ترجمة من الفرنسية وتحرير نون بوست
منذ بداية الثورة السورية ضد نظام الأسد في الخامس عشر من مارس 2011، التي تحولت إلى حرب أهلية دامية سقط حتى الآن أكثر من مائتي ألف قتيل، وبعد أربع سنوات لايزال عمل الأطباء على الميدان يواجه تحديات كبيرة؛ بسبب صعوبات التنظيم والأمن والتعقيدات اليومية في بلد يعاني من الحصار والقصف وتتغير فيه مواقع الاشتباك كل يوم، وتدير منظمة أطباء بلا حدود ست مؤسسات صحية في شمال سوريا، وتقدم الدعم اللوجستي لحوالي مائة مستشفى على امتداد البلاد، وبهدف إعطاء لمحة عن الصعوبات الكبيرة التي لا تظهر للمتابع العادي، قامت هذه المنظمة بتجميع حكايات عاشها ورواها ثلاثة أطباء يتعاونون معها منذ سنوات، ويحافظون على اتصال دائم بها.
النوم أصبح من الكماليات غير المتاحة لنا
يعمل اليوم الدكتور سعيد كطبيب جراح في مستشفى يقع في منطقة شبه ريفية في شرقي دمشق الذي تسيطر عليه المعارضة، ويروي هذا الشاب الذي تخرج قبيل بداية الصراع معاناته اليومية في هذه المؤسسة الصحية، التي يعود إليه الفضل في إنشائها على أنقاض مدرسة قديمة ومهجورة تعرضت للقصف.
ويروي هذا الجراح قصة قدوم امرأة حامل في حاجة لعملية قيصرية للمستشفى وهو محاصر تمامًا، حيث يقول “لم أقم بهذا النوع من العمليات من قبل، وقبل موعد الولادة بأيام عملت على جمع بعض المعلومات حول العملية من خلال شبكة الإنترنت، لم يكن لدي وقت لأضيعه وكان علي أن أتعلم بنفسي، وخلال الفترة التي أحست فيها المرأة بآلام الوضع كانت هذه المنطقة تتعرض للقصف بشكل يومي، ولكن رغم كل شيء قمنا بنقل المريضة لغرفة العمليات وأجريت عليها عملية جراحية التي تكللت بالنجاح، لا أستطيع أن أصف الفرحة التي غمرتني عندما خرجت الطفلة الصغيرة إلى النور في صحة جيدة هي وأمها، لقد مثلت تلك العملية نقطة ضوء بالنسبة لي في خضم هذه الأحداث المؤلمة التي تشهدها سوريا، فهذه المرة لم أصارع ضد الموت بل من أجل ولادة حياة جديدة.
وتحدث هذا الجراح عن الحصار قائلاً: “في يوم من أيام شهر يوليو 2013 وفي حوالي العاشرة مساءً، وقع صاروخ على المستشفى وحطم الانفجار تجهيزات المستشفى وتسبب في قطع واختراق الجدران الخشبية، وحاولنا الانتقال بأقصى سرعة إلى مركز طبي صغير متواجد بالقرب منا، ولكن الانفجارات تتالت وزرعت في قلوبنا الرعب وجعلتني أتوقع الأسوأ، ولكننا وصلنا لوجهتنا المنشودة دون أن يصاب أي منا بأذى، ومنذ تلك اللحظة ونحن تحت حصار يستحيل الفرار منه ولا يمكن التزود بالمعدات الطبية اللازمة فيما يتواصل إقبال الجرحى على هذا المركز الطبي، وقد حدث معي كثيرًا في تلك الفترة أن عالجت مريضين في نفس الوقت، وأصبح النوم والاسترخاء من الكماليات غير المتاحة لنا، فنحن نكتفي بأخذ فترات قصيرة من الراحة للتحرك قليلاً والأكل والشرب ثم نعود مباشرة للعمل، وأثناء تعاملنا مع الحالات الطارئة العديدة كنا في أحيان كثيرة مُجبرين على اتخاذ قرارات مصيرية وصعبة، دامت هذه الحالة الجنونية لمدة ثمانية أشهر حتى فبراير 2014، ثمانية أشهر من المعاناة والضغط.
“بعد ثلاث سنوات من الجراحة في ظروف صعبة لم أعد أستطيع تحمل هذه المناظر المؤلمة، وعندما تنتهي الحرب لن أعود قادرًا على ممارسة مهنة الطب، أنا واثق من أن أي إنسان عاش ما عايشته سيتوصل في النهاية لنفس القناعة”.
شاهدنا أشياء رهيبة يصعب تقبلها
يعمل الدكتور علي، كمدير لمستشفى في منطقة الحولة شمال حمص وهي منطقة يعيش فيها حوالي تسعون ألف شخص تحت الحصار.
ويقول الدكتور علي “في شهر مايو من سنة 2012 قُتل حوالي مائة شخص أغلبهم من النساء والأطفال في عشية واحدة، وكان ذلك اليوم عصيبًا جدًا بالنسبة لنا ولكن الوضع سار نحو مزيد من التأزم في الحولة، إنهم يتكلمون في نشرة الأخبارعن إطلاق قذائف بشكل متقطع ولكن في الواقع يحدث ذلك بشكل متواصل، لقد قمنا بإنشاء هذا المستشفى في الريف من لا شيء، والأسّرة الآن دائمًا محجوزة، في شهر يناير أحصينا خمسين برميل متفجرات أُلقي علينا في أسبوع واحد، وفي القرى المجاورة رغم أن الناس يعرفون بعضهم جيدًا إلا أنهم لم يتمكنوا من التعرف على أشلاء الضحايا، لقد أجرينا العديد من العمليات الجراحية وعمليات البتر، رغم أنه لا يوجد ضمن طاقمنا غير طبيب عام واحد، وجراح عظام واحد لكامل منطقة الحولة التي يسكنها أكثر من تسعين ألف ساكن.
ويضيف هذا الطبيب “منطقة الحولة محاصرة تمامًا وجنود النظام لا يتركون شيئا يمر، حتى الخبز أحيانًا يمنعون وصوله، نحن نعيش في واد ولكننا محاطون بالجبال ونقاط المراقبة، والأمر أصبح أشبه بسجن في جزيرة تعدادها تسعين ألف ساكن، محاصرين في وسط سجن آخر أكبر حجمًا وهو حصار شمال حمص، لم نعد نستطيع سلك الطرقات العادية منذ ثلاثة سنوات، وللحصول على الغذاء والدواء والوقود، يتوجب علينا حملها على ظهور البغال وسلك طريق موحلة أو حملها في قوارب صغيرة عبر البحيرة، هناك طريق واحد صالح لمرور شاحنات النقل، ولكننا نسميه طريق الموت لأن القناصة متمركزون على جوانبه بكثافة”.
“لن أنسى ذلك الرجل الستيني الذي توقف قلبه عن الخفقان، لقد بقي في حالة غيبوبة لمدة يومين ونصف، وتناوب الفريق الطبي بالليل والنهارعلى إنعاشه يدويًا، باستعمال كيس نقوم بالضغط عليه لإدخال الهواء لرئتيه، عندما فتح عينيه وطلب رؤية زوجته لم أصدق ذلك، لم أصدق أنه استفاق وأن دماغه عاد للنشاط، واليوم لايزال ذلك المريض يعيش في الحولة، وقعت العديد من الأحداث المشابهة وأنا أعتقد أنه عندما تنتهي الحرب سيقرر عدد من الأطباء التوقف عن ممارسة مهنة الطب، لقد رأينا كثيرًا من الأشياء التي لا نقدر على قبولها أو استيعابها”.
مادمت على قيد الحياة فأنا أرفض أن أحيا كالأموات
الدكتور إياد هو جراح في إحدى مستشفيات ريف شمال حمص الذي تسيطر عليه المعارضة.
يقول هذا الطبيب “المستشفى الذي نعمل فيه يقع بين جبهتي قتال، والمستشفيات المجاورة ترسل إلينا الجرحى بشكل يومي لأنها عاجزة عن احتواء الأعداد الكبيرة، إن العيش تحت الحصار يشبه العيش في ظلام دائم، في البداية كان مستشفانا الصغير مصممًا لعلاج جرحى الحرب، ولكنه اليوم يستقبل الأطفال والنساء الحوامل والمسنين، فهم يخشون الذهاب للمستشفيات التي يسيطر عليها النظام لأن عبور نقطة تفتيش تابعة لجنود الأسد يمثل مخاطرة كبيرة، ولهذا يفضل البعض علاجنا البسيط عن المخاطرة بحياته”.
ويضيف هذا الطبيب “نحن نعاني بشكل متواصل من نقص المعدات الطبية والغذاء، كما تقوم منظمة إنسانية دولية بالتكفل بالأجور المتدنية ومصاريف الوقود وتعهد المعدات، وحدها منظمة أطباء بلا حدود تقدم لنا المعدات الطبية والأدوية، ولسد الحاجيات أصبحنا ننتج الضمادات والقطن بأنفسنا، كما أن بعض المعدات الأخرى مثل حقن التخدير وأكياس الدم مفقودة تمامًا، أما بالنسبة للقاحات فقد كانت متوفرة، ولكنها نفذت منذ أربعة أشهر، وأغلب المواد والسلع الأساسية تضاعف ثمنها أربع أو خمس مرات مقارنة بما قبل الحرب، وحتى الماء والكهرباء أصبحتا من الكماليات اليوم”.
“لم أتحرك من هذه المنطقة منذ ثلاث سنوات، لدي ثلاثة أطفال لا أكاد أجد وقتًا لرؤيتهم، وأشعر أنني أصبحت كالرجل الآلي لأنني أعمل بالليل والنهار، كما أن عنف النظام دفعنا للعيش في المخابئ أغلب الأوقات، حتى المدارس والمستشفيات والمنازل أصبحنا نشيدها تحت الأرض، إن الخوف يخيّم على حياتنا ولكن مادمت على قيد الحياة فأنا أرفض أن أعيش كالأموات”.
*قامت الصحيفة بتغيير أسماء الأطباء الثلاثة خوفًا على سلامتهم
المصدر: صحيفة لوفيغارو الفرنسية