرسال الجثث إلى المشرحة المحلية، والجثث التي لا يتم التعرف عليها تخضع لاختبار الحمض النووي، بعدها تعمد لتعبئة أوراق روتينية وترسل عينة من الحمض النووي إلى كييف، على أمل العثور على عينة مطابقة، ومن ثمّ تطلب التوابيت، وإذا تم التعرف على ذوي الجثة، تتواصل معهم لتنظيم مراسم إعادة الدفن.
تروي فيكتوريا إحدى القصص التي مرت بها بقولها “لقد تحدثت مع زوجة أحد الجنود المدفونين في هذه المقبرة، قلت لها إن زوجها أصيب بجروح بالغة وفق ما ذكره من كانوا معه في المعركة، لذا من غير المرجح أن يكون قد نجا، وفعلًا تم تأكيد هوية زوجها من خلال تحليل الحمض النووي، وتحدثت معها مرة أخرى، لكنها لم تصدقني، فهي مقتنعة أن زوجها على قيد الحياة ولن تقوم بإعادة دفن الجثة”.
فيكتوريا تأخذ فترات راحة منتظمة من المشرحة والمقبرة عن طريق ذهابها إلى الجبهة، حيث تقول “أذهب إلى الجبهة مرة واحدة على الأقل في الأسبوع، لأنني إن لم أقم بذلك، ببساطة سأصاب بالجنون”، وتضيف “اعتدت أن أكون في وحدة قتالية، ودائمًا على خط الجبهة، أنا بحاجة إلى الجلوس في أحد الخنادق لمدة دقيقة على الأقل، أو توصيل الطعام إلى هناك لألتقي مع أصدقائي، قادتي لا يسمحون لي بالذهاب إلى الجبهة كثيرًا، لأنهم يخافون أن لا أعود وأبقى هناك”.
“لقد دُفن الكثير من الأشخاص المحترمين هنا، بعضهم كانوا فتيانًا لا تتجاوز أعمارهم الـ 18 و 19 عامًا، هذه الأرض لا تستحق حياة جنودنا، هناك بعض الناس الذين يستحقون هذه التضحية هنا، ولكنهم قلائل” قالتها فيكتوريا منتقدة الأوكرانيين الذين فروا من المنطقة بدلًا من البقاء للقتال والدفاع عن أرضهم.
فيكتوريا كانت تعتقد في بادئ الأمر أنها كانت تدافع عن بلادها، ولكنها الآن ليست متأكدة من هذا الأمر، بيد أنها لا تستطيع أن تترك موقعها، حيث تقول “إنهم عاجزون تمامًا، في إحدى المرات أخذت إجازة، لأول مرة منذ عام كامل، ولبست أجمل فساتيني، وتوجهت للسهر، وفي الساعة الخامسة صباحًا تلقيت مكالمة منهم، وقالوا لي يوجد مقاتل ميت، وكان عليّ أن أتابع يومي وأنا أعطيهم التعليمات على الهاتف”.
ليسيا وداشا
ليسيا وداشا، الممرضتان المتطوعتان اللتان تعملان في المستشفى الميداني الوحيد الذي لايزال يعمل في سكاستيا، البلدة التي تم استهدافها بشكل دائم بصواريخ غراد وقذائف المدفعية من قِبل القوات الانفصالية الذين يقع معسكرهم على بعد ميل واحد، وعلى الرغم من أن علم الصليب الأحمر يرفرف فوق سطح المستشفى، إلا إنه لم ينج من الاستهداف، حيث تقول داشا “سقطت قذيفة على المبنى قبل يومين فقط، وتحطمت كل النوافذ، نشكر لله أن الطابق الذي تنام فيه الممرضة بالعادة كان فارغًا في تلك الليلة، وإلا لكانت لقت حتفها”.
تتابع داشا بوصفها للوضع السيء الذي صاحب الأيام القليلة التي تسبق إعلان وقف إطلاق النار في 15 فبراير الماضي، حيث اضطر الأطباء حينها إلى إجلاء المرضى من المستشفى نتيجة للقصف العنيف، ورغم أن معظم الموظفين في مستشفى سكاستيا غادروا إلى المدن القريبة هربًا من خط الجبهة، إلا أن ليسيا وداشا بقيتا لمعالجة الضحايا بشكل أولي قبل أن يتم إرسالهم إلى المستشفيات في المدن الأكثر أمنًا.
القصف المتواصل أدى إلى تدمير الشبكة الكهربائية في المدينة، مما اضطر السكان المحليين إلى قطع الأشجار لجمع الحطب بهدف التدفئة، وعدم وجود الكهرباء هي المشكلة الدائمة التي تعاني منها الممرضات، اللواتي يجب عليهن الحفاظ على المستشفى دافئًا.
تقول ليسيا “الصمت هو أكبر مسبب للخوف”، وتشرح مضيفة “عندما نُقصف، يمكننا توقع ما الذي سيحدث، وأصبحنا نعي ما يجب أن نقوم به، حيث نختبئ في غرفة في الزاوية البعيدة للمبنى، أما عندما يطبق الصمت، فإننا نشعر بالخوف من المجهول”.
ليسيا وداشا من منطقة لوهانسك تعارضان بشدة فكرة تقسيم أوكرانيا، وكلتاهما تركتا أطفالهما في المنزل، ولكنهما رفضتا جميع الفرص التي أُتحيت لهما لمغادرة الجبهة، حيث تقول داشا “مقاتلو أيدار هم أصدقائي، صديقي يخدم في هذه الكتيبة، وأنا أعمل أيضًا على استكمال أوراقي للانضمام إليها”.
المصدر: الجادريان