في سبتمبر 2014، وبعد أقل من ستة أشهر على دخولها لمنصبها كعُمدة باريس، كشفت أنّ هيدالجو عن أول مشروع لميزانية تشاركية للعاصمة الفرنسية يتضمن 5% من ميزانية المدينة (20 مليون يورو)، وأعلنت أنها ستسلّم مفاتيح الميزانية لقاطني المدينة ليقرروا بأنفسهم كيفية إنفاقها، إذ أتيح لهم الدخول على الإنترنت والمشاركة في استطلاع للاختيار من 15 مشروعًا تحصل على التمويل، ليدخل حوالي 40.000 باريسي بالفعل من كافة أنحاء العاصمة، ويختاروا مجموعة مشاريع بدأ تطبيقها مع مطلع العام؛ زرع حدائق، وتوفير حصص عن الحدائق في المدارس، وتحويل المناطق المُهملة في محيط المدينة إلى مساحات ثقافية للعروض والأفلام، وبناء نقاط متحرّكة لجمع القمامة ومساحات لرواد الأعمال الشباب.
“لقد أردنا أن يكون للباريسيين كلمة، فالديمقراطية ليست مجرد شعار، ولكنها تقليد يجب ممارسته فعليًا”، هكذا علّقت هيدالجو على مشروعها الجديد، الأول من نوعه في فرنسا، والذي يأمل كثيرون أن يشمل في المستقبل أكثر من مجرد 5% من الميزانية، وأن يصل إلى مواضيع أكثر جدية مثل المواصلات والرعاية الصحية والتعليم، “إنها بداية جيدة، لا يمكن لنا أن نحصل على الحرية المُطلقة دُفعة واحدة، ثمة نقطة يجب أن نبدأ منها ثم ننطلق رويدًا”، هكذا قالت كارينا، إحدى الباريسيات اللائي شاركن في الاستطلاع.
قد يبدو موضوع الميزانيات التشاركية التي يحدد فيها المواطنون كيفية إنفاق أموال الدولة أو المدينة أمرًا جديدًا، ولكنه في الواقع يجري منذ أكثر من عقدين في البرازيل، حيث تقوم بتطبيقه أكثر من مائة حي ومدينة.
تاريخ الميزانيات التشاركية
بدأت تجربة الميزانيات التشاركية لأول مرة عام 1989 في البرازيل، بمدينة بورتو أليغري بولاية ريو جراندي دي سول، وهي تُعَد من المدن الغنية نسبيًا في البرازيل، حين نجح حزب العمال في انتخابات عُمدة المدينة آنذاك، وتعهّد بتفعيل المشاركة الديمقراطية وقلب أولويات الإنفاق التي طالما اهتمت بالأحياء الغنية والمتوسطة وتجاهلت الفقراء، في مدينة عُرفَت بفسادها وغياب النظام لدى مؤسساتها، لتبدأ محاولات مختلفة لحل الأزمات المالية وتشجيع قاطني المدينة على المساهمة في إدارة المدينة، وهي تجربة تمخضت عنها فكرة الميزانية التشاركية.
بحلول عام 1992، كان هناك حوالي 8.000 مشارك في التجربة، وبعد إعادة انتخاب الحزب في نفس السنة، أصبحت الميزانية التشاركية مشروعًا منفصلًا عن بقية إصلاحات الحزب، وتوسّعت لتشمل 20.000 مواطن بعد الأثر الذي أحدثته على الأرض، حيث أصبح للمواطنين دور في توجيه الإنفاق على مشاريع الإسكان والمدارس بشكل مباشر بدلًا من انتظار تحرّك السلطات، وهو انتظار لم يُفضي إلى شيء في أحيان كثيرة في البرازيل التي عانت من انعدام الكفاءة البيروقراطية والفساد في ذلك الوقت، وكان فقراء بورتو أليغري تحديدًا يعانون حينئذ من غياب الخدمات الأساسية.
بالإضافة إلى توجيه السلطات نحو تفعيل المشاريع التي يريدونها، أدت تجربة الميزانيات التشاركية إلى توسيع إدراك الكثيرين عن كيفية الإدارة وتطبيق السياسات، على الأقل في الحي الذي يسكنون فيه، حيث أتيح لقاطني بورتو أليغري أن يعملوا جنبًا إلى جنب مع ذوي الخبرة لوضع مقترحات واقعية، والعمل بدأب على تحقيق الأهداف التي رصدوها، وهو ما عمّق من الممارسة السياسية والتشريعية والمالية بشكل كبير، وحمّس الآلاف ممن رأوا كيف تغيّرت مدينتهم بأيديهم.
تباعًا، وعلى مدار عقد التسعينيات، شهدت المدينة تصاعدًا في المساهمين بالميزانية التشاركية حتى وصلت أعدادهم إلى واحدٍ من كل خمسة من مليون ونِصف يسكنون هناك تقريبًا، وهي مساهمة شملت حضورًا كبيرًا من النساء والمجموعات محدودة الدخل، والتي ساهمت بنسبة أكبر، في حين تجري هذه الأيام محاولة لتفعيل دور الشباب والمتخصصين من الطبقات الوسطى عن طريق الإنترنت، والذين لم يتشجعوا على المشاركة بها في بدايتها إما لعزوفهم عن السياسة (في حالة الشباب)، أو اعتقادهم أنها عملية غير ذات جدوى أو غير مهنية (المتخصصين).
علاوة على ذلك، انتشرت التجربة حتى أصبحت اليوم مُطبّقة في حوالي مائة مدينة برازيلية، بل وعلى مستوى ولايات بأكملها في خمس ولايات، وهي تجربة جذبت أنظار الكثيرين مع مطلع القرن الواحد والعشرين، حتى بدأت أحياء ومدن في محاولة تطبيقها بالولايات المتحدة منذ خمس سنوات، أبرزها مدينة شيكاغو.
الولايات المتحدة
في أقصى شمال شيكاغو، وفي الحي التاسع والأربعين الذي يقطنه 60.000 شخص، بدأ أول تطبيق للميزانية التشاركية في الولايات المتحدة عام 2010، رُغم اشتهار شيكاغو بنظام المحسوبية وغياب الشفافية في إنفاق الأموال العامة، حيث شارك 1.600 من قاطني الحي في تحديد كيفية إنفاق نسبة من أموال دافعي الضرائب، وهو نجاح لم يكن متوقعًا في ظل عزوف الكثيرين عن السياسة وغياب أي اهتمام إعلامي، وهو أمر ضروري بالطبع في جذب اهتمام الأمريكيين.
بدأت التجربة حين درس المسؤول عن الحي، جو مور، تجربة الميزانية التشاركية عام 2007 في منتدى للسياسات الاجتماعية، واطلع على ما جرى في بورتو أليغري، وكيف انتشرت تجربتها لأكثر من ألف مدينة على مستوى العالم، ليقرر البدء في تجربة مشابهة، ويخصص 1.3 مليون دولار كميزانية تشاركية بعد مناقشة المشروع مع قيادات الحي والمؤسسات المالية.
في النهاية، وبعد إقبال كبير، تم التصويت على مشروعات عدة، وكانت الأموال المخصصة كافية لتمويل أكثر 14 مشروعًا حصلت على تصويت المشاركين، منها تعبيد الطرق الجانبية المخصصة للمشاه، وإنشاء حارات للدراجات في شوارع الحي، وزرع حدائق جديدة، ووضع علامات مرورية، وإنارة الشوارع.
تباعًا، التحقت عدة مدن بركب الميزانيات التشاركية في الولايات المتحدة، أبرزها نيويورك سيتي، والتي أعلن مجلس المدينة الخاص بها عام 2014 عن تخصيص 25 مليون دولار من ميزانيته ليتم تحديد إنفاقها عن طريق قاطني المدينة، وتكون مخصصة للمشاريع المحلية والمباردات الاجتماعية المختلفة، وهو توجه يجري في العديد من المدن التي تبنت التجربة، حيث تبدأ بنسبة ضئيلة من المال العام، ثم تشرع في زيادتها رويدًا رويدًا حتى تصل إلى نسبة كبيرة، وتشمل جوانب حيوية بجانب المبادرات الصغيرة.
“الميزانية التشاركية في نيويورك سيتي هي البرنامج الأكبر والأسرع نموًا في البلاد، وقد أصبحت نموذجًا يُحتذى به للديمقراطية من أسفل، ولتفعيل استجابة الحكم المحلي للمواطنين”، هكذا تحدث جوش لرنر، المدير التنفيذي لمشروع الميزانية التشاركية في نيويورك، والذي يتطلع إلى توسيع نطاق الميزانية التشاركية عبر التعاون مع مسؤولي المدينة في الأعوام المقبلة.
“تقول البيانات التي جمعناها على مدار الأعوام الثلاثة الماضية إن الميزانية التشاركية سبيل جيدة جدًا لتفعيل مشاركة أهالي نيويورك في إدارة مدينتهم، لاسيما القطاعات العازفة تمامًا عن ممارسة السياسة، مثل الشباب والمهاجرين والفقراء”، كذا تحدثت أليكسا كاسدان، مديرة البحوث والسياسات لمشروع تنمية المجتمع في مركز العدالة المدنية، “توسيع نطاق ميزانية 2014-2015 سيكون نافذة لكل المهمّشين في نيويورك ليوصلوا صوتهم ويشعروا بالمشاركة”.
دمقرطة الديمقراطية
في وقت تتضاءل فيه مصداقية الكثير من مؤسسات الدول حول العالم، حتى في الدول الديمقراطية الكبرى مثل الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا، حيث تفقد الأحزاب التقليدية شرعيتها، مع استمرارها في السلطة نظرًا لامتلاكها خبرة وآليات خوض المعارك الانتخابية، تبدو النظم الديمقراطية في خطر ما لم تعد النظر في أهدافها الأصلية وعلاقتها بالمواطنين، أو في قول آخر، تبدو الديمقراطية ذاتها في حاجة إلى دمقرطة، وإلى تجاوز مجرد تحقيق الديمقراطية التمثيلية التي تجذرت في بلدان مختلفة وأصبحت شبكات كثيرة من المصالح السياسية والاقتصادية قادرة على التلاعب بها.
من ناحيتها، نجحت مدن البرازيل بعد حوالي عقدين من تطبيق التجربة في خفض نسبة الفقر وتعزيز الوصول إلى مياه نظيفة، طبقًا لدراسة أجراها البنك الدولي عام 2008، كما تُظهِر دراسات ظهرت مؤخرًا أن البلديات والمدن التي تتبنى الميزانيات التشاركية، تتلقى تمويلًا أكبر نظر لحرص سكانها على دفع الضرائب، وشعورهم بأن أموالهم تُرَد إليهم في صورة خدمات بالفعل، لاسيما الخدمات الأساسية.
أيضًا، تبدو الميزانيات التشاركية طريقًا أكثر كفاءة لتحسين الخدمات العامة الأسياسية، والتي يحرص الناس عليها نظرًا لصلتها بحياتهم اليومية، مثل النظافة والصحة، والتي غالبًا ما يتم تجاهلها من قِبَل واضعي الميزانيات التقليدية من أعلى لأسفل، مقابل المشروعات التي تعزز من نفوذهم لدى الطبقة الوسطى ورجال الأعمال، والذين بدورهم يقومون بتمويل حملاتهم الانتخابية مجددًا، لتصبح الديمقراطية التقليدية فعلًا علاقة رد ورد فعل بين نخبة من السياسيين وشرائح اجتماعية معيّنة معزولة عن غيرها تتمتع بالنفوذ في اختيار من بالسلطة، مقابل تعزيز متطلباتها، وهي دائرة مُفرغة يخرج منها مع الوقت السواد الأعظم من العامة، ويتم تجاهل احتياجاتهم الأساسية.
علاوة على ذلك، لا تهمّش الميزانية التشاركية أحدًا، بل تضع الجميع على قدم المساواة، كما أنها تعزز من المشاركة والفعالية الاجتماعية نظرًا لحماس الكثيرين لممارسة السياسة بشكل مباشر، كما تثبت التجربة البرازيلية، وتؤجل الإنفاق على مشاريع ثانوية، مثل الملاعب ومراكز الترفيه، والتي عادة ما تمضي فيها الميزانيات التقليدية نظرًا لأهميتها في جذب الأنظار، أضف إلى ذلك أنها تؤدي لتوطيد العلاقات بين قاطني المدينة الواحدة، وتجعل العلاقة بين المواطن وصانع القرار فعّالة Active، بدلًا من العلاقة السلبية Passive، المقتصرة على التصويت وحضور المهرجانات الانتخابية.
بطبيعة الحال، يُعَد الإنترنت لاعبًا مهمًا في تيسير قابلية الميزانيات التشاركية للتطبيق، وتوسيعها في مختلف البلدان والمدن، بل وربما تطبيق الميزانيات التشاركية على مستوى بلد كبير، حيث كانت المسافات المتباعدة بين المدن عائقًا أمام تطبيق الميزانية التشاركية في الماضي، وسببًا لاقتصارها على الحي الواحد أو الولاية الواحدة، أما منذ مطلع القرن الجديد، فإن وسائل التواصل الاجتماعي، كما تثبت الحالة الفرنسية، ستسهّل كثيرًا من نشر التجربة على المزيد من مستويات الحكومة وإدارة الدولة.