ترجمة وتحرير نون بوست
حلب التي صمدت لأكثر من ستة آلاف سنة أمام الغزاة والنهب والعصيان، تضررت حضارتها وتشرد شعبها في السنوات الثلاث الماضية بشكل أكبر مما أحدثته جميع الصراعات السابقة.
العاصمة القديمة، وأحد أقدم المدن المأهولة باستمرار في العالم، تنقسم الآن إلى نصفين: حلب الغربية التي تقع تحت سيطرة النظام السوري، وحلب الشرقية التي تسيطر عليها المعارضة المسلحة.
حلب الغربية تعيش – إلى حد كبير – واقعًا أفضل خلال هذه الحرب، فالخدمات المدنية لاتزال مستمرة – نسبيًا – في معظم الأحياء، كما أن أضرارها جرّاء الحرب تعتبر ضئيلة إذا ما قورنت بدمار حلب الشرقية التي أصبحت شبه خاوية على عروشها، حيث تمت تسوية أحياء بأكملها على الأرض نتيجة للاستهداف المدفعي والصاروخي الهائل الذي استهدف بشكل منهجي الطرق الرئيسية وجميع مخارج الأحياء، وكذلك الأسواق والمستشفيات وطوابير الخبز والوقود.
الأشخاص الذين مازالوا يعيشون في شرق حلب، والذين لا يتجاوز عددهم حوالي 40.000 نسمة – قبل الحرب كان العدد يقدر بحوالي مليون نسمة- يمضون حياتهم بدون ماء أو كهرباء منذ أكثر من عام، وبإمدادات ضعيفة جدًا من وقود التدفئة، الذي تناقص الطلب عليه بشكل ملحوظ خلال الشتاء الأخير.
جميع الحدائق العامة تم تجريدها بشكل كامل تقريبًا من الأشجار، حيث كانت تُقطع لتُستخدم كحطب للتدفئة، وعندما لم يعد هناك المزيد من الأشجار لقطعها، باشرت العائلات بتكسير الطاولات والكراسي في المدارس للاستفادة من خشبها في التدفئة، وضمن هذا الواقع المأساوي لا تكون ثمة مبالغة في حال قارنّا وضع حلب بحصار لينينغراد، وهي المدينة التي تعتبر مرشحًا قويًا للفوز بلقب أسوأ مكان في العالم.
لحسن الحظ، مر الشتاءان الماضيان على السكان بسرعة، وهي راحة نادرة نَعِمَ بها السكان في خضم الحملة الشرسة المدمرة والمستمرة، التي قوضت وتقوض الوجه الحضاري لأكبر مدينة سورية، وتركت السكان الذين اختاروا عدم الرحيل في كفاح مستديم من أجل البقاء على قيد الحياة.
القلة القليلة من السكان المحليين الذين اختاروا البقاء في حلب الشرقية، انتقلوا إلى أماكن أكثر قربًا من المدينة القديمة، وهي أحد الأحياء القليلة المتبقية والتي تستمر بها الحياة بعسر بطريقة أو بأخرى، وتقع أحياء المدينة القديمة في وسط مدينة حلب بالقرب من قلعة حلب التاريخية التي تسيطر عليها قوات النظام حاليًا، والتي تتربع على تلة صغيرة وسط المدينة ويعود تاريخها إلى العصور الوسطى، حيث بقيت القلعة صامدة وقائمة –حتى الآن- رغم الأنقاض التي تتكدس حولها، والناجمة بأغلبها عن قيام قوات المعارضة المسلحة بتفجير الأنفاق تحت مقرات النظام، حيث تم تفجير الفنادق “فندق الكارلتون” والمساجد “المسجد الأموي” والمباني الحكومية “القصر العدلي” التي تقع بجانب القلعة.
ولكن رغم ذلك، فإن الأضرار التي سببتها هذه التفجيرات لا تقارن بالدمار الحاصل على الحدود الشرقية البعيدة عن وسط المدينة، حيث عملت البراميل المتفجرة التي تلقيها طائرات الهليكوبتر التابعة للنظام على مسح ضواحي وأحياء بأكملها، ويمكن القول إن 40% من حلب الشرقية تضررت بشدة أو تدمرت بالكامل، والمدنيون الذين لم يغادروا إلى تركيا، أو إلى الريف الشمالي بين المدينة والحدود التركية، تركوا بيوتهم الواقعة في شرقي المدينة منذ فترة طويلة ليستقروا في أماكن أكثر قربًا إلى وسط المدينة.
في هذه المناطق، يستطيع السكان أن يجدوا الطعام، وتبقى المشكلة في قدرتهم على دفع ثمنه، كون معظم أشكال العمل توقفت منذ فترة طويلة، والمتاجر أغلقت أبوابها في جميع المناطق عدا في عدد قليل من الأحياء، كما أن المكاتب الحكومية غير موجودة منذ بداية الأزمة، والتجارة قائمة على حدود الكفاف فقط.
التعليم في الجزء الذي تسيطر عليه المعارضة “المناطق المحررة” شبه منعدم تقريبًا، والرعاية الصحية موجودة بحدودها الدنيا والأساسية فقط، فمثلاً في أحد المستشفيات النادرة المتبقية في شرق حلب، يتم تنفيذ عملية جراحية للدماغ بدون وجود جهاز تصوير مقطعي، حسب ما يشير الدكتور عمر المصري، ويتم التعامل مع المرضى الذين يعانون من جروح مفتوحة في الرأس ضمن وسائل الحد الأدنى، حيث يقول المصري “إننا نستعمل ذات الوسائل لمعالجة جميع إشكال وإشكالات الطب المتقدم هنا، سواء لطب الأطفال أو للتوليد أو لجراحة الحوادث، جميعنا ينتظر الموت، وليس فقط المرضى، براميل النظام المتفجرة تستهدف المستشفيات أيضًا”.
المستلزمات الطبية تصل إلى حلب، من خلال خط الإمداد الحيوي الذي تسيطر عليه المعارضة المسلحة، والواقع شمال المدينة على طول الطريق حتى الحدود التركية، رغم أن مجموعات الدولة الإسلامية التي تسيطر على الريف الواقع في الشمال الشرقي تشكل خطرًا داهمًا ودائمًا على هذا الطريق الحيوي.
الطعام يصل إلى الأشخاص الذين يحتاجونه – ويمكنهم دفع ثمنه – سواء من تركيا أو من خلال سلسلة من الطرق الريفية المؤدية إلى الجنوب الذي تسيطر عليه قوات النظام، والفقر هو الآفة المتزايدة التي تلتهم السكان المتبقين في شرق حلب، فعلى الرغم من محاولات مقدمي الرعاية الاجتماعية ومقاتلي المعارضة لتوفير الرعاية للسكان، بيد أن بعض العائلات أصبحت كخيال شفاف قادر على الانزلاق من خلال شقوق الحائط نتيجة للفقر المدقع الذي تعيشه.
يشير عمال الخدمة المدنية في حلب أنهم يجدون باستمرار عائلات محاصرة في منازلها لعدة أيام، وذلك إثر إلقاء البراميل من قِبل طائرات النظام في مكان قريب منهم، ومع مغادرة أغلب العائلات الأخرى، وانقطاع وسائل الاتصالات، لا يوجد أحد قادر على سماع صراخهم واستجداءاتهم، حيث يتم العثور عليهم بالصدفة.
“حتى الآن مازالت المدينة صامدة تحت الحصار الوحشي”، قال خالد ميدان، الذي غادر حلب إلى تركيا في يناير ليعيش مع زوجته وأطفاله في شقة بالقرب من الحدود، ويضيف “غادرنا بسبب نفسية الأطفال، هؤلاء الصغار لم يعودوا قادرين على تحمل الأوضاع أكثر من ذلك، أصبحوا يخافون المروحيات ويكرهونها، لم يعودوا يستطيعون النوم، لقد كانوا مصدومين وخائفين، هذه ليست حياة”.
يقول ميدان إن حلب جاثية الآن على ركبتيها، وما أثلج صدور المواطنين المتبقين مؤخرًا، هو فشل محاولات محاصرتهم من قِبل النظام في فبراير الماضي، ويضيف “سكان حلب ما زالوا قادرين على تناول ما يسد رمقهم، لكنهم لن يستطيعوا دفع ثمن أساسيات الحياة لفترة أطول، إنهم بحاجة للمساعدة”.
المصدر: الجارديان