الصورة: مارتن إنديك يرى دعم الأنظمة القمعية المستقرة أولوية قبل العدالة
على بعد آلاف الأميال من الشرق الأوسط تبدو الحيرة على الباحثين والمسؤولين الأمريكيين حيال الخطوات الصحيحة لجلب الاستقرار لهذه المنطقة المنكوبة، سجال فكري قوي يجري داخل أروقة الإدارة الأمريكية ويتردد صداه في المراكز البحثية المختلفة حول مدى وجود “الرغبة” في التدخل لحل مشكلات سوريا ومصر، ويلحقها نقاش آخر حول “القدرة” على ذلك من جهة نجاعة الإستراتيجيات المطروحة في أهدافها، تدور النقاشات بين فريق يدعو إلى حسم الخيارات والتحالف مع النظم القديمة للتخلص من خطر الإسلاميين المتطرفين، يقابله فريق آخر يحذر من العودة إلى السياسات التي أنتجت أحداث الحادي عشر من سبتمبر والربيع العربي ويطرح الانتظار “الإستراتيجي” بديلاً حتى تنضج الظروف للحسم، تكشف هذه السجالات البحثية عجز الدولة القطب عن الحركة الفعالة في مستنقع بلا قرار وتوضح حدود القوى الخارجية على التدخل في منطقة أقسم أهلها على ألا يتركوها لأحد، حتى لأنفسهم.
يرى جون ألترمان، مدير برنامج الشرق الأوسط بمركز الدراسات الدولية والإستراتيجية، بأن الجهاديين خطر على المنطقة ومن أجل التخلص منهم يجب أن تنتهي الحروب التي هي في الحقيقة من أفرزت الفراغ الذي شرعن لوجودهم في المقام الأول، يركز ألترمان على أهمية الدور الأمريكي في الحل، ويقترح إستراتيجية جديدة تقوم على قيادة أمريكا لعملية تفاوض طويلة النفس مع اللاعبين على الأرض من جهة وداعميهم الإقليميين من جهة أخرى في نفس الوقت، وذلك من أجل الوصول إلى اتفاق يحقق التوازن بين اللاعبين وينجح في التوفيق بين المصالح المتعارضة، لم يحدد ألترمان ماهية المصالح المتعارضة وكذلك لم يقدم تفاصيل إستراتيجية التفاوض المقترحة، لا نعرف هل ستقوم أمريكا بهذا بشكل جماعي تشاركي مع دول المنطقة، أم منفردة وبشكل ثنائي بينها وبين كل طرف، بحيث يصبح اتفاقها المرتقب مع إيران باكورة نتائج هذه الإستراتيجية، في حالة كون هذا صحيحًا، يمكن توقع إبرام أمريكا لاتفاقات ثنائية مع السعودية ومصر وإسرائيل بحيث تنسج كلها خيوط الإستراتيجية الجديدة، كل ما يوضحه ألترمان هنا هو أن مثل هذه الإستراتيجية تحتاج إلى مزيد من الصبر وكثير من المهارة وقدر غير قليل من الالتزام.
في مقابل هذه الرؤية ترى كارولين بارنيت، الباحثة في نفس البرنامج، أن الولايات المتحدة غالبًا مترددة في التدخل في مصر، وبالتأكيد هي غير قادرة على ذلك في حالة رغبتها، الولايات المتحدة مختلفة مع دول الخليج حول مستقبل مصر ومع ذلك فهي غير قادرة على منعهم من المضي في مسارهم الذي تراه ضارًا، ترى دول الخليج أن مصر يمكن أن تستقر بمزيج من الدعم الاقتصادي، وإقصاء الإسلام السياسي، مع تدعيم نموذج إسلامي مطيع في إطار سلطوي، هذه وصفة كارثية في نظر الولايات المتحدة، فناهيك عن فشلها في السابق، فهي لا يمكن أن تحقق لمصر أي معدلات مقبولة للنمو في ظل احتياجاتها الهائلة بدون تمثيل سياسي يضمن مشاركة واسعة للجميع بدون استثناء، ترى بارنيت أن الولايات المتحدة عاجزة عن صد هذه المخططات على الرغم من اختلافها معها نظرًا لتضاؤل نفوذها في القاهرة، لا ندرى إلى أي مدى يتفق جون مع كارولين حول مدى الإرادة والقدرة الأمريكية، لكن من الواضح أن جون يرى ضرورة التدخل وإن كان غامضًا حول اتجاهاته وإستراتيجيته ومداه.
مزيد من التفاصيل حول النقاشات الأمريكية يمكن استقاؤها من نقاش صاخب آخر اندلع في معهد بروكنجز، على بعد أمتار من مركز الدراسات الدولية والإستراتيجية، حول إستراتيجية التدخل في الشرق الأوسط بعدما وصلت الأمور لمستويات مقلقة في سوريا واليمن ومصر وليبيا، بدأ النقاش بمقالين نشرهما السفير مارتن إنديك، نائب رئيس المركز، حول ضرورة حسم أمريكا إستراتيجيتها في أحد اتجاهين: إما التحالف مع إيران أو التحالف مع النظم القديمة مثل السعودية ومصر وإسرائيل وتركيا، وذلك من أجل منع انفجار الشرق الأوسط، يرى إنديك أن إيران لن توقف برنامجها النووي، ولن تتوقف عن دعم حزب الله وحماس والجهاد الإسلامي والحوثيين، وكذلك لن تقوم بتفكيك الحرس الثوري وفيلق القدس مهما قدمت لها أمريكا من تنازلات، لذلك لن يمكن التحالف معها، البديل الوحيد المتبقي عندئذ لمواجهة خطر الجهاديين هو التحالف مع السعودية ومصر وتركيا وإسرائيل، ومن أجل تحقيق ذلك يجب الصمت على انتهاكات حقوق الإنسان في هذه البلدان حيث إن هذه السياسة تهدد بإغضاب العرب وإسرائيل من أمريكا وتدفعهم إلى العمل بعيدًا على حماية أمنهم وتقويض مصالحنا.
لم تمض أيام على مقالة إنديك حتى اشتبكت تمارا ويتس، نائب مدير برنامج الشرق الأوسط في نفس المركز، مع أفكار مديرها المباشر موضحةً اتفاقها مع جزئية عدم إمكان التحالف مع إيران، واختلافها مع ما طَرحهُ بشأن التحالف مع النظم القديمة، ترى تمارا، المسؤولة السابقة عن الربيع العربي في الخارجية الأمريكية، أن هذه النظم التى يقترح التحالف معها هي نفسها من أنتجت الفوضى الحالية برفضها للإصلاح من الداخل، وأنها بالإضافة إلى عجزها وعقمها، أيضًا منقسمة على نفسها بما سيمنعها من إنتاج أي توافق إقليمي مرجو، ترفض تمارا الإنجرار لرغبة مارتن بالانخراط الفوري في إقامة حلف ترى أن خطره أكبر من نفعهِ، في مقابل ذلك تقترح الاستمرار في التعامل الفردي مع كل قضية على حدة، وتكثيف العمل مع المجتمعات المحلية عبر إقامة علاقات أقوى مع مكونات ذات تمثيل أكبر للمجتمعات مع تجنب الانخراط في أي خلافات عربية – عربية، وذلك حتى يظهر لاعبون جدد يمكن الاعتماد عليهم إستراتيجيًا في تحقيق استقرار يدوم.
انطلق رد تمارا على مارتن من منطلق عملي، بينما أتي رد مايكل أوهانلون، الباحث بشؤون الأمن والاستخبارات بنفس المعهد، عليه طارحًا مسألة أخلاقيةً هامة وهي كيف أن تجاهل الديمقراطية وحقوق الإنسان في السياسة الخارجية يناقض القيم الأمريكية، يرى أوهانلون أنه لا يمكن العودة إلى الماضي ولا يجب إعادة إنتاج ظروف الربيع العربي بالتحالف مع نفس الديكتاتوريات التي أنتجته في المقام الأول، يسير أوهانلون مع تمارا في نفس الخط الذي يرى أن أمريكا قوية بما يكفي وأن الجميع يحتاجها وأن الانتظار الإستراتيجي هو الحل عن طريق التعامل مع كل مشكلة على حدة، يمكن مثلاً مقايضة مصر على تقليص المعونة مقابل حفظ حقوق الإنسان وتحقيق انفتاح سياسي، ويمكن أيضًا الضغط على السعوديين لقبول حكومة تمثيلية في سوريا، وكذلك يمكن تهديد البحرين بسحب الأسطول الخامس في حالة عدم احترام حقوق البدون، قد يكون من الصعب وسم كل ما سبق من سياسات مقترحة من قِبل أوهانلون باللاعملية، لكن أوهانلون انطلق في صياغتها كلها من منطلق أخلاقي مستشهدًا بمقولة لمارتن لوثر كنج تؤكد على أهمية العمل علي تغيير مسار التاريخ في اتجاه العدالة، حتى لو استغرق ذلك بعض الوقت.
قد تبدو مثل هذه الردود مقنعة، وهي كذلك، حتى لمارتن إنديك نفسه الذي نشر ردًا قويًا على ما ذهب إليه كلاً من تمارا ويتس ومايكل أوهانلون. للمفاجأة، أعلن مارتن إنديك اتفاقهُ التام مع كل ما قالوه، لكنه عاد ليقدم نفس وجهة نظره من منطلق آخر وهو منطق الضرورة الإستراتيجية واللحظة الحاسمة التي لا وقت فيها للمفاضلة بين الاستقرار والعدالة، ولا الاعتماد على شركاء ضعفاء واستبعاد آخرين أقوياء وموثوقين، بدا إنديك ماكرًا في اللجوء إلى مثل هذا التكتيك، فكأنه يقول لهم: لا وقت لترددكم وعدم حسمكم، عندما يتعلق الأمر بأمن أمريكا القومي ومصالحها العليا سنختار الاستقرار على العدالة وسنفضل الشركاء الأقوياء على الضعفاء في منطق إمبراطوري تقليدي.
لا ندري هل انتهي السجال عند هذا الحد أم ستقوم تمارا ومايكل بالذود عن حُجَجِهِمَا ولا نعرف أيضًا حجم تمثيل المتحاورين من المعهدين في الإطار الأمريكي الأوسع، لكننا نعرف أن مثل هذه الافكار متداولة داخل أروقة الإدارة الأمريكية بكثافة.
بشكل عام، يمكن الخلوص من النقاشات الحالية إلى سيادة حالة من عدم الفهم لمآلات تفاعلات المنطقة مترافقة مع عدم ثقة في إمكان التدخل الفعال في ظل هذا الغموض، يحاول البعض في واشنطون خلق حالة من الاستعجال قد تدفع الإدارة للتدخل العاجل بشكل تقليدي أو غير تقليدي، يمثل مارتن إنديك الفريق الأول الذي يقترح العودة إلى التحالفات التقليدية وطمأنة الحلفاء القدامى بالتوقف عن انتقاد مصر والمضي مع السعودية في خططها للإطاحة بالأسد، بينما يمثل كلاً من تمارا ويتس ومايكل أوهانلون الفريق الثاني الذي يرى عدم جدوى العودة إلى الماضي، وعدم إمكان عقد تحالف موسع مستدام في ظل هذه الظروف، وبذلك يكون التدخل انتقائيًا ومؤقتًا بغرض تجميد الوضع القائم من الانفجار والتمهيد لحلول طويلة المدى حال نضوج ظروفها، لا يمكن وضع ألترمان كليًا مع المعسكر الأول رغم غموض إستراتيجيته “المبتكرة” نظرًا لإدراكة لاستحالة العودة إلى الماضي، ولا يمكن وضعة تمامًا مع المعسكر الثاني لاختلاف مدخله للحل عنهم، حيث يقترح إستراتيجية تفاوض شاملة لإنهاء الحروب وتجفيف منابع الجهاديين.
في العمق من هذا النقاشات تبرز مشكلة عدم وجود حليف يمكن الاعتماد عليه أمريكيًا، وهى وإن كانت معضلة أمريكية فهى قضية عربية بالأساس، تنكر النظم المحافظة حقيقة حدوث تغييرات هيكلية كبيرة تمنعها من الحفاظ على استقرارها الداخلي ومواصلة دورها الإقليمي متمثلة في التغييرات الجيلية المترافقة مع فشل سياسات التنمية الاقتصادية واستنفاذ الاحتواء السياسي لحدوده، وهو ما أفرز أجيالاً غاضبة ترفع مطالب جذرية يسهل تحولها مع تنظيمات جهادية إلى قوى تدميرية، في المقابل، تبدو قوى الإسلام السياسي غير قادرة على استيعاب تناقضات صعودها المفاجئ للمسرح السياسي المحلي والدولي على حد سواء، فمن جهة هي تملك شعبية جارفة وقادرة على اجتذاب الأصوات، لكنها من ناحية أخرى غير قادرة على الحكم منفردة ولا على التواصل الفعّال مع النخب القديمة والنظام الدولى، حتى يستطيع الفرقاء التوصل لتفاهمات حول قضاياهم، ستظل الولايات المتحدة في تلك الحيرة وستستمر النقاشات في تلك الحلقات المفرغة حتى تستقر رمال المنطقة المتحركة.
نُشر هذا المقال لأول مرة على موقع السورية نت