بانياس تلك البلدة المستلقية بين جبل وبحر، أصدق ما توصف به “الجمال”، قادتني إليها أقدار مركبة، وخلال سبع سنين عرفتها وأهلها جيدًا، ربما استعدادًا لأمر عظيم، كانت أيامنا فيها وادعة هادئة، بل مكررة محاصرة بشكل يدنيك من الموت دون أن تشعر، وكذلك كانت سورية كلها، ولكن ليس إلى الأبد، فلابد للقيد أن ينكسر.
أسبوع قبل الشرارة الأولى، ولا تأتي الشرارة من عدم، لابد لها من مقدمات، وكما بدت لنا فقد كانت في خطبة الجمعة (11/3/2011)، ولم نكن بالطبع في معزل عما كان يحصل في تونس ومصر، حينها طالب خطيب الجمعة بمطالب خاصة تتعلق بالمدينة (مشاكل في المدارس والكهرباء)، وكان جريئًا في ذلك الوقت لدرجة أنه ذكر العدل والظلم، ومضت الأيام السبعة يملأها التهامس بين الناس، وكأنهم يهيئون أنفسهم لأن يقولوا شيئًا، وجاءت الجمعة التالية، وقد امتلأ الجامع فوق العادة، كلهم متلهفون، حتى الصغار الذين لم يعلموا شيئًا عن الظلم والاستبداد الذي ينتظرهم حين يكبروا، الجميع كان ينتظر سماع تلك الكلمات التي طالما غابت عنا في العلن، وإن ضجّت بها سرائرنا.
وانتهت خطبة تلك الجمعة الجميلة بهدوء، هدوء لم يدم إلا دقائق قطعته صرخاتٌ شجاعةٌ حد التهور، صرخة واحدة فقط كانت كفيلة بهدم سور من وهم الخوف صنعناه وعبدناه، هوى بسرعة أربكتنا حتى ما عدنا نميز الواقع من الحلم، سألني خطيب الجمعة يومها: هل نحن في حقيقة أم أنه الحلم؟!، أجبته: أنا أيضًا أتساءل!، لم يكن أهل البلدة في حاجة لأكثر من تلك الصرخة، فأسباب الثورة كانت مدفونة فيهم كما في كل الشعب السوري منذ عشرات السنين، صرخوا وصرخوا لساعات وما ملّوا ولم يتعبوا، وكأنهم أرادوا أن يسمعوا العالم صوتهم من أول مرة، وقد فعلوا، لم تمض ساعة أوأكثر حتى عم الخبر العالم (مظاهرات تطالب بالحرية في درعا وبانياس ودمشق).
الجمعة الأولى من الثورة 18/3/2011، لم يترك أحرار بانياس الساحة حتى اتصل الأمن بخطيب الجمعة وطلبوا منه أن يذهب إليهم ليرفع طلبات المتظاهرين، فمشى إليهم ومشي الجميع معه، قلت له في الطريق “صارت وصارت، ارفع سقف المطالب للأخير”، قال لي: بالتأكيد!، وكان اللقاء في مبنى أمن الدولة في وسط البلد وحضره شباب وشيوخ من البلد ورؤساء بعض الأفرع الأمنية، قدم الأهالي مطالبهم وكانت أكثر من عشرة مطالب، بدأت بما ذكر في خطبة الجمعة السابقة، وانتهت بالمطالبة برفع حالة الطوارئ، حرية الرأي، الإفراج عن المعتقلين، وعودة المهجرين قسرًا، واشترطوا على الأمن ألا يعتقل أحد ممن شارك في المظاهرة، وأن نتفرق الآن على أن ينفذوا المطالب، وإلا أعدنا الكرة في الأسبوع القادم.
عاد الجميع إلى البيوت ليسمعوا بشهداء درعا، وتابعوا على مر الأسبوع اقتحام الجامع العمري وما فعل الأمن في درعا، لم تكن هنالك مظاهرات في البلدة من الجمعة إلى الجمعة، ولكن قلوبهم كانت تشتعل ثورة، وكانت البلدة قد خلت من الشرطة والأمن إلا على باب أمن الدولة.
كان الشعار الأساسي في تلك المظاهرة (الله .. سوريا .. حرية وبس) وكان ردًا على شعار تكرر كثيرًا في سوريا في السنوات الأخيرة (الله .. سوريا .. بشار وبس)، ولكن لم يدر من هتف هذا الهتاف أنه اختصر المسألة كلها في هذا الرد (الله .. سوريا … ثم عليك أن تختار بينهما).
كأنهما لا يجتمعان أبدًا!
كنت أقف على شرفة أمن الدولة مع خطيب الجمعة وبعض الشباب، نعلن المطالب المتفق عليها مع رؤساء الأفرع الأمنية، وقد ملأ المتظاهرون الطريق حتى سدوه من أوله إلى سور الكنيسة، كانت صورة رائعة تلك التي رأيتها، لقد كان فيها الشباب والأطفال والكبار، الفقير والغني، العامل والتاجر، والشيخ ومن ليس على مذهبه، جمعتهم الحرية وكفى بها.
لم يحتج الشعب السوري لأكثر من صيحة صادقة جامعة لتلم شعثه وشتاته، لقد كانت المطالب نابعة من صميم احتياجاته، وليست أسيرة أفكار وأحلام البعض، فبعد أربع سنوات ندرك أن تأزم الثورة لم يكن إلا بعد أن تقدمها الجهاديون وأصبحوا أكبر التوجهات تأثيرًا عليها، وأدخلوا إليها – مع مالديهم من ميزات الحشد والخبرة القتالية – كل الإشكالات الفكرية والعقائدية التي لاحقتهم عبر مسيرتهم وتجاربهم لعشرات السنين، لقد كان الشعب الذي استجهلوه واستصغروه أكبر وأفهم منهم، ولكنهم أبوا إلا أن يكبلوه بحلالهم وحرامهم، وبمشاريعهم وأهدافهم الصغيرة، لم يدركوا أن الله لم يخترهم ليكونوا أوصياءه على الأرض، وأن مهمتهم دعوة الناس إلى الجنة، وليس سوقهم إليها بالعصا، فهل تكفي كل تلك الدماء والتضحيات لتبين لنا الحقيقة؟!
لا يوجد غطاء يمثل الشعب مثل الثورة، فهي الوحيدة القادرة على النطق باسمه وتوصيل صوته الصادق إلى العالم، هي الوحيدة القادرة على أن تحرك الشعب باتجاه واحد يخدم الهدف الأول الذي قامت من أجله، هي الوحيدة التي تفزع العدو وتربك صفوفه، فهوي علم أكثر منا أنها القادرة على إنهائه والقضاء عليه، أما بالنسبة لنا، فهي من أذاقتنا الحرية وتعلمنا منها معنى الكرامة، وهي أيضًا جميلة، جميلة جدًا.