الربيع العربي لم يكن ليتحاشى منازلة أعتى الديكتاتوريات العربية وفاء للفلسفة التي خطها صراخ البوعزيزي والنار تلتهم جسمه النحيف انتفاضًا على ما كان يظن أن تزييف الوعي الشعبي قد نجح في تثبيته من خوف واستكانة وقبول بعلقم اليأس على حساب أحلام بات مجرد مرورها ليلاً في الأذهان والناس نيام جرم لا تخطئه أعين المتخابرين ولا يغفره قضاة الأنظمة الجاثمة على صدور المساكين، انطلقت المسيرة بتونس ذات شتاء قان لتنتشر نسائم الحرية في أرجاء العالم العربي ولم يخطر ببال أكبر المتشائمين وقتئذ أن بعض الحلم قد يؤذن بالخراب كما شهدنا ونشاهد اليوم في سوريا.
سوريا بوزنها الإستراتيجي وبسطوة النظام البعثي المتحكم في مفاصلها، لم يكن سهل فيها زلزلة نظام ورث الديكتاتورية والجبروت أبًا عن جد، ورغم السلمية التي انطلق بها الحراك الشعبي، لم يتوان بعث الأسد في الرد بالقصف والتفجير بوحشية أربكت العالم وقيمه المتغناة، وسرعان ما تحولت الشعارات المنادية ببعض الحرية إلى احتراب داخلي تطور ليصبح صراع محاور ومشاريع دولية اختارت أن تتبارز على أرض الشام.
تحول الحراك السلمي إلى صراع مسلح خاصة مع انشقاق بعض عناصر الجيش السوري خلق حالة من الفوضى أنعشت آمال من تبنى ويتبنى نظرية إدارة التوحش منهاجًا لتحقيق مشروعه كما يتصوره، كما أن حالة التعاطف غير المسبوق مع السوريين المنتفضين مهدت لخلق حركة هجرة “نصرة” تربعت تونس على عرشها بحسب أرقام مأخوذة من دراسات أعدتها مراكز مثل المركز الدولي لدراسات التطرف والعنف السياسي ومجموعة سوفان ومركز بوي للأبحاث، والتي خلصت إلى أن أكثر من 3000 تونسي انخرطوا في القتال في سوريا والعراق؛ وهو ما يدفعنا للتساؤل عن الأسباب الكامنة وراء هذا العدد الكبير نسبيًا بالمقارنة مع ما سُجل لدى دول عربية أخرى أقرب من تونس إلى سوريا.
يأس من الديمقراطية
رغم أن بروز التطرف في تونس سبق الثورة بسنوات ولا يعد إفراز من إفرازاتها المباشرة، إلا أنه فشل طيلة السنوات الأخيرة لحكم بن علي في أن يخلق حاضنة شعبية في ظل نظام بوليسي لا تفوته سكنات ولا حركات وأيضًا لاعتبارات سوسيولوجية ثقافية يتميز بها الشعب التونسي تجعله في غالبيته رافضًا لمثل هذه الأفكار وغير قادر على استيعابها.
وبالرجوع إلى بعض الحالات التي سُجل سفرها إلى سوريا وانخراطها في القتال الدائر هناك، نصطدم بحقيقة أن المئات ليسوا سوى وافدين جدد بل إن العشرات منهم لم يكونوا رافضين للعملية الديمقراطية وكانوا من المشاركين في الانتخابات التأسيسية التي نُظمت سنة 2011 أو على الأقل ممن اهتموا بها وتابعوها.
هذا التحول الكلي من الإيمان بالعملية الديمقراطية وتفاصيلها إلى تبني فكر يعتبر الأخيرة كفرًا وعنوانًا وهميًا للخلاص يحمل في طياته إحباطًا ولا ريب، فبرغم اعتلاء حزب محافظ محسوب على الإسلاميين سدة الحكم، إلا أن منسوب الضغط الذي مارسته عليه الدولة نفسها التي حاول أن يقودها وتكالب جميع النافذين من الداخل ومن الخارج من أجل إفشال تجربته الأولى في الحكم قد يكون سببًا في إحباط بعض هؤلاء، فالديمقراطية وحدها لم تكف للحكم ولا لتطبيق البرامج التي وعد بها الناس بل كانت هناك معطيات أخرى تفهت إلى حد بعيد وزن أصوات الذين انتخبوا.
نتيجة من نتائج تجفيف المنابع
لم يكن نظام بن علي نظامًا ديكتاتوريًا فقط، بل تفرد في معاداته لمظاهر التدين والالتزام خاصة إثر المفاجأة التي حققها حزب حركة النهضة في أول انتخابات عقب انقلابه على الحبيب بورقيبة والتي فهم منها أن تيار الهوية قادر على زلزلة أركان حكمه اليافع؛ فسارع إلى ضربه وضرب منتسبيه فهجر من هجر وقتل من قتل وسجن الباقي ثم انطلق إلى المساجد التي حولها إلى أماكن فلكلورية لا يتجاوز الحديث فيها فقه العبادات من وضوء وغسل، بالإضافة إلى الدعاء لولي الأمر، بل إن ارتياد المساجد باستمرار خاصة لدى الشباب حري بأن يخضعك للبحث البوليسي والمضايقة.
كل ما سبق ومع تراكم السنون أدى إلى ما يشبه الفراغ الروحي والديني لدى الشباب الناشئ خاصة الذي ولد في فترة تجفيف المنابع (خطة كاملة وجهت للقضاء على مظاهر التدين في المجتمع التونسي)، وبما أن الطبيعة تأبى الفراغ، وجدت التيارات المتطرفة في هذا الشباب المفرغ روحيًا والباحث عمن يصالحه مع هويته التي ضربها التغريب، الكائن الطيع وبذلك دفعت البلاد ثمن التغييب القسري للتيارات المعتدلة الوسطية وازدهار للتيارات المتطرفة.
ضعف دولة ما بعد الثورة … والحرية في قفص الاتهام
يعرف البعض الثورة بأنها حالة فوضى قد تؤدي إلى تغيير جزء من النظام، وعادة ما ترتبط هذه الفوضى ونجاحها بإضعاف ضروري للدولة الظالمة حتى يحقق الثوارأهدافهم.
كذا الأمر كان في تونس، فقد أعقبت لحظة تغيير رأس النظام حالة ضعف لأجهزة الدولة خاصة الأمنية منها التي كانت تحتاج بعضًا من الوقت حتى تتصالح مع الشعب الذي طالما وجهت له عصاها الظالمة، حالة الفراغ هذه استغلها كما يجب رموز هذه التيارات المتطرفة للاستقطاب في سعة من أمرهم دون حسيب أو رقيب، بل سيطروا على عديد من المساجد التي يشاع اليوم في تونس أن بعضها استعمل للتغرير بهؤلاء الشباب من أجل الالتحاق بجبهات القتال.
ويرى مراقبون أن الحرية التي تتمتع وتمتعت بها تونس هي التي سمحت بهذا النوع من التصدير.
خيار إستراتيجي
يقول المحلل التونسي صلاح الدين الجورشي إن “تلك المجموعات السلفية الجهادية اتخذت خيارًا إستراتيجيًا بإرسال الشباب إلى سوريا لتدريبهم وبذلك تأهيل كوادر يكونوا جاهزين لمعركة محتملة في تونس”.
من جهته، قال محمد إقبال بن رجب رئيس جمعية إنقاذ التونسيين العالقين في الخارج، إن الظاهرة مثيرة للقلق لاسيما وأن المقاتلين المجندين ليسوا فقط من العاطلين عن العمل، وأوضح بن رجب الذي انضم شقيقه المعاق (24 سنة) إلى المقاتلين الإسلاميين في سوريا لفترة قصيرة خلال 2013، أن أعمار المقاتلين التونسيين في سوريا تتراوح بين 18 و27 عامًا ومعظمهم من التلاميذ أو الطلاب لكن بينهم أيضًا موظفين، كما أنهم ينتمون إلى كل فئات المجتمع”.
وأضاف “لقد تلاعبوا بشقيقي الذي كان طالبًا في المعلوماتية عبر الإنترنت ومن خلال خطب أنصار الشريعة (الجماعة التي تعتبرها السلطات إرهابية) في المسجد، وأوهموه بأنه عبقري في المعلوماتية، وقال “لم يكن حمزة عبقريًا لكن أولئك الإرهابيين أرادوا استدراجه واستغلاله في العمليات الانتحارية”، على حد قوله.