خاص وترجمة نون بوست
في فبراير الماضي تجمع عدد من أكثر القادة الإيرانيين تأثيرًا في جامع أمير المؤمنين ليلقوا النظرات الأخيرة على صديقهم الذي سقط “حسن شاطري” المحارب القديم الذي خاض حروبًا سرية لإيران في الشرق الأوسط وجنوب آسيا، في العراق وأفغانستان حيث قضى الكثير من سنوات خدمته، لقد كان أحد القادة القليلين في فيلق النخبة بالحرس الثوري الإيراني: فيلق القدس.
قُتل شاطري قبل يومين فقط من ذلك التاريخ على الطريق الواصلة بين دمشق وبيروت، كان قد ذهب إلى سوريا مع الآلاف من أفراد فيلق القدس لينقذوا الحليف الأقرب لإيران في المنطقة، رأس النظام الذي كان على وشك السقوط في سوريا “بشار الأسد”.
شاطري عمل تحت لقب “مسؤول فيلق القدس في لبنان”، في أثناء جنازته كان العديدون من رجاله الذين دربهم من أفراد حزب الله يتدفقون إلى سوريا ليقاتلوا دفاعًا عن بشار الأسد، ورغم أن مقتل شاطري كان غامضًا، فإن مسؤولاً إيرانيًا قال إن شاطري استهدفه الكيان الصهيوني بشكل مباشر.
كان المشيعون يجهشون بالبكاء، ويضربون صدورهم على الطريقة الشيعية، نعش شاطري كان ملفوفًا بالعلم الإيراني، حول جثمانه تجمع عدد من الرجال، أحدهم كان قائد الحرس الثوري الإيراني، والآخر كان مسؤولاً عن عملية لقتل أربعة من قيادات المعارضة الإيرانية في مطعم في برلين عام 1992، والثالث كان والد “عماد مغنية” القائد العملياتي في حزب الله الذي يُعتقد أنه كان مسؤولاً عن مقتل أكثر من 250 جنديًا أمريكيًا في بيروت عام 1983، الذي اُغتيل في عملية إسرائيلية بدمشق عام 2008.
جالسًا في الصف الثاني على سجاد الجامع، بدا الفريق قاسم سليماني قائد فيلق القدس، رجل ضئيل الجثة في السادسة والخمسين، بشعر فضي ولحية قصيرة، ونظرة شديدة التركيز، كان سليماني الشخص الذي أرسل شاطري – صديقه المقرب والموثوق به – إلى حتفه.
كقيادات الحرس الثوري الإيراني، كان شاطري وسليماني قد انتميا إلى مجموعة صغيرة تشكلت وقت “الدفاع المقدس” وهو الاسم الذي يطلقه الإيرانيون على الحرب العراقية – الإيرانية التي استمرت لثماني سنوات وراح ضحيتها أكثر من مليون قتيل.
رغم أنها كانت حربًا كارثية، فإنها كانت بداية لثلاثة عقود من بناء دائرة التأثير الشيعية التي كان مركزها طهران وتمتد خلال العراق وسوريا ولبنان وشرق المتوسط.
سليماني تولى قيادة فيلق القدس قبل 15 عامًا، لقد كان يعمل على إعادة تشكيل الشرق الأوسط لصالح إيران، كان يعمل كوسيط أحيانًا وكقوة عسكرية أحيانًا أخرى، فمن اغتيال الأعداء إلى تسليح الحلفاء، ولأكثر من عقد كان عمله توجيه الشبكات الشيعية المسلحة داخل العراق.
وزارة الخزانة الأمريكية فرضت عقوبات على شخص سليماني بسبب دوره في دعم نظام الأسد أو في مساندة الإرهاب، ورغم إدارته للعمليات والعملاء حول العالم، فإن سليماني يكاد يكون غير مرئي للعالم الخارجي، فهو “الأكثر تأثيرًا في الشرق الأوسط” بحسب جون ماجير ضابط الاستخبارات الأمريكية السابق الذي خدم في العراق، الذي يكمل: “ومع ذلك، لا أحد قد سمع به”.
عندما يظهر سليماني في العلن، لا يظهر إلا في احتفالات المحاربين القدماء أو لمقابلة مرشد الثورة الإيرانية، هو شخص هادئ نادرًا ما يعلو صوته، إنه ذلك الرجل الذي “عندما يدخل غرفة بها عدد من الناس، يذهب فيجلس وحيدًا في ركن الغرفة، لا يتكلم، لا يعلق، فقط يجلس ويستمع”، كما أخبرني ذلك المسؤول العراقي.
في الجنازة، كان سليماني يبدو متألمًا في الجاكت الأسود والقميص الأسود، فلم يفقد الفيلق شخصًا بهذا الموقع في عملية خارجية من قبل، عندما قال إمام المسجد ناعيًا شاطري “أحد أندر الرجال الذين جاؤوا بالثورة إليكم، قد رحل”، دفن سليماني رأسه بين كتفيه وبدأ في النحيب.
الأشهر القليلة التي سبقت مقتل شاطري، شهدت تراجعًا كبيرًا للأسد على الأرض في مقابل الثوار السنة، لو سقط الأسد فسيفقد الإيرانيون صلتهم بحزب الله، بحسب داعية إيراني: “لو خسرنا سوريا، فلن نستطيع إبقاء طهران”.
لذلك فعلى الرغم من الأثر الشديد للعقوبات الاقتصادية على إيران، فإن الإيرانيين استمروا في دعم نظام الأسد بمليارات الدولارات ربما، التقديرات تقول إنهم دعموه بأكثر من 7 مليارات دولار، لا يفكر الإيرانيون بحسابات الدولار عندما يدعمون الأسد، إنهم يرون خسارته “خطرًا وجوديًا”.
في العام الماضي، سأل سليماني أحد القيادات الكردية في العراق ليسمح له بفتح طريق إلى سوريا عبر شمال العراق، جنود الأسد لا يقاتلون، وعندما يفعلون، إنهم يذبحون المدنيين فقط! “الجيش السوري لا فائدة له”، هكذا قال سليماني لسياسي عراقي، لقد أراد الباسيج – الميليشيات الإيرانية المدنية التابعة للحرس الثوري التي قمعت تظاهرات الإيرانيين المطالبين بالإصلاح في 2009 – قال في 2012 “أعطني كتيبة واحدة من الباسيج وسأستطيع احتلال الدولة بأكملها”، عندما اعتقل الثوار السوريون 48 إيرانيًا، قالت السلطات الإيرانية إنهم من الحجاج، إلا أن الثوار والاستخبارات الغربية علموا أنهم من الباسيج، لذلك فقد كانوا قيمين للغاية بالنسبة للأسد الذي بادلهم بألفين من الثوار الأسرى.
بدأ سليماني يسافر بشكل دوري إلى دمشق، لقد كان “يدير المعركة بنفسه” حسبما قال لي أحد المسؤولين الأمريكيين، في دمشق، يقال إنه يدير المعركة من مبنى محصن بشدة، حيث كون بنفسه سلسلة من القادة متعددي الجنسيات الذين يديرون الحرب، بينهم قادة الجيش السوري وقادة من حزب الله وممثل للميليشيات الشيعية في العراق، وإن لم يستطع سليماني أن يحضر الباسيج، فقد أحضر ثاني أفضل شيء، اللواء حسين حميداني نائب القائد السابق للباسيج، رفيق السلاح السابق في أثناء حرب العراق وإيران، الذي يُعد خبيرًا في إدارة الميليشيات غير النظامية كمثل التي تشكلها إيران لحماية الأسد من السقوط.
لقد استغل سليماني كل شيء، نسق الهجمات، درب الميليشيات، وتمكن من تركيب نظام يستطيع من خلاله مراقبة اتصالات الثوار، بل واستطاع أن ينسق بين الأجهزة الأمنية في نظام الأسد التي صُممت لتتجسس على بعضها، يقول مسؤول عربي إن عدد أفراد فيلق القدس بالإضافة لأفراد الميليشيات الشيعية يتجاوزون الآلاف وينتشرون في كل أنحاء البلاد.
نقطة التحول الكبيرة كانت في أبريل الماضي، عندما استطاع الثوار تحرير مدينة القصير السورية بالقرب من الحدود اللبنانية، ولكي يستعيد السيطرة على المدينة، تواصل سليماني مع حسن نصر الله ليرسل له أكثر من ألفين مقاتل، لم يحتج نصر الله إلى إقناع، فالقصير مدخل البقاع (معقل حزب الله) وإغلاقها يعني أن حزب الله لن يمكنه البقاء! لذلك فقد حاصر حزب الله القصير وقطع الطرق المؤدية إليها وهاجم، قُتل العشرات من أفراد حزب الله وما لا يقل عن 8 ضباط إيرانيين.
العملية التي أدارها بنجاح سليماني، انتهت في الخامس من يونيو بسقوط المدينة في يديه، لقد كان نصرًا عظيمًا بالنسبة له.
سليماني الذي يبدو متواضعًا بجسده الضئيل، يُعد من الرجال المدافعين بقوة والمحافظين على وجود النظام السلطوي الإيراني، في يوليو 1999 وفي ذروة المظاهرات الطلابية في إيران، أرسل سليماني مع عدد آخر من قيادات الحرس الثوري رسالة موقعة بأسمائهم إلى الرئيس محمد خاتمي يحذرونه من الإطاحة به في حالة عدم تمكنه من قمع التظاهرات، قالوا في رسالتهم “صبرنا نفد بالفعل”.
المسؤولون يصفونه بالشخص المؤمن بالإسلام، المؤمن بالثورة، له علاقات بالجميع، وسائله في السيطرة تتنوع بين الرشاوى التي يدفعها للعديدين عبر الشرق الأوسط، ولا تنتهي بالتهديد والترهيب الذي يستخدمه حين يحتاج، ولا يلجأ للقتل إلا في النهاية، يصفه رئيس الموساد “بالذكي سياسيًا”، حيث يعمل مع الجميع داخل النظام الإيراني، والمرشد الأعلى للثورة الإيرانية يخصص له وقفًا بثروة صغيرة ينفق منها.
أدار سليماني عمليات في أماكن بعيدة للغاية مثل تايلاند ونيودلهي ولاجوس ونيروبي، على الأقل ثلاثين عملية في العامين الماضيين فقط، أهمها كانت عملية فاشلة في واشنطن، عندما حاول فيلق القدس اغتيال السفير السعودي في الولايات المتحدة عن طريق مهرب مخدرات مكسيكي اتضح لاحقًا أنه عميل للسلطات الأمريكية، بعد تلك العملية نصح مسؤولون سابقون لجنة من الكونغرس باغتيال سليماني “إنه يسافر كثيرًا، إنه في كل مكان، اذهبوا وائتوا به، إن لم تستطيعوا أسره فاقتلوه”، في إيران، وقع أكثر من 200 على رسالة غاضبة تحمل عنوان “كلنا قاسم سليماني”.
سليماني الذي نشأ فقيرًا وعمل محاولاً مساعدة والده الذي كان على وشك القبض عليه بواسطة الشرطة الإيرانية كونه لم يستطع رد الدين الذي اقترضه من حكومة الشاه، كان يملك طموحًا عظيمًا! كان يتنقل بين الصالات الرياضية ممتلئًا بروح الثورة التي كانت تسود ذلك الوقت، ومع سماعه لخطب شيخ رحالة في رمضان، أصبح ملهمًا بشدة باحتمالية قيام ثورة إسلامية.
عندما أطاحت الثورة بالشاة في 1979، انضم سليماني إلى الحرس الثوري، وترقى بسرعة شديدة رغم كونه لم يحصل على تدريب متقدم، ربما لا يتجاوز تدريبه 45 يومًا، إلا أنه كان “شابًا ومتحمسًا وأراد أن يخدم الثورة كما الجميع”، حسبما قال عن نفسه في مقابلة في 2005.
في أثناء الحرب العراقية وبعد 18 شهرًا من الثورة، ذهب سليماني إلى مهمة بسيطة على الجبهة لمدة خمسة عشر يومًا تتضمن إمداد المقاتلين بالماء، إلا أنه لم يعد إلا مع نهاية الحرب.
“بإمكانك أن ترى المحاربين المصابين في إسطنبول، بعضهم ملتزم دينيًا، وبعضهم يُعيد تأهيله بالسكر ولقاء العاهرات، بعضهم لديه عينان خاويتان، ذلك الشخص الذي كسرته الحرب، وبعضهم لديه عينان تلمعان، سليماني سيكون في القسم الأخير” يقول مارك جيريشت الذي كان ضابطًا في الاستخبارات الأمريكية في إسطنبول في منتصف الثمانينيات عندما كان الآلاف من الجنود الإيرانيين يذهبون لإعادة التأهيل عقب إصابتهم في الحرب.
ريان كروكر السفير الأمريكي في العراق بين 2007 و2009، لديه ذات الإحساس، لكنه عندما سُئل عن تدين سليماني، قال إنه لا يبدو أن الدين هو ما يحركه، وإنما القومية، “إنه يحب القتال”.
عام 1998 تسلم سليماني قيادة فيلق القدس، الذي كان قد بنى لنفسه اسمًا “قاتلاً”، الأمريكيون والأرجنتينيون يؤمنون أن النظام الإيراني ساعد حزب الله في تفجير السفارة الإسرائيلية في بيونيس آيريس في 1992، وبعدها بعامين تفجير المعبد اليهودي بنفس المدينة، العمليتين أدتا إلى مقتل أكثر من 100 شخص، قاد سليماني الفيلق ليصبح منظمة قادرة على الوصول إلى كل مكان، بفروع تركز على عمليات الاستخبارات، وأخرى للتمويل، وثالثة للضغط السياسي، وغيرها للعمليات الخاصة.
بعد توليه منصبه، بدأ سليماني في توطيد علاقاته بلبنان، مع حسن نصر الله وعماد مغنية، عندها كانت “إسرائيل” قد احتلت لبنان منذ 16 عامًا، وحزب الله كان يتوق للسيطرة على لبنان، عندها كان لفيلق القدس بزعامة سليماني وجودًا قويًا للغاية في لبنان، حيث كان دعمهم لحزب الله سببًا رئيسيًا في الانسحاب الإسرائيلي من لبنان عام 2000.
ومنذ ذلك الوقت وفيلق القدس يقدم دعمًا لمختلف الفصائل المسلحة ضد أمريكا وحلفائها في المنطقة مثل السعودية والبحرين، وتجاوز الدعم أيضًا الشيعة ليصل لدعم حماس في فلسطين، أخبرني دبلوماسي غربي في بغداد “لم يحاول أحد في إيران أن يخطط لبناء محور المقاومة ذلك، لكن الفرص كانت مواتية”، ثم تابع “بانتهازه تلك الفرص كلما أتت، استطاع سليماني أن يبني ذلك المحور، ببطء لكن بثبات”.
في الأيام الفوضوية التي تلت هجمات 11 سبتمبر، وفي مفاوضات سرية بين الإيرانيين والأمريكيين الذين تقطعت بينهم العلاقات رسميًا منذ العام الأول للثورة الإسلامية، كان واضحًا أن الإيرانيين يتواصلون في أثناء التفاوض مع سليماني الذي كانوا يشيرون إليه بـ”حاج قاسم”، وبحسب كروكر فإن حاج قاسم كان مرنًا في التفاوض، يفسر السفير السابق ذلك “من الصعب أن تجد شخصًا ظل في حرب وحشية لمدة ثماني سنوات دون أن يصبح براغماتيًا”، لكن حاج قاسم لم يكن يكتب أي شيء، كان أذكى من أن يترك للأمريكيين شيئًا مكتوبًا.
قبل حرب أفغانستان بأيام، وفي بداية أكتوبر 2001، بدا أن صبر الإيرانيين قد نفد تجاه إدارة بوش، حيث اعتقدوا أن الأمريكيين سينتظرون طويلاً قبل مهاجمة طالبان التي أراد الإيرانيون مهاجمتها بشدة. “قام المفاوض الإيراني راميًا بأوراق التفاوض على الطاولة وصاح “عندما تكونون مستعدين للحديث عن حرب حقيقية، تعرفون أين تجدونني”، وصفع الباب خلفه تاركًا الغرفة، لقد كانت لحظة عظيمة” يقول كروكر.
التعاون بين طهران وواشنطن استمر خلال مراحل الحرب الأولى التي راح ضحيتها آلاف الأفغان المدنيين، في مرحلة ما، سلم المفاوض الإيراني نظيره الأمريكي خريطة مؤشرة، وقال له: “هذه نصيحتنا، اضربهم هنا أولًا، ثم هنا”، وعندما سأله كروكر عما إذا كان بإمكانه أن يكتب ملاحظاته، قال له المفاوض، بإمكانك أن تحتفظ بالخريطة.
في يناير 2002، قال بوش إن إيران جزءًا مما سماه “محور الشر”، وبعدها قابل كروكر مفاوضه الإيراني الذي قال له بغضب شديد: “سليماني غاضب بشدة، إنه يشعر بالخيانة، لقد كنا قريبين إلى هذا الحد، لكن كلمة واحدة في خطاب رئاسي غيرت التاريخ” يقول كروكر.
ومع حرب العراق تعقدت المصالح، فمع تراجع حدة الاحتلال الأمريكي تزايدت الحدة الإيرانية، فمع تشكيل فيلق بدر الذي بدأ في الثأر من البعثيين، وتصفية كوادر السنة في العراق وكف يديه تمامًا عن محاربة الأمريكيين، شكلت أيضًا ميليشيا مدعومة من إيران، جيش المهدي التابع لمقتدى الصدر، وكلاهما تلقى تدريبات مباشرة من فيلق القدس.
لكن حاج قاسم حاول استغلال الغضب السني من الأمريكيين، فتحادث مع رئيس مخابرات سوريا ليسمح للإسلاميين السنة بالدخول إلى العراق لقتال الأمريكيين، وتواردت أنباء عن أن القاعدة تعمل من داخل إيران حيث تجهز لضربات ضد المصالح الأمريكية في السعودية، وبعد قليل من ورود تلك الأخبار، استطاعت القاعدة تفجير مجمع سكني وقتل 35 شخصًا بينهم 8 أمريكيين.
على مدار سنوات الاحتلال التالية تصاعد نشاط الميليشيات الشيعية ضد السنة، التي شكلت تنظيمات مسلحة شاركت في الحرب الأهلية كذلك، وضد الأمريكيين الذين عانوا من عمليات سليماني ضدهم عن طريق ميليشيا جيش المهدي وغيرها، كان لحاج قاسم دور الوساطة في اتفاق تهدئة بين الحكومة العراقية والأمريكيين من جهة وجيش المهدي من جهة أخرى.
في بعض الأحيان كان يبدو أن حاج قاسم يستمتع باستفزاز نظرائه الأمريكيين، وقصص استفزازاته لهم تنتشر، في صيف 2006 وفي أثناء حرب “إسرائيل” على لبنان، تناقصت الهجمات على القوات الأمريكية في العراق بشكل ملحوظ، وبعد انتهاء الحرب أرسل سليماني برسالة إلى قائد عسكري أمريكي يقول فيها: “أتمنى أن تكونوا تنعمون بالأمن والهدوء في بغداد”، الأمريكيون قرأوا الرسالة “لقد كنت مشغولاً في بيروت”.
في حوار مع وليد جنبلاط العام الماضي، كان يتذمر بشكل متكرر من استمرار ارتباط حزب الله بإيران، قال لي: “يجب أن تجلس مع حزب الله، لكن ماذا ستقول؟”، وتابع “إنهم لا يقررون، إنه خامنئي وقاسم سليماني من يقررون”.
ورغم أن فيلق القدس كان مؤثرًا في معظم اللحظات الفارقة لدى حزب الله، بما فيها حرب تموز 2006، فإن الحزب له لحظاته كذلك. في يوليو الماضي علم الأمريكيون أن العملية التي نفذها الحزب بمهاجمة حافلة إسرائيلية في بلغاريا تمت بغير تنسيق مع الإيرانيين، قال لي مسؤول أمريكي: “علمنا أن حاج قاسم سأل من معه عقب الحادث، هل لدى أحدكم علم بهذا؟ لم يكن أحد يعلم، حزب الله تصرف على مسؤوليته هذه المرة”.
تأثير حاج قاسم في لبنان يتجاوز كل شيء إلى حادثة اغتيال رفيق الحريري في فبراير 2005، المحققون الأمميون يعتقدون أن حزب الله جذب الزناد، إلا أنه لم يكن له أن يفعل ذلك دون دعم حقيقي من إيران وسوريا.
“إن كانت إيران متورطة، فسليماني بالتأكيد هو مركز ذلك”، قال لي روبرت باير ضابط كبير في الاستخبارات الأمريكية. في الوقت نفسه، أحد المشتبه بهم الأربعة من حزب الله في قضية اغتيال الحريري، مصطفى بدر الدين صهر عماد مغنية، شوهد من الثوار في سوريا حيث يُعتقد أنه يقاتل بجوار الأسد.
في ديسمبر 2010، أرسل جيمس جيفري السفير الأمريكي في العراق، رسالة إلى الشعب العراقي يهنئهم بنجاحهم في تشكيل حكومة جديدة برئاسة نوري المالكي بعد تسعة أشهر عاشت فيها العراق بلا حكومة، ما لم يقله جيفري في الرسالة هو أن الصفقة التي شكلت الحكومة العراقية لم تتم بجهود العراقيين، بل بجهود سليماني.
قبل ذلك بأشهر، دعا حاج قاسم قيادات شيعية وكردية للقائه في طهران، حيث أخذ منهم وعودًا بدعم المالكي، ورغم أن المالكي والأسد ليسا على وفاق، فإن سليماني جمعهم من خلال صياغة عقد يقضي بمد أنبوب للنفط من العراق إلى الحدود السورية، مقتدى الصدر لم يكن سعيدًا إلا أن حاج قاسم وعده بأن يعين رجاله في الوزارات الخدمية.
مع تشكيل الحكومة الجديدة علم الأمريكيون أن صاحبهم حاج قاسم أخرجهم من العراق تمامًا، فبينما كانوا يهنئون العراقيين، كان المالكي وتحالفه يصرون على أن يغادر الأمريكيون العراق! سليماني قال “لا أمريكان!” قال لي مسؤول عراقي “عشرة سنوات من العلاقة لم تكن إلا هباءً”.
ديسمبر الماضي، وعندما كان نظام الأسد قاب قوسين أو أدنى من السقوط، رصد الأمريكيون تجهيزات لقنبلة محملة بغاز السارين السام، فيما يبدو إعدادًا لهجمة كيميائية شرسة، على الفور تواصل الأمريكيون مع الروس الذين تواصلوا بدورهم مع الإيرانيين، سليماني استطاع إقناع الأسد بأن يمتنع عن استخدام ذلك السلاح في حينه.
غير معلوم موقف حاج قاسم من السلاح الكيماوي، فخلال الحرب الإيرانية – العراقية عانى آلاف الجنود الإيرانيين من هجمات كيماوية، لكن المسؤولين الأمريكيين يعتقدون أن موقفه في منع الأسد من استخدام الأسلحة سابقًا هو موقف براغماتي وليس نابعًا من عقيدة رافضة لاستخدام الأسلحة الكيميائية، ربما قال للأسد شيئًا مثل “لن نستطيع أن ندعمك أمام العالم إن استخدمت هذه الأشياء”.
من المعلوم الآن أن نظام الأسد استخدم الهجمات الكيماوية 14 مرة حتى الآن، كان أكبرها في الـ21 من أغسطس الماضي عندما قتل أكثر من 1400 مدني، إلا أن دعم حاج قاسم له لم يتوقف. لينقذ الأسد، استخدم سليماني كل رصيد ممكن: جنود حزب الله، رجال ميليشياته الشيعية، وكل الأموال التي استطاع جمعها من حكومته المحاصرة.
أخبرني شخص يُدعى أبو حسن أنه سافر إلى مدينة مشهد في إيران حيث تدرب على يد إيرانيين، ثم سافر إلى مرقد السيدة زينب قرب دمشق، حيث حارب دفاعًا عن الأسد بجوار جنود حزب الله وقناصة إيرانيين، قال لي: “لقد فقدنا الكثير من الناس”.
ربما أكبر نجاحات حاج قاسم فيما يتعلق بالملف السوري هو استخدام نفوذه على العراق للسماح باستخدام الأجواء العراقية في نقل ما يحتاجه الأسد من جنود وعتاد إلى سوريا من إيران عبر العراق، المالكي حتى الآن يعارض استخدام الأراضي العراقية لإرسال مساعدات إلى نظام الأسد، فرغم أنه يكره الأسد ونظامه، فإنه يبغض النصرة ولن يسره أن يرى حكومة للقاعدة في دمشق.
مع وصول حسن روحاني إلى رأس السلطة السياسية في إيران، ومع التفاؤل الغربي بما يمكن أن يقدمه لهم روحاني الذي وعد شعبه بإلغاء العقوبات الاقتصادية التي أرهقت بلاده على مدار الأعوام الماضية، يبدو أن هناك معركةً داخليةً ستدور في طهران، حيث يجب على روحاني أن يتجاوز المحافظين ومن بينهم حاج قاسم لكي يبني علاقات جيدة مع الغرب، حاج قاسم والآخرون لا يثقون بالغرب “سيعتقدون أن أي تنازل يقدمونه للغرب هو دليل ضعف” حسبما يقول كيفن هاريس عالم الاجتماع في جامعة برنستون.
بالنسبة لحاج قاسم، تسليم الأسد يعني القضاء على مشروع التوسع الذي شغله لـ15 عامًا قاد فيهم فيلق القدس. في كلمة له أمام مجلس الخبراء الإيراني قال حاج قاسم بكلمات واضحة “لا نلقي بالاً لدعايا العدو، لأن سوريا هي خط الدفاع الأول للمقاومة، وهذه حقيقة لا تقبل الشك”. “لدينا واجب الدفاع عن المسلمين، لأنهم يقعون تحت القمع والطغيان”.
بالنسبة له، يخوض حاج قاسم نفس الحرب ضد نفس الأعداء الذين كان يحاربهم طوال حياته، بالنسبة له، يبدو أن تنازلات السياسة لا تقارن عنده بجنة أرض المعركة، “سندعم سوريا حتى النهاية” يقول حاج قاسم سليماني.
المصدر: نيويوركر