التعاون هو الغرض الثالث من أغراضنا في علم دراسة الغرب “الاستغراب”، بعد العلم والدعوة، ويمثل التعاون الحد الأدنى من العلاقة السوية بين المختلفين، وليس بعده إلا القتال والصراع، والتعاون فطرة أصيلة في الإنسان وهو قديم فيه، ومهما اختلف علماء الأنثربولوجيا في “لماذا” و”كيف” نشأ لأول مرة فإنهم متفقون على أنه وُجِد منذ اللحظات الأولى [1]، وقد أجمل ابن خلدون القول في التعاون وكونه فطرة فقال: “الواحدُ من البشر لا تُقاوِم قدرتُه قدرةَ واحدٍ من الحيوانات العُجم سيما المفترسة؛ فهو عاجز عن مدافعتها وحده بالجملة، ولا تفي قدرتُه – أيضًا – باستعمال الآلات المـُعَدَّة لها، فلابد في ذلك كله من التعاون عليه بأبناء جنسه، وما لم يكن هذا التعاونُ فلا يحصلُ له قُوتٌ ولا غذاءٌ، ولا تتمُّ حياته؛ لِمَا رَكَّبه الله تعالى عليه من الحاجة إلى الغذاء في حياته، ولا يحصل له أيضًا دفاعٌ عن نفسه؛ لفُقْدَان السلاح، فيكون فريسة للحيوانات ويُعاجله الهلاك عن مدى حياته، ويَبْطُل نوع البشر، وإذا كان التعاون حصَل له القوتُ للغذاء، والسلاحُ للمدافعة، وتمَّتْ حكمة الله في بقائه وحِفْظِ نوعه؛ فإذًا هذا الاجتماع ضروري للنوع الإنساني، وإلا لم يَكْمُل وجودهم، وما أراده الله من اعتمار العالم بهم، واستخلافه إياهم” [2].
وقد أمر القرآن الكريم بالتعاون فقال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]، وقال الإمام القرطبي بأن هذا “أمر لجميع الخلق [3] بالتعاون على البر والتقوى” [4]، وكان على المسلمين أن يعينوا أعداءهم على فعل الخير، ذلك “أن التعاون عليها يكسب محبة تحصيلها، فيصير تحصيلها رغبة لهم، فلا جرم أن يعينوا عليها كل ساعٍ إليها، ولو كان عدوًّا، وإن كانوا كفارًا يُعَاوَنون على ما هو بر؛ لأن البر يهدي للتقوى” [5].
وأنكر القرآن الكريم على الناس أن يجعلوا ما بينهم من خلافات مبعثا للتنازع، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات: 13]، قال سيد قطب: “يا أيها الناس، والذي يناديكم هذا النداء هو الذي خلقكم من ذكر وأنثى، وهو يطلعكم على الغاية من جعلكم شعوبًا وقبائل: إنها ليست التناحر والخصام، إنما هي التعارف والوئام، فأما اختلاف الألسنة والألوان، واختلاف الطباع والأخلاق، واختلاف المواهب والاستعدادات، فتنوع لا يقتضي النزاع والشقاق، بل يقتضي التعاون للنهوض بجميع التكاليف والوفاء بجميع الحاجات” [6]، فالمقصود من الآية “أنكم حرفتم الفطرة وقلبتم الوضع فجعلتم اختلاف الشعوب والقبائل سبب تناكر وتطاحن وعدوان” [7].
وجاء في سنة النبي – صلى الله عليه وسلم – أن “الدال على الخير كفاعله” [8]، وقوله – صلى الله عليه وسلم – “خير الناس أنفعهم للناس” [9]، وكذلك حفلت سيرته – صلى الله عليه وسلم – بأنواع التعاون هذه مع أعدائه، فقد شهد في شبابه تحالفًا بين وجوه بيوت تعاهدت على نصرة الغريب المظلوم الذي فقد السند القبلي في بيئة قبلية، وهو حلف الفضول، وقال: “لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفًا، ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو دعيت به في الإسلام لأجبت” [10]، واستعان في هجرته – صلى الله عليه وسلم – بعبد الله بن أريقط المشرك الأمين الخبير في الطريق [11]، وكان من أول أعماله عند وصوله المدينة وضع وثيقة المدينة وفيها التعاون بين المسلمين والمشركين واليهود على حماية المدينة والدفاع عنها وعلى تسليم المجرمين والتشارك في النصرة [12].
ولما أراد المشركون تفريق أهل المدينة استعمل النبي – صلى الله عليه وسلم – صلة الرحم – لا صلة الدين – في الخطاب، وقصة ذلك أن مشركي قريش أرسلوا إلى عبد الله بن أبي ابن سلول – وقد كان الشخصية التي تتهيأ لتزعم المدينة – ومن كان يعبد معه الأوثان من الأوس والخزرج رسالة تقول: “إنكم آويتم صاحبنا، وإنا نقسم بالله لتقاتلنه أو لتخرجنه، أو لنسيرن إليكم بأجمعنا، حتى نقتل مقاتلتكم، ونستبيح نساءكم”، فلما بلغ ذلك عبد الله بن أبي ومن كان معه من عبدة الأوثان اجتمعوا لقتال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، فلما بلغ ذلك النبي لقيهم فقال: “لقد بلغ وعيد قريش منكم المبالغ، ما كانت تكيدكم بأكثر مما تريدون أن تكيدوا به أنفسكم؛ تريدون أن تقاتلوا أبناءكم وإخوانكم”. فلما سمعوا ذلك من النبي تفرقوا [13].
وللفقهاء كلام طويل مبسوط في مسائل التعاون مع الكافر والاستعانة به في السلم والحرب، ولهم تحقيقات مطولة في ضبط الموضوع لئلا يخرج عن كونه تعاونًا على البر والتقوى فيدخل في كونه تعاونًا على الإثم والعدوان [14].
وقد بني الفقه كله على قاعدة المصلحة التي تنفع الناس، قال الغزالي: “جلب المنفعة ودفع المضرة مقاصد الخلق، وصلاح الخلق في تحصيل مقاصدهم” [15]، ولا تكتمل مصالح الناس بغير تعاون.
وتاريخنا زاخر بالتعاون مع الأمم الأخرى، نسوق منه مثالاً واحدًا نستدل به على حرص المسلمين على تعاون “أكثر من المطلوب”، وهو موقف السلطان العثماني عبد المجيد الأول مع مجاعة أيرلندا التي ضربت البلاد بسبب آفة البطاطا التي أكلت المحصول، والذي كان المحصول الرئيسي في أيرلندا، وقد عمل جشع أصحاب المال على منع استيراد الحبوب من أمريكا الشمالية، فلما سمع السلطان عبد المجيد الأول بأنباء المجاعة أرسل عشرة آلاف جنيه إسترليني للمساعدة، فرفضت الملكة فيكتوريا هذا المبلغ لأن البروتوكول لا يسمح لأحد بما يفوق ما تبرعت به، وقد تبرعت بألفي جنيه فقط، فاكتفي السلطان بإرسال ألف جنيه، ثم أرسل ثلاث سفن محملة بالأغذية إلى ميناء دروهيدا (Drogheda) ساهمت في إنقاذ الوضع، ومازال الأيرلنديون يحفظون الجميل ويجعلون من الشعار العثماني شعارًا لبعض منتدياتهم مثل ستاد دروهيدا، ويعمل بعضهم على إنتاج فيلم سينمائي يخلد هذه القصة سيظهر للنور قريبًا [16].
إن دراسة الغرب تدلنا على مواطن التعاون مع القوم، فنحن مع أهل الكتاب ضد الملحدين، ومع أهل الدين ضد الماديين، ومع المؤمنين بالإنسان ضد العنصريين، ومع المنصفين للإسلام وأهله وحضارته ضد المتعصبين، ومع المؤمنين بالعدل وحقوق الإنسان ضد مسعري الحروب والداعين للاحتلال، وهكذا.. فنحن وإن كنا طريقا وسطًا متميزًا بين الأمم، إلا أن كثيرًا من المواقف العملية والجدالات النظرية تستدعي أخذ جانب الأقرب فالأقرب، ولذا سنجد أنفسنا مع فلاسفة فرانكفورت ضد فلاسفة المادية، ومع جون لوك ضد توماس هوبز في الحريات السياسية، ومع دور كايم ضد نيتشه في الأوضاع الاجتماعية، ومع توينبي ضد ماركس في العوامل الروحية المحركة للتاريخ … إلخ.
ولا يمكن أن نتعاون في كل هذا ما لم نعلم ونفهم وندرس هذا الغرب.
—————————————
[1] ه. جـ. ويلز: معالم تاريخ الإنسانية 1/114، ول ديورانت: قصة الحضارة 1/12، أشلي مونتاغيو: البدائية ص14، 15.
[2] ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون 1/43.
[3] قوله “لجميع الخلق” وليس للمسلمين فحسب، فجمهور العلماء على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة عقلاً وشرعًا. انظر التفصيل في: الموسوعة الفقهية الكويتية 35/19 وما بعدها.
[4] القرطبي: الجامع لأحكام القرآن 6/46.
[5] الطاهر بن عاشور: التحرير والتنوير 6/87.
[6] سيد قطب: في ظلال القرآن 6/3348.
[7] الطاهر بن عاشور: التحرير والتنوير 26/260.
[8] أحمد (23077)، وأبو داود (5129)، والترمذي (2670) واللفظ له، وصححه الألباني وشعيب الأرناؤوط.
[9] أحمد (9187)، والحاكم (59)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (6662).
[10] البيهقي (12859)، ابن هشام: السيرة النبوية 1/113، وانظر: الألباني: صحيح السيرة النبوية ص35 وما بعدها.
[11] الطبراني في المعجم الكبير (19015)، والهيثمي في مجمع الزوائد (15289)، وانظر: الذهبي: سير أعلام النبلاء 2/ 152.
[12] محمد حميد الله: مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة ص57 وما بعدها، إبراهيم العلي: صحيح السيرة النبوية ص145 وما بعدها.
[13] أبو داود (3004)، وقال الألباني: صحيح الإسناد.
[14] ومن أدق هذه المسائل وأدلها على الغرض منع الفقهاء الاستعانة بالكافر على قتال المسلم ولو كان باغيا، والقلة التي أجازت هذا من علماء الأحناف اشترطوا وجود القدرة والسيطرة للمسلمين في حال القتال، فكان القصد كما عليه جميعهم هو “إعزاز الدين” وضبط أن يكون التعاون على البر والتقوى لا الإثم والعدوان. وجدير بالذكر أن أقوال الفقهاء هذه لا تنطبق بحال على أحوالنا المعاصرة لعلو حكم الكفر وظهوره على المسلمين.
[15] الغزالي: المستصفى ص174.
[16] انظر تقريرًا مرئيًا لقناة الجزيرة، ضمن برنامج “مراسلو الجزيرة” بُث بتاريخ 18/3/2014، وعرض الوثيقة العثمانية الخاصة بالموضوع، وانظر أيضا البحث الموسع الصادر حديثا لكريستين كينيلي عن المجاعة العظمى بأيرلندا “بذل المعروف والمجاعة العظمى في أيرلندا: عطف الغرباء”، والذي تتبع الموضوع، وتوجد منه نسخة إلكترونية على موقع جوجل للكتب:
Christine Kinealy: Charity and the Great Hunger in Ireland, The Kindness of Strangers