مترجم بتصرف من دير شبيغل
الحدود الرسمية أمر مزعج، ولكنها معروفة ويسيرة، على الأقل في أوروبا، هذا ما كنا نعتقده حتى وقت قريب، فالحدود لم تعد تخضع للرقابة الصارمة نظرًا لوجود السوق الأوروبية، ويمكن عبورها بسهولة لأي شخص، كما أنها في أوروبا بالتحديد تعكس الحقائق الجغرافية والتاريخية على الأرض، على عكس نظيرتها في شتى أنحاء أفريقيا وأسيا حيث رسمها الاستعمار، بيد أن الحدود التي تشكّلت مؤخرًا على خط النار بين المتمردين في شرق أوكرانيا والجيش الأوكراني في غرب البلاد أصبحت الآن استثناءً من القاعدة.
“يمكنني أن أعرف وأخطط قبلًا لأي رحلة عبر البلدان الأوربية، ولكن الحدود الجديدة هنا – في أوكرانيا – لا نعرف شيئًا عن طريقة عملها”، هكذا تحدث يفجيني سائق الشاحنات الأوكراني، والذي يضطر كغيره من العابرين إلى تقديم أوراقه عند أول نقطة تفتيش في كوراخوفا بجمهورية دونِتسك، حيث تخضع الشاحنات لتفتيش دقيق، ويضطر السائقون للاستسلام لمحاولات حراس الحدود البحث عن أي أسلحة قد يحملونها.
برلين غربية جديدة؟
هنا، يقف يفجيني منذ ثلاثة أيام محاولًا المرور إلى دونِتسك، حيث تقف شاحنته على جانب الطريق مع شاحنات وحافلات أخرى، بينما يجلس حاملًا القهوة الخاصة به، في محاولة للبحث عن الدفء، والبحث عن التسلية قدر الإمكان بجهاز التلفاز الموجود معه، “ليست لدي أدنى فكرة متى سأتحرّك من هنا، الأمر ليس مسليًا كما يبدو”، هكذا يقول يفجيني، الذي يعمل لصالح رجل أعمال في دونِتسك، وينقل له البضائع، علب من الصلصة والألبان والبهارات جلبها من مدينة موريبول على بعد 120 كيلومتر، والتي يتوقع البعض أن تصبح هي الأخرى مستهدفة من المتمردين.
بعد حوالي كيلومتر تنتشر الألواح الخرسانية والمتاريس والحواجز المضادة للدبابات، ويظهر جنود بخوذات ورشاشات كلاشنكوف، بينما تقع حقول غير مزروعة على مرمى البصر مغطاة بالثلوج، وينطلق الدخان الأسود من مداخن المصانع، لتبدأ جمهورية دونِتسك الشعبية، كما أعلنت نفسها مؤخرًا، وهي ولاية أوكرانية سابقة أصبحت الآن عدوًا لكييف ومعقلًا للإرهابيين كما تسميهم الدولة الأوكرانية.
تشبه دونِتسك الآن برلين الغربية أيام الحرب الباردة في عُزلتها عن محيطها، فهي معزولة من الغرب نظرًا لقطع العلاقات مع أوكرانيا، وحتى من الشرق، حيث تقع روسيا حليفة المتمردين، إذ لا تمر البضائع بسهولة كما يتصوّر البعض، نظرًا لتحكّم المتمردين في الحدود مع الروس، والذين يسمحون فقط لشاحنات المعونات الروسية بالمرور، مما أدى إلى نقص في اللحوم والألبان والخضروات في أسواق المدينة.
“بروبوسك” (وتعني المرور بالروسية) هي البطاقة الجديدة التي يجب على أي شخص راغب في المرور إلى المنطقة ب أن يحصل عليها، وأن يكون عليها حرف B، وهي واحدة من المناطق التي تفصل بين القوات الأوكرانية والمتمردين، وينتظر الأوكرانيون عادة من أسبوعين إلى أربعة ليتمكنوا من استخراجها من قرية على بعد 90 كيلومترًا من دونِتسك، وهو ما يزيد من عزلة المدينة، وصعوبة الحركة منها وإليها، كما يشل تمامًا حياة المعتادين على التردد عليها، مما يجعلها في الحقيقة أسوأ من برلين.
“الوضع هنا شديد العبثية”، هكذا يقول يفجيني، والذي لم تفلح بطاقة بروبوسك في مساعدته على الدخول بعد أن قرر الأوكرانيون إضافة شرط جديد للتحرّك: على أي شخص يحمل البضائع إلى دونِتسك أن يقدم تصريحًا من مصلحة الضرائب الأوكرانية بذلك، وهو تصريح بالطبع لا يمتلكه يفجيني نظرًا لصعوبة الحصول عليه هو الآخر.
جمهورية دونِتسك الشعبية
تظاهرات مؤيدة لروسيا في ميدان لينين في دونِتسك
“كتيبة أوبلوت الخاصة تبحث عن سائقي دبابات، على المهتمين الاتصال بهذا الرقم”، هكذا تقرأ إحدى الإعلانات التي تمر في شريط أسفل القناة الأولى التابعة للجمهورية الجديدة، وهي إعلانات توجد الآلاف منها في كافة شوارع المدينة، حيث تنتشر مُلصقَات عليها صور مقاتلين يحملون الكلاشينكوف وقد كُتِب عليها “مطلوب أبطال”.
رُغم ذلك، تبدو المدينة الآن هادئة نوعًا ما بعد وقف إطلاق النار المتفق عليه في اتفاق مينسك، وهو ما شجّع بعض العمال على الخروج وتنظيف الشوارع، والبدء في إصلاح المباني المهدّمة جراء الاقتتال في بعض الأحياء، بل وقررت الجامعة هنا فتح أبوابها، وكالعادة، تجمّع أنصار المتمردين في ميدان لينين، ملوّحين بصور الزعيم السوفيتي السابق، وهاتفين بالنصر لروسيا وبوتين، وموجهين لعناتهم لأوباما والغرب.
عدا ذلك، لاتزال غالبية السكان تتوخى الحذر في الخروج، وقلما يخرج أحد من منزله بعد السادسة مساءً، وهو ما خلق أزمة للمطاعم والحانات التي اعتمدت على النزهات الليلية للسكان، حتى إن واحدًا من المطاعم علق لافتة أعلن فيها عن خصم 40% على جميع أنواع النبيذ والفودكا لمن يزوره بعد السادسة مساءً، وهي محاولات لا يبدو أنها ناجحة، إذ يظل المطعم خاليًا في المساء حتى الآن.
بالنظر لمرور عام على بدء العنف في شرق أوكرانيا واستمرار الأزمة، يحاول الكثيرون الآن الخروج من الجمهورية الجديدة، وهو أمر لا يقل صعوبة عن محاولات دخولها، إذ يتجه الجميع إلى محطة الباصات الجنوبية في دونِتسك، ويتزاحمون على المواقف التي تنطلق منها باصات إلى خارج المدينة، ولا يُسمَح لغير حاملي بطاقة بروبوسك بالطبع أن يستقلّها، والمتجهة إلى موريبول، خط الدفاع الأوكراني الأول ضد المتمردين، وسلوفيانسك، التي نجحت القوات الأوكرانية في انتزاعها بعد وقوعها في أيدي المتمردين العام الماضي.
ما تبقى من مطار دونِتسك، والذي كان قد تم تجديده عام 2012 قبل استضافة أوكرانيا لبطولة أمم أوربا
أمام أكشاك الاستعلامات، يصطف الناس هنا طالبين المزيد من المعلومات عن كيفية السفر، مقابل 2.6 هريفنا أوكرانية (حوالي جنيه مصري)، بينما تقول اللافتات المعلقة على نوافذ الأكشاك، “عذرًا، نحن أيضًا لا نعرف كيفية استخراج بروبوسك!”، في محاولة ربما لتوفير الجدل والمناقشات التي تدور طويلًا عن البطاقة الصغيرة التي يبحث عنها الجميع هنا بدأب، ليخرج من جحيم دونِتسك.
هنا يقف باص “تاتا” هندي متهالك في انتظار الانطلاق، تتجول حوله مجموعة من المتسوّلات المسنّات بعلب معدنية، في حين أخذت إحداهن تحاول إقناع السائق بركوبها بدون بروبوسك بحجة أمها المريضة في مستشفي بكراماتورسك، والتي كانت واقعة في دونِتسك كولاية أوكرانية منذ عام، ولكنها الآن خارج جمهورية دونِتسك نظرًا لوقوعها تحت سيطرة القوات الأوكرانية، بطبيعة الحال، تفشل مساعيها، “لا يمكنك الركوب دون ورقة تثبت ما تقولين من المستشفى”، هكذا رد السائق ببساطة.
بيد أن محاولات أخرى تنجح على ما يبدو عن طريق الرشاوى، إذ استجاب السائق لطلب إحدى الراكبات بعد أن أعطته صندوق عُلَب سجائر، “كم علبة هنا؟”، هكذا سأل السائق عن محتوى الصندوق، في إشارة ضمنًا إلى قيمة الأموال داخلِه، لتأتيه الإجابة سريعًا، “مئتين|، قبل أن يفتح الصندوق ويجد أربعة ورقات نقدية قيمة كل منها خمسون دولارًا، ثم يوافق على ركوبها.
في انتظار جودو
يفجيني في انتظار المرور إلى دونِتسك
“لقد أمضيت حياتي كلها في دونِتسك، وليس لي أن أقول شيئًا سيئًا بحق فيكتور يانوكوفيتش – الرئيس الموالي لروسيا الذي أسقطته التظاهرات العام الماضي – فحين كان موجودًا بالسلطة كان يعطينا بيوتًا تأوينا، الآن لدى منزل صغير مع زوجتي، ولكننا نضطر إلى إرسال ابنتنا إلى مدرسة في زابوريجيا – ولاية قرب دونِتسك – فليس ثمة مستقبل في دونِتسك بعد كل ما جرى.. كل واحد منهم (المتمردون) يمشي الآن بكلاشينكوف ويتصرف وكأنه السيد.. في الحقيقة أنا لم أصوّت لصالح استقلال دونِتسك”، هكذا تحدث يفجيني، الناقم على ما يبدو على حكّام الجمهورية الشعبية الجدد المجهولين بقدر نقمه على ما جرى في غرب أوكرانيا، قبل أن يتجه للنوم، في انتظار المرور إلى دونِتسك .. في الغد ربما، أو بعد يومين، أو ثلاثة، لا ندري.
المواقف السياسية هنا مرهونة بالمال كما هو واضح، فبينما يلعن يفجيني الواقف على حدود دونِتسك المتمردين داخلها، يقف فيودور إليشِنكو عند مواقف حافلات دونِتسك ويحمل أراءً مختلفة تمامًا، ويمسك بجواب سيقدمه لمحكمة في كييف ضد رئيس الوزراء الأوكراني ياتسِنيوك بسبب فرضه لحصار اقتصادي على الجمهورية الشعبية الشديدة، والذي تسبب في تدهور الأحوال الاقتصادية هنا بشدة قبل أي شيء كما يقول، على عكس ما تقول السلطات، والتي تتهم المتمردين بتدمير الولاية، “لقد كان قرارًا مجرمًا، ياتسِنيوك أخرق وعديم البصيرة لاعتقاده أننا نعيش الآن في أراضٍ مُحتلة”.
بينما صب غضبه على أوكرانيا، أخرج إليشِنكو، البالغ من العمر 78 عامًا، بطاقته كأحد المحاربين القدامي، حيث خدم كجنرال في القوات الجوية أيام الاتحاد السوفيتي، وحارب ضد الصينيين أثناء الصراع بينهم وبين السوفييت في الستينيات، ثم شارك في حرب أكتوبر مع المصريين عام 1973، حين استعانت مصر بالروس ضد إسرائيل، أما الآن فهو يعمل مستشارًا عسكريًا للمتمردين، ولم يعد يتسلّم معاشه بعد أن قطعت كييف كافة مخصصات الميزانية لصالح ولاية دونِتسك إثر إعلانها عن نفسها كجمهورية شعبية.
“لدي في حسابي ببنك أوشاد بنك المملوك للدولة 70،000 هريفنا – حوالي ثلاثة آلاف دولار – ولا أستطيع أن أحصل عليها الآن لأن دونِتسك لم يعد بها بنوك، لقد تعهدوا بتسليمي كافة أموالي، ولكنني مضطر للتواجد على أراضٍ أوكرانية للحصول عليها”.
من جانبها، دفعت حكومة دونِتسك الجديدة لإليشِنكو حوالي ألف هريفنا – 45 دولارًا – كمعونة طارئة، وقد أنفق نصفها فورًا على الطعام، بينما يقف الآن في موقف الباصات بحقيبة بلاستيكية محمّلة بالأدوية، باحثًا عن أي شخص متجه إلى موريبول ليأخذ جواب الشكوى الخاص به ويعطيه لأحد أصدقائه هناك، نظرًا لتوقف مكتب البريد هنا عن العمل، وعدم قدرته هو على ترك دونِتسك.
بينما أخذ إليشِنكو يتحدث مع مجموعة من النساء، وافقت إحداهن على مساعدته في نقل الجواب، وبعد أن ألقت نظرة عليه ووضعته في غلافه، أعطاها 25 هريفنا – حوالي دولار – “لا أعتقد أنه سيغير شيئًا، ولكنني سأكافح على أي حال”.