انتفاضة المرأة الهندية ضد العنف

في يناير عام 2012، قامت الدنيا ولم تقعد في الهند بعد العثور على طفلة رضيعة لم تبلغ عامين بعد فاقدة للوعي وبجروح بليغة في رأسها في العاصمة دلهي، ليتم إدخالها إلى المستشفى على الفور، وبينما كانت أنباء كهذه لتثير الغموض في بلد آخر، إلا أن الجميع في الهند كان يعلم بشكل شبه مؤكد ما حدث لها: لقد حاول والداها غالبًا قتلها، كما لا يزال يفعل الكثيرون في الهند، لأنها ببساطة لم تكن ولدًا.
على مدار أسابيع، أصبحت الطفلة فَلَك، كما عُرِفَت، محط أنظار الهنود، والذين تابعوا تقدّم حالتها في العناية المركزية، بينما أخذت خيوط قصتها تنكشف للعامة، حيث هرب أبوها إلى دلهي من ولاية بيهار الفقيرة بعد اتهامه في قضية اغتصاب، تاركًا زجته مونّي، والتي تزوجته في سن الثالثة عشر، مع ثلاثة أطفال، قبل أن يدعوها أحدهم إلى الزواج به والسفر إلى دلهي، لتكتشف أنها ستعمل في البغاء ليس إلا، وبعدما رفضت، أُجبِرَت على الزواج من مزارع محافظ من ولاية راجستان، والذي أتى إلى دلهي بحثًا عن زوجة نتيجة تراجع أعداد النساء مقابل الرجال في ولايته، وهي ظاهرة هندية سببها، للمفارقة، العادة التي قررا أن يكرراها مع فَلَك: قتل الرضيعات.
لا تؤدي تلك النظرة الدونية للإناث بين الكثير من شرائح المجتمع الهندي فقط إلى قتل الإناث، بل وإلى إهمال صحتهّن إن لم يُقتلّن، خاصة في الطبقات الفقيرة، والتي تفضّل إنفاق مواردها المحدودة في رعاية الولد والحرص على إطعامه وتطعيمه أكثر من البنت، أضف إلى ذلك أن تقنية السونار، والتي تسمح في أحيان كثيرة بمعرفة جنس المولود، قد زادت الطين بلة، حيث شهدت البلاد موجة من إجهاض الإناث في الثمانينيات، لتكون المحصلة اليوم تراجع أعداد النساء عن الرجال بحوالي 37 مليون شخص في كافة أنحاء الهند.
“إنها فتاة!” هو اسم لفيلم وثائقي صدر في نفس العام، يوثّق لهاتين الكلمتين التي يكره الكثير من الآباء الهنود سماعهما، وعلى عكس نظرائهم في الصين، والذين انتشرت بينهم في القرى نفس عادات قتل الإناث أو التخلّص منهم نتيجة سياسة الدولة التي فرضت عليهم إنجاب طفل واحد فقط، فإن الأسباب التي أدت لانتشار الظاهرة في الهند أكثر تعقيدًا وتجذرًا، وأبرزها بالطبع الفقر المُدقِع، والذي يدفع الكثيرين إلى الاهتمام بالصبيان الذين سيجلبون الرزق، في مقابل التخلص من الإناث اللائي سيجلبن المتاعب المادية دون عائد، بل وسيُثقِلن كاهل آبائهن وقت زواجهن، حيث يدفع أهل الزوجة في الهند المهر للزوج.
بالطبع، يستبطن هذا النوع من التفكير أفكارًا كثيرة عن دور المرأة في المجتمع، أبرزها أنها في العادة لا تعمل، لا سيما والثقافة الهندوسية التقليدية تفضّل بقاء النساء، ليس فقط خارج سوق العمل، ولكن بعيدًا عن المجال العام بالكامل، وهي ثقافة يقول بعض الهندوس أنها دخيلة على الهندوسية، في محاولة للدفاع عن عقيدتهم، كما يفعل نظراؤهم المسلمون حين توجّه لهم نفس الاتهامات، في حين يبدو أنها شائعة بالفعل وسط المحافظين أو المتطرفين — سمهم كما شئت — وأبرزهم موهان بهاجوات، قائد تنظيم المتطوعين الوطني (RSS) الهندوسي القومي المعروف، والذي ينحدر منه رئيس الوزراء الحالي نارِندرا مودي، إذ صرّح مؤخرًا بأن النساء خُلقِن لأعمال المنزل، وهو موقف طبيعي لتنظيم يقتصر على الرجال.
أعضاء تنظيم المتطوعين الوطني القومي، الأكبر في الهند، والمقصور على الذكور
المرأة الهندية والمجال العام
للمفارقة، فإن التنمية التي يعد بتعزيزها نارندرا مودي، والاقتصاد الصاعد الذي وضع الهند على خريطة القوى الكبرى خلال العقدين الماضيَّين، هو الذي فتح الباب أمام النساء في المجال العام بقوة، لا سيما نساء الطبقات الوسطى اللائي تلقَّين تعليمًا عالميًا ويتحدثن الإنجليزية، كما كان حال نيربهايا (ليس اسمها الحقيقي)، ابنة حامل الحقائب في إحدى مطارات الهند التي اضطرت للعمل في كول سنتر من السابعة مساءً حتى الرابعة فجرًا لتتمكن من الإنفاق على دراستها للطب، قبل أن تتعرض للاغتصاب والاعتداء الجسدي العنيف في إحدى الحافلات وهي عائدة مساء يوم عطلتها من السينما مع خطيبها، لتموت بعد تدهور حالتها خلال أقل من أسبوعين، وتشعل سلسلة من الاحتجاجات النسائية في بلد تنمو فيه معدلات الاغتصاب ربما أسرع من النمو الاقتصادي، حيث تقول الإحصاءات أنها تزايدت بنسبة 792٪ في العقود الأربعة الأخيرة.
حتى عام 2005، كان عمل النساء بين السابعة مساءً والسادسة صباحًا ممنوعًا بموجب القانون، وهو قانون تم تعديله لمواكبة متطلبات قطاع التعهيد (Business Process Outsourcing — BPS)، وهو القطاع الخاص الأكبر في الهند بأكثر من مليون ونصف موظّف، الكثير منهم من النساء، ورُغم ذلك، فإن الكثير من الولايات تميل إلى انتهاج سياسات تحظر عمل النساء في المساء حتى اليوم، بدلًا من مواجهة العنف الذي يتعرّضن له، تماشيًا مع ثقافة سائدة بين الكثيرين تنظر لعمل المرأة بشكل سلبي.
تباعًا، تضطر بعض الشركات الخاضعة لتلك السياسات أن تتفاوض للحصول على تصاريح خاصة لعمل النساء، بل وقامت بعضها بتخصيص حراسة مسلّحة لمرافقة الموظفات أثناء رحلتهن إلى منازلهن، خاصة وأن بعض حالات الاغتصاب التي تم الإبلاغ عنها كانت في الواقع ضد سائقي الحافلات التابعين للشركات التي عملن فيها (!)، وبالمثل، تقف حارسات في الكثير من محطات مترو دلهي عند عربات السيدات لمنع الرجال من الركوب وإحداث الشغب، نظرًا لاعتقاد الكثير منهم بأنه يحق له الاعتداء عليها، ما دامت قد اختارت التحرّك في المجال العام، لا سيما ليلًا!
“الفتاة المحترمة لا تتحرك في الشارع الساعة التاسعة مساءً.. هي مسؤولة عن اغتصابها أكثر من الرجل.. النساء لهُن المنازل وأعمالها، أما التنزه في المساء، وبارتداء هذه الملابس، فليس من حقهن.. لقد كان واجبي أن ألقنها درسًا.. وكان عليها أن تصمت وفقط،” بهذه التصريحات للبي بي سي، أشعل موكيش سينغ، سائق الحافلة المُدان في جريمة اغتصاب نيربهايا المذكورة آنفًا، غضب النساء في الهند، مما دفع محكمة هندية إلى الحُكم بمنع نشر المقابلة داخل البلاد.
“نعم، الرجال المعتدون سيئو الخُلُق.. ولكن لنسأل أنفسنا لماذا اختارت النساء التحرّك في المساء.. إذا اخترن ذلك فلا يجب أن يشتكين إذن،” تلك الكلمات لم تكن صادرة عن أحد المجرمين هذه المرة، بل عن رئيس إحدى لجان حقوق الإنسان الحكومية، في دلالة واضحة على تفشي هذه الثقافة حتى بين المسؤولين.
يقول البروفيسور البنغالي المرموق، السير بارتا داسجوبتا، أستاذ الاقتصاد بجامعة كامبرِدج، أن الكثيرين ممن تعودوا على الثقافة التقليدية يشعرون بالاستياء من الاستقلالية التي حظيت بها المرأة مؤخرًا إثر تطور سوق العمل والمجال العام في العقد الماضي، إذ أصبحت نسبة النساء في سوق العمل أكبر، واختلاطهن بالرجال أكثر، كما أصبحن يخرجن بكثرة إلى المقاهي ودور السينما، وهي أماكن حديثة أتاحت لهن مساحات للتواجد في المجال العام خارج إطار المنزل والعمل، وأعادت تعريف علاقة المرأة بالمجال العام، والعنف ما هو إلا رد من الرجال ذوي الثقافة المحافظة أو المتطرفة على هذا التحوّل، في محاولة لتضييق نطاق وجودهم الاجتماعي وإعادته إلى إطار المنزل.
نساء الهند يواجهن العنف: من العصا إلى فيسبوك
“نعم، نحن نواجه المغتصبين بالعصيّ، إذا وجدنا أحدهم وهو يعتدي على امرأة فإننا لا نتركه إلا بعد ضرب مُبرِح يترك أثرًا لا ينساه، حتى لا يتجرأ على مضايقة النساء مجددًا،” هكذا تتحدث بفخر سامبات دِوي بال، مؤسسة وقائدة مجموعة “گولابي جانج” Gulabi Gang، أي العصابة الوردية، البالغ عدد أعضائها 400،000، والتي تجوب شوارع أوتار براديش، الولاية الأكبر في الهند، بالساري وردي اللون باحثة عن المجرمين لتلقنهم درسًا باستخدام آلة العنف الأقدم في التاريخ: العصا.
سامبات دِوي بال مع نساء الـ”گولابي جانج”
حين تقع أية جريمة، أو حادثة فساد، فإن المجموعة تبدأ حوارًا لإثناء الضالعين فيها، ثم تشرع في تنظيم وقفات احتجاجية وإضرابات عن الطعام، وعندما يفشل كل ذلك، فإنهم يلجأون في النهاية للعصا، وهي تشارك حاليًا في ردع العنف ضد النساء، ووقف زواج الأطفال، وتنظيم زواج الرجال والنساء المرتبطين والذين قد تحول ظروفهم أحيانًا دون زواجهم، بل وشملت أيضًا مع الوقت تقديم الخدمات للفقراء.
ببساطة، توسّع دور گولابي جانج رويدًا ليصبح حماية الضعفاء بشكل عام، وهم كُثُر في الهند، لتملأ فراغًا كبيرًا لا يسع الدولة الهندية أن تملأه، ولتطرح سُبلًا بديلة لتحقيق العدل، وهو ما دفع السلطات مؤخرًا للاعتراف بها، كما يقول أرفيند سِن، مسؤول بشرطة مقاطعة بندا في أوتار براديش.
إلى جانب العصا التقليدية، وُولِدَت مؤخرًا عصا جديدة من رحم التكنولوجيا هي “ساميذا بهاواني”، على اسم إلهة البسالة في الهندوسية، وهو جهاز بنفس شكل العصا يمكن ضغطه ليصبح صغير الحجم، وإلى جانب وظيفة العصا العادية، فإنه يعمل كصاعق كهرباء، ورشاش فلفل، ومطواة، وقد اخترعه طبيب عظام هندي بعد بحوث قامت بها مجموعات بحثية في بريطانيا وسنغافورة وألمانيا واليابان، وهو يزن كيلوغرام ونصف، ويصل طوله إلى حوالي 70 سنتيمتر.
بالإضافة لذلك، يمكن للجهاز أن يرسل رسائل إلى خمسة أرقام محفوظة عليه مسبقًا في حالات الطوارئ، كما يقوم زرّ آخر بإرسال تفاصيل الموقع الذي تتواجد فيه أي امرأة باستخدام الجي بي إس بمجرد الضغط عليه، ليتمكن أقاربها وأصدقاؤها من معرفة مكانها.
استخدام التكنولوجيا لمواجهة العنف، والبحث عن مساعدة فورية وقت التعرّض لأي اعتداء، ليس جديدًا، فهناك العديد من تطبيقات الهواتف الذكية الموجودة بالفعل، مثل فيثو VithU، الذي يرسل رسائل فورية لمجموعات أرقام محفوظة، مع موقع الهاتف، بعد الضغط على أيقونة على الشاشة مرتين، وتقول “أنا في خطر وأحتاج مساعدة، أرجوكم تتبعوا موقعي،” وتطبيق فايت باك Fight Back، الذي يرسل تحديثات مباشرة عبر حساب الفيسبوك الخاص لمن تستخدمه، ليُخطر أصدقاءها مباشرة أنها في خطر، بالإضافة لتحديد موقعها.
من ناحيتها، أطلقت شركة مايكروسوفت في الهند تطبيق جارديان Guardian، والذي يتيح لمعارف المستخدم تتبعه مباشرة في أي وقت حين يطلب ذلك، ويتضمن إنذارًا لطلب النجدة، وقابلية لتسجيل وقائع أي هجوم، وإرسال تفاصيل الموقع لأي جهة يريدها المستخدم، وهو ما يقول المدير الإداري للشركة، راج بياني، أنه يتجاوز مجرد طلب النجدة وإخبار الأهل، ويسخّر الإمكانيات التكنولوجية للهاتف في تعقّب المجرمين.
على الناحية الأخرى من الكوكب، حيث شهدت الولايات المتحدة هي أيضًا تطوير تطبيق لمكافحة الاغتصاب باسم سِركل 6 Circle 6، شهد التطبيق ارتفاعًا في تحميله واستخدامه بنسبة ألف بالمائة إثر تدفق الهنود عليه بعد حادثة نيربهايا، وهو ما دفع الشركة إلى ترجمته للغة الهندية وتغيير بعضٍ من جوانبه لتناسب الثقافة الهندية، وتوصيله بالخطوط الساخنة التابعة للعاصمة دلهي بمساعدة منظمة المجتمع المدني الهندية جاگوري Jagori، المختصة بقضايا النساء.
من جانبها، قامت الحكومة في عهد رئيس الوزراء السابق مانموهان سينغ، بالمصادقة على مقترحات يتم بمقتضاها توصيل أجهزة الشرطة بشبكات الهواتف المحمولة بمؤسسات الخدمات القانونية، لتتمكن الشرطة من تتبع الحوادث والاستجابة بشكل أسرع، ورُغم ذلك فإن النساء لا يثقن بقدرة السلطات وحدها على مواجهة العنف الموجّه ضدهن، وأحيانًا أيضًا لا يثقن بكفاية التطبيقات المحمولة، “كل تلك التطبيقات قد لا تمنع وقوع الحادث بقدر ما تُنذِر معارف الضحية، فالحادث يقع في دقائق، وفي لحظات كهذه قد لا يكون للمرأة الهندية سلاح سوى يديها — أو عصاها إن امتلكت واحدة،” هكذا قالت إحدى ناشطات الدفاع عن النساء ضد العنف.
هذا المقال يأتيكم ضمن تغطية نون بوست لملف نون النسوة