بخُطى واثقة، تقدّم دونالد توسك ليُلقي نظرة على مكتبه الجديد في العاصمة البلجيكية بروكسل، بعد أن أصبح رئيس المجلس الأوروبي في ديسمبر الماضي، تاركًا منصبه كرئيس وزراء بولندا، ليكون أول سياسي من دول شرق أوروبا يتولى منصبًا قياديًا في الاتحاد الأوروبي، بعد سبع سنوات من قيادته لبولندا، والتي نجح فيها بخلق دور أكبر لبلاده على الساحة الأوروبية، وتعزيز قوتها الاقتصادية.
بالطبع، كان لألمانيا دور كبير في الدفع بتوسك لهذا المنصب، لاسيما المستشارة الألمانية أنغلا مِركِل، والتي تمتعت بعلاقة شخصية وطيدة مع نظيرها البولندي وخلقت تقاربًا تاريخيًا غير مسبوق بين البلدين، “لقد تم اختيار دونالد توسك رئيسًا للمجلس الأوروبي بإجماع متطور من نوع خاص؛ إجماع اسمه أنغلا مِركِل”، هكذا قال ساخرًا أحد المسؤولين الأوروبيين في بروكسل إبان الإعلان عن تولي توسك لمنصبه الجديد.
كانت بولندا قبل رئاسة وزراء توسك عام 2007 أقرب لبريطانيا نظرًا للروابط التاريخية، حيث دعّمت لندن بولندا على مدار قرون بوجه قوتي الألمان والروس، كما اتسم دورها في سنواتها الأولى بالاتحاد الأوروبي بالاضطراب نظرًا لخوفها من هيمنة الألمان، وقُربها من بريطانيا المتحفّظة على بعض سياسات الاتحاد، لكن كل ذلك تغيّر بعد صعود توسك، الذي ينحدر من منطقة كاشوبيا، المعروفة بامتزاج البولنديين والألمان قبل الحرب العالمية نظرًا لمتاخمتها لألمانيا، مما أتاح له درجة أكبر من التواصل مع الألمان الذين يتحدث لغتهم بطلاقة، وهو تقارب وجد صدى لدى المستشارة الألمانية، التي تنحدر من ألمانيا الشرقية ولها جد بولندي، وكانت تذهب لبولندا بين الحين والآخر حتى أنها تعرف كيف تقول بالبولندية “عفوًا، لقد نفذ البيض هنا” نظرًا لاشتهار الجملة آنذاك أثناء الأزمات الاقتصادية.
من ناحية أخرى، لا يملك توسك صلات قوية مع بلدان غرب أوروبا، فعلى عكس الألمانية الفصيحة التي يتميز بها، لا يعرف أي كلمة بالفرنسية، وأمر كهذا كان ليقف عائقًا أمام وصوله لمنصبه في الاتحاد الأوروبي منذ عشر سنوات، ولكنه رائج الآن بين مسؤولين كثر في بروكسل نظرًا لتراجع فرنسا وتنامي النفوذ الألماني، كما أنه يتكلم إنجليزية ضعيفة في طريقها للتحسّن كما يُقال، بفضل الدروس الإنجليزية التي يحصل عليها.
بينما ينتقل توسك من وارسو إلى بروكسل، تاركًا خلفه فراغًا سياسيًا نوعًا ما في بولندا، ومضطلعًا بدور أبرز وأكبر في قلب أوروبا، تبدو بولندا هي الأخرى وكأنها تخطو بخطوات واثقة نحو دور جديد في الساحة الأوروبية، يضعها في موقع قيادي على مستوى القارة، سياسيًا واقتصاديًا، وربما عسكريًا أيضًا.
هل بولندا هي ألمانيا الجديدة؟
في عام 2014، استحوذت شركة نوفي ستيل البولندية NOWY STYL، رابع أكبر شركة أوروبية في تصنيع الأثاث للمكاتب، على شركتين ألمانيَّتين، وحين سأل أحد الألمان رئيسها، آدم كرزانوفسكي، عن انطباعاته بشأن الشركتين، قال ببساطة “لست سعيدًا جدًا بمستوى العاملين في الشركة”، ليترك الألماني في حالة ذهول، ويرسل لاحقًا فريقًا من مصنعه في بولندا إلى ألمانيا لتدريب العمال الألمان على أحدث أساليب صناعة الأثاث لدى شركته.
بطبيعة الحال نوفي ستيل هي واحدة من الشركات القليلة في بولندا التي تضع بلادها الآن على خريطة التجارة والأعمال في أوروبا، ولكنها تجسّد اتجاهًا متزايدًا بين مختلف الشركات البولندية التي يتنامى حجمها وثقتها في سوق أوروبا، لتحمل إليه ليس فقط رأس المال، ولكن الابتكار ذي الطابع الأمريكي، الذي تفتقده الكثير من الشركات الأوربية العملاقة، المتهمة دومًا بالبيروقراطية مقارنة بنظيرتها الأمريكية، لاسيما وأن بولندا كانت لوقت طويل قريبة من بريطانيا والولايات المتحدة في الكثير من توجهاتها الاقتصادية والسياسية، على سبيل المثال، الشركة البولندية لنقل البضائع “إن بوست”، التي تأسست عام 1992، تُحدِث ثورة الآن في عالم التوصيل عبر دواليبها الإلكترونية التي يترك فيها أي شخص او شركة ما يريد، ليقوم المُرسَل له بالتقاطها في أي وقت، وهي تتوسع بقوة الآن في ألمانيا وبريطانيا.
إن بوست في بريطانيا
إذا ما استمرت بولندا في هذا الاتجاه، فإنها ستجد أمامها فرصة كبيرة في التحوّل إلى اقتصاد متقدّم، وفي نفس الوقت ستواجه تحديًا يجده أي اقتصاد في هذه المرحلة، وهي بدء بروز طبقة وسطى ذات تطلعات أكبر تؤدي إلى ارتفاع الرواتب، وبالتالي ازدياد تكاليف تأسيس الشركات فيها وتباطؤ الاستثمار، واتجاه الشركات الكبرى إلى الاستثمار في بلدان أخرى مجاورة لها وأرخص منها، وليس أدل على ذلك مما قاله عُمدة مدينة ليمريك في أيرلندا، حين قررت شركة دِل لصناعة الكمبيوتر نقل مصنعها الأساسي في أوروبا من هناك إلى مدينة لودج البولندية ذات التكاليف الرخيصة عام 2009، “في خلال ست أو ثماني سنوات، ستنتقل دِل إلى أوكرانيا”.
يعني هذا أن بولندا ستبدأ في تأسيس شركات كبرى بولندية بشكل أوسع تحفظ وجودها في الاقتصاد الأوروبي، وكذلك توسيع قاعدتها الصناعية لتصبح أكثر تطورًا، إذ يظل اعتمادها على الألمان كبيرًا حتى اللحظة، كما يجب عليها أن تتجه إلى الاستثمار في بلدان التكاليف المنخفضة المجاورة لها لتعزيز نفوذها الاقتصادي والسياسي الخاص، مثل أوكرانيا ورومانيا وبلغاريا، كما فعلت ألمانيا معها منذ عشرين عامًا، حين كانت بولندا اقتصادًا صغيرًا وفقيرًا بانتظار الاستثمارات القادمة من الاقتصادات المتقدمة.
ببساطة، ستتحوّل بولندا خلال العقود المقبلة إلى ألمانيا جديدة، وإن كانت بالطبع أقل تعدادًا وأقل إنتاجًا من الألمان، وستبدأ هي في جذب العمالية الرخيصة من شرق أوروبا من ناحية، وهو اتجاه متنامي بالفعل حاليًا بين شباب شرق أوروبا، والتواجد في اقتصادات هذه البلدان من ناحية أخرى، وهو ما يستتبع نشوء علاقة ستحتم عليها الاضطلاع بدور سياسي في المنطقة، وهو دور ظهرت بوادره بالفعل أثناء الأزمة الأوكرانية التي تبنت فيها وارسو موقفًا متشددًا من روسيا، أضف إلى ذلك أن بولندا قد تجد نفسها مُلزمة بالاضطلاع بدور عسكري، على عكس ما ترغب به أوروبا، مما سيخلق نوعًا من المسافة بين وارسو وبرلين مع الوقت.
علاوة على ذلك، سيكون التركيز على ثقافة الابتكار والتجديد والمشاريع الصغيرة ميزة يتمتع بها البولنديون تجعلهم منافسين للأوروبيين بقوة، إذ يتميّز اقتصادهم بريادة الشركات صغيرة ومتوسطة الحجم، حيث زادت صادرات بولندا عام 2014 بنسبة 13% بفضل 48.000 شركة تعيّن من 9 إلى 250 شخص فقط، وهو ما يعطي السوق مرونة مثل نظيره الأمريكي المعروف أيضًا بتلك الميزة، ويجعله بمأمن عن التأثر بسرعة بالأزمات المالية، مما يعني أن بولندا قد تكون ألمانيا صغيرة من ناحية بروزها كمركز ثقل في جوارها، ولكنها لن تكون ألمانيا جديدة على مستوى الثقافة الاقتصادية والسياسية التي ستجلبها معها، والتي ستكون أمريكية أكثر، بل ولعلها ستكون كذلك أيضًا على المستوى السياسي.
واشنطن أوروبية صغيرة
إبان الأزمة الأوكرانية العام الماضي، كتب رومان كوزنيار، مستشار السياسة الخارجية للرئيس البولندي، مقالًا في صحيفة ريتشبوسبوليتا البولندية المعروفة، يتهم فيها دون مواربة حكومات أوروبا بالتقاعس عن الوقوف بوجه بوتين وتوسعّاته الإمبريالية، واتهمهم بمحاولة استمالته، “بوتين يشل حركتهم – قادة أوروبا – كما يفعل الثعبان بفريسته، وكل ما علينا هو قبول ذلك بسبب علاقة برلين الخاصة بروسيا، نحن لا يمكننا أن نعتمد على الألمان في مسائل الأمن الإقليمي لأنها تتعامل مع روسيا كأنها طفل ذو احتياجات خاصة لا يمكن توبيخه أو ردعه”.
لم تكن تلك الكلمات مجرد محاولات للضغط على برلين أو بروكسل، بل كانت تعبيرًا عن إستراتيجية بولندا الجديدة على المستوى السياسي والعسكري، والتي تسعى إلى تأسيس قوة كافية لمواجهة التوسّع الروسي، بالتوازي مع العمل مع الاتحاد الأوروبي في شتى المجالات الاقتصادية والمدنية الأخرى، دون الاعتماد عليه في المسائل الأمنية والإستراتيجية الحساسة، وهو توجه جارٍ بالفعل في وارسو، التي انطلقت منذ أعوام في مبادراتها السياسية الخاصة، وكذلك في تعزيز قوتها العسكرية.
تقوم بولندا منذ سنوات بدور هام في دعم قوى المجتمع المدني في مختلف دول شرق أوروبا، على غرار ما تفعل المعونة الأمريكية على المستوى الدولي، وهي تخصص المعونة والدعم لمجموعات مختلفة، بدءًا من أوكرانيا، ذات الأهمية الكبيرة بالنسبة لوراسو، وحتى دول جنوب شرق أوروبا، مثل رومانيا ومولدوفا وبلغاريا، على سبيل المثال تتضمن الجهات المتلقية للدعم محطات التلفاز البيلاروسية المعارضة التي تعمل من الخارج، والتي تعطي بولندا نفوذً كبيرًا نظرًا لغياب مصداقية الإعلام الحكومي البيلاروسي الموالي لروسيا.
عسكريًا، تشهد بولندا، صاحبة أكبر قوات برية في أوروبا (باستثناء تركيا)، خطة معروفة بـ “خطة التحديث التقني للقوات البولندية”، والتي ستنفق بموجبها أكثر من 30 مليار يورو حتى عام 2022 لاستبدال المعدات السوفيتية بأخرى حديثة تشمل منظومات صاروخية بعيدة المدى، وقبة مضادة للصواريخ، وغواصات قادرة على حمل صواريخ، ومروحيات هجومية، وهي في انتظار وصول أول بطاريات دفاع جوي عام 2018، لتكون جزءًا من نظام “درع بولندا”، كما طلبت من البنتاجون JASSM، وهي صواريخ تعطيها القدرة على الرد ولا تقتصر على الدفاع الجوي، أيضًا، ستصنّع بولندا بمساعدة أمريكية نظام إطلاق الصواريخ المتعدد (MLRS) المعروف، والذي سيتيح لها خلق توازن أكبر مع الروس.
بالإضافة إلى الاهتمام الكبير بالقوات البرية، نظرًا لطبيعة الجغرافيا البولندية المبسوطة التي تسمح لأي قوة بغزوها بسهولة، تولي وارسو القوة البحرية اهتمامًا خاصة نظرًا لقُرب البحرية الروسية منها في ولاية كاليننجراد المجاورة المطلة على بحر البلطيق، حيث لا يفصل بينهما سوى 120 كم، وهو ما يعني قدرة موسكو على الوصول لأراضي بولندا بحرًا وجوًا في دقائق، لذلك تخطط البحرية البولندية للحصول على ثلاث غواصات ديزل -كهربية، وتحاول الحصول على ذخيرة مناسبة لها تصل لصواريخ بعيدة المدى.
بهذا الشكل، يمكن القول إن بولندا ستعيد وضع أوروبا على الخارطة العسكرية بشكل واضح في الفترة المقبلة، بعد أن نأت القارة بنفسها عن الحروب لفترة طويلة، وستصبح نوعًا ما واشنطن صغيرة، بالنظر لمواقفها السياسية من الروس، واستعدادها للوقوف بوجههم ولو عسكريًا، ودورها النشط في دعم القوى السياسية الديمقراطية في الشرق، وهو توجه سترحب به واشنطن الراغبة في فك الاشتباك مع تلك المنطقة والتركيز على أسيا، وستكون تباعًا متحمسة لتزويد بولندا بما تريد.
درع أوروبا الشرقية
مجموعة فيسِجراد
يُقال دومًا إن الألمان يحملون عبء تاريخهم النازي، ويعانون من عُقدة ذنب جراء التوسّع الذي حاولوا فرضه على أوروبا، ولم يؤد في النهاية سوى لتقسيم بلادهم، وهو ما أدى لاتجاه ألماني واضح نحو بسط النفوذ عن طريق التعاون الاقتصادي، كما الحال مع الاتحاد الأوروبي، وبالتالي التزام سياسة تؤكد على حفظ السلام وتجنّب الحرب، وهو اتجاه ناجح على ما يبدو في خلق وزن لبرلين في العالم مقارنة بالتوسّع النازي، والذي قل عدد أنصاره في ألمانيا بشكل كبير، ليجعل منها قوة اقتصادية خجولة سياسيًا كما يُقال.
في الحقيقة، وللمفارقة، فإن تاريخ بولندا يرسل رسالة معاكسة تمامًا للبولنديين، حيث تقسّمت بلادهم حين فقدوا قوتهم وتنامت القوى المجاورة لهم لا حين حاولوا التوسّع، بينما كانوا في ذروة نفوذهم درعًا لأوروبا ضد التوسع الروسي شرقًا والعثماني جنوبًا، مما يعني أن وارسو لن تجد غضاضة في توسيع قوتها السياسية والعسكرية لمواجهة التوجه الروسي الجديد.
أبرز توجه حاليًا هو محاولة خلق معسكر منفصل في شرق ووسط أوروبا، مثل مجموعة فيسِجراد التي تضم التشيك والمجر وسلوفاكيا وبولندا، وهي دول خضعت لهيمنة الروس أيام حلف وارسو، وبالتالي تحمل منظورًا مختلفًا من الناحية السياسية والاقتصادية والعسكرية لمواجهتها، ومن المتوقع أن يزداد دورها خلال العقد المقبل بينما تصبح مركز ثقل في شرق أوروبا من ناحية، نظرًا لجذب العمالة إليها وزيادة استثماراتها هناك، وكذلك نظرًا لقدرتها على ممارسة الضغط على برلين لتبني مواقف سياسية أكثر قوة تجاه موسكو، لاسيما وأن التبادل التجاري بين دول مجموعة فيسِجراد وألمانيا الألمان يفوق تجارة الألمان مع موسكو بشكل كبير.
بطبيعة الحال، وكما يقول التاريخ أيضًا، لن تكون قوة البولنديين توسعية بأي حال، فموقع بولندا الجغرافي يسمح لها بالكاد بأن تصبح قوة في شرق ووسط القارة ليس إلا، كما أنها في النهاية محدودة بقوتي الروس والألمان، وإن كانت قادرة على إحداث التوازن مع الأولى وتعزيز نفوذها لدى الثانية، فإنها بالطبع لن تُخرجهما من المعادلة، مما يعني أن وارسو ستكون درعًا لا سيفًا، كما كانت على مدار القرون الثمانية السابقة على تقسيمها عام 1795، وستكون قابليتها لخلق هذا الدرع مرهونة بقدرتها على خلق تحالف مع دول البلطيق ومع دول وسط أوروبا، وأخيرًا بسط نفوذها في الشرق، خاصة في أوكرانيا، كما فعلت أيام الكومنوولث البولندي الليتواني، عصرها الذهبي كما يعتقد أغلب البولنديين، والذي صد عن أوروبا الروس لفترة طويلة.
صورة لإحدى المعارك الروسية البولندية من القرن السادس عشر