اعتدنا أن نرى المراسل التلفزيوني ينتقل إلى مكان الحادث فور وقوعه لتقصي الوضع، وفقًا للمعايير المهنية التي لم تختلف يومًا لكن الإبقاء عليها هو الذي بات رفاهة، فالإعلامي الذي يعلم أن المشاهد لن يسأله عن مصدره للمعلومات أو الأقاويل بات لا يحتاجها، يكفي أن يقول المذيع الشهير أية أطروحة لتتحول إلى “معلومة” يقينية وحقيقة مستقرة في أذهان الجماهير.
الأمثلة تتعدد، لكنها تتجلى وتبلغ منتهاها حينما يتم الحكم على أحدهم بالإعدام “تلفزيونيًا “، بعد التحريض ضده (كما هو موضح بالفيديو المرفق) باجتزاء وقائع واستخدام عبارات مروعة يطلقها مذيعون مصحوبة بصوت ناحب؛ مما يجعل من بطل “الرواية” التي ينسج خيوطها الإعلاميون في خيال المشاهد، هدفًا للانتقام من كل شخص يسمع عن الشيخ الملتحي ذي العلم الأسود، الذي ينال كل قسط السخط الجماهيري دونًا عن كل المجتمعين فوق سطح عقار منطقة سيدي جابر – الإسكندرية، في الواقعة الشهيرة يوم 5-7-2013.
شاهدت الفيديو المنتشر، حيث يصف المذيع المشهد وكأن مجموعة من الأطفال يتم إلقائها من فوق سطح عقار، وهو ما وجدته يجانب ما نراه أمامنا، فاستخدام تعبير “أطفال” كان لإحداث تأثير نفسي معين، وهم لا يسقطون من فوق العقار، إنما من فوق خزان مياه إلى أرض السطح نفسه وليس إلى أسفل العقار.
كتبت ما أراه، ونوهت أن ردود الأفعال تختلف تمامًا عما نشاهده، لكن تم مقابلة هذه الكلمات بتيار من الهجوم، وأصبح استنكار هذه “الصياغة الإعلامية” للواقعة أشبه بإنكار حادثة الهولوكوست بالنسبة للصهاينة.
الإحباط يزيدك عزمًا
قررت أن أذهب إلى المكان وأقوم بعمل تحقيق استقصائي، ولم تكن كما ظننتها بالمهمة السهلة، فأمام بريق الكاميرات التلفزيونية المعروفة التي يتهافت الجميع للظهور أمامها، لم يكن لأحد أن يلتفت إلى كاميرا صغيرة تتحدث صاحبتها أنها تقوم بعمل مستقل، خاصة وقد أضفى اهتمام هذه القنوات على بعض الشهود شعورًا بالـ “نجومية”.
بعد أن وافق البعض انتقلنا إلى سطح العقار لتصوير موقع الحادث، ولم تمر دقائق حتى وجدت قوة عسكرية ضمت عددًا من العساكر وأحد الضباط يستدعونا إلى المنطقة الشمالية بعد رصدهم – عن بُعد – وجود أشخاص فوق العقار، المكان الذي دارت عليه من قبل أحداث الواقعة، لكن في النهاية مرت الأمور بسلام نظرًا لعدم وجود سبب قانوني يدين التصوير.
بعدها بمدة علمت بانعقاد جلسة الحكم بحق 63 متهمًا في قضايا تخص هذا اليوم، فذهبت إلى المحكمة للتغطية الصحفية بحكم عملي، وهناك تحاورت مع بعض المحامين الحقوقيين بشأن رؤيتهم للواقعة بناء على أوراق القضية، وذكرت لهم ما قمت به من جمع للشهادات المصورة، لكنهم لم يهتموا لرؤية أيًا منها.
مر الوقت ثانية، وعلمت برفض النقض في حكم الإعدام الخاص بـ “محمود رمضان ” الملتحي ذي العلم الأسود والمتهم الوحيد الذي صدر بشأنه حكمًا بالإعدام، وهو ما يعد – بحسب القانونيين – سابقة قضائية، حيث عادة ما يقبل النقض في قضايا الإعدام بصفة خاصة لاستنفاذ المحكوم عليه كل فرص الدفاع عن نفسه.
لكن في حالة محمود هذه الفرص لم تكن متوفرة حتى تستنفذ، فقد امتنع شهود النفي عن الإدلاء بشهاداتهم – كما روى الأهل – لأن منهم من تم تهديده ومنهم من “خاف من المشاكل”، كما تم القبض على محامييه، الواحد تلو الآخر.
قررت أن أكمل تنفيذ ما بدأت وكان أول تحقيق استقصائي أنجزه على الإطلاق، واجهت صعوبات عدة، لكن أفدحهم كانت حقيقة أن جميع القنوات التلفزيونية اليوم باتت مقسمة إلى معسكرات متحزبة، وأن النشر بأي من تلك القنوات سيجعل التحقيق يدخل ضمن دائرة الاستقطاب، وهو ما يخالف ما أنشده من رؤية مجردة للتحقيق لا تنبع من عصبية سياسية، لذلك قررت أن أنشر هذا العمل على قناة اليوتيوب الخاصة بي.
لم أجتهد في تسميته، فالاسم نبع من الواقع “من أطلق شرارة العنف (الإعلام مخبر سري)”، تضمن حادثة الخزان ووقائع أخرى حدثت في نفس اليوم.
وضعت به جميع الفيديوهات المتاحة لتصور المشهد، وركزت على تحليل هذه المواد بصريًا، وهو ما تطلب وقت وجهد كبير للتدقيق والمراجعة واستخدام تقنيات مختلفة لرؤية المشهد بأدق التفاصيل الممكنة.
وهنا أتذكر البعض ممن تحدثوا عن فيديوهات مموهة لا تظهر أية تفاصيل مكتملة، واعتبروها أدلة دامغة على رمي”الأطفال” عمدًا داخل منور العقار!
فأي عبث هذا برمي الاتهامات؟
فالمنور لا يظهر بالفيديو من الأساس، ولا يظهر إن كان الشخص يسقط بالدفع أم بالخطأ، وهل سقط داخل منور العقار أم على أرض السطح؟ هل يموت على الفور أم ينهض ليهرب عبر المنور الذي يسقط فيه؟ كلها أسئلة واردة، لا يستطيع إجابتها فيديو مصور من هذا البُعد وبهذه الصورة المموهة، التي لا تُمكن من أراد فعليًا الدقة أن يخرج منه بيقين.
أذكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: “ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخلوا سبيله، فإن الإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة”.
والمبدأ القانوني المعروف بأن الشك يُفسر لصالح المتهم، أما الآن فنرى البعض من الجماهير تكفيه الشبهة ليبني عليها الاتهام، مما يجعلنا نخرج من هذه الحادثة بقيمة احتياجنا للصمت في موضع الشبهات، وهو ما قد ينقذ العديد من الأبرياء ويساهم في الوصول إلى المجرمين الحقيقيين الذين لم ترصدهم الكاميرات أو توصمهم اللحى أمام جماهير متحفزة.
لم يتبق قانونيًا أية إجراءات بشأن الحكم الصادر بالإعدام على “محمود رمضان” سوى طلب التماس تقدم به مجموعة من المحامين المتطوعين.
خلال هذه الفترة قمت بنشر عدة كتابات تشرح الأمر ثم عرضت التحقيق الخاص بي على الإنترنت، وكانت المشاهدات ضعيفة جدًا.
وفجأة تحدث سابقة قانونية أخرى، ويتم تنفيذ حكم “الإعدام” قبل الرد على الالتماس بالقبول أو الرفض، والعجيب أن المشاهدات قد تزايدت حينها على التحقيق، وثار الجدل، وانقلب الأمر إلى ندم!
من القاتل إلى الشهيد
التصنيف من العمليات العقلية التي تسهل على الفرد الإدراك، لكن الأمور الاجتماعية عادة ما تكون أكثر تعقيدًا من إحالتها إلى أحد تصنيفين، فهناك مئات التفاصيل التي تجعل الحكم النهائي يحتمل عشرات التصنيفات مجتمعة.
في وثائقي “من أطلق شرارة العنف” لم أكن أهدف إلى تصنيف محمود أو أحد من الذين ظهروا بأية تصنيفات حتمية مثل “القاتل” أو “الشهيد”، وكنت أهدف فقط إلى تحليل المواد المصورة، وهو ما شجع الكثيرون على إعادة التفكير في رؤيته للقضية، ودارت نقاشات انتهت بردود فعل مختلفة، أثبتت نجاح الفيلم في عدم فرض رؤية معينة، ونجاحه في تحويل الجدال من نطاق الغل تجاه شخص ذي لحية كثة يحمل راية سوداء (حملها رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزواته)، إلى نطاق البحث عن أدلة وبراهين أجدر بالمناقشة من المطالبة بإعدام شخص بناء على مظهره.
الاعتراف سيد الأدلة
في السابق ظهر محمود بفيديو ليقول فيه إنه قد قتل أحدهم متعمدًا، لكن مع ذلك سعد به الجميع وإعتبروه أكبر دليل على الإدانة بالقتل، لأن “القاتل” يقول ذلك بنفسه.
ولا أدري كيف يجتمع عند أحدهم مبدأ أن ترى الشخص قاتل وأن تراه صادق في ذات الوقت!
لكن هؤلاء الذين يعلمون أن الاعترافات داخل مديرية الأمن لها وضع خاص، وأن الاعتراف على شاشات التلفزيون لا يُعد سندًا قانونيًا، لم ينشغلوا بمثل هذا المقطع المصور، فالعبرة بما يقال أمام هيئة النيابة والتي نفى أمامها الاتهام.
أما الآخرون فقد جعلوا من هذا المقطع شغلهم الشاغل، وكأن إثبات اتهام محمود هو الهدف، وليس إيجاد الفاعل الحقيقي أيًا ما كان اسمه.
بعد يومين من تنفيذ حكم الإعدام، صدر بيان عن أسرة محمود، تؤكد فيه تأييدها لمؤسسة الرئاسة والقيادة السياسية، وهو ما يجعلنا نرى بوضوح الاعتراف السابق لمحمود في ضوء هذا البيان، الذي تصدره أسرة مكلومة في إعدام ولدها ظلمًا (كما نشرت من قبل) ونتصور أنها قد تفرغت لتعلن هذا الموقف وتكتبه على الفيسبوك بعد يومين من قتل ولدها!
الإخوان تغيير مواقف .. المجتمع المدني تغيير مبادئ!
لم تكن الآلة الإعلامية هي المسؤول الوحيد عن التحريض ضد محمود رمضان، فلم يحدث هذا التحالف بين جبهة الإخوان والدولة في الترويج لروايات تشوه شخص بعينه بقدر ما حدث في هذه القضية، فأنصار جماعة الإخوان آنذاك أعلنوا أن محمود شخص ينتمي إلى الحزب الوطني ومدسوس في صفوف المتظاهرين، ثم تحول هذا الموقف إلى دفاع عن نفس الشخص، وهو ما يحتمل أن يكون مراجعة أخلاقية أو تعديلًا وفقًا لمستجدات الوضع بعد موجة الأحكام بالإعدام، لكن لم يفت أبناء التيار المدني أن يشيروا لهذا التحول، في الوقت الذي لم تصدر فيه أية بيانات أو حملات تدعم رفض إعدام محمود رمضان عن المؤسسات المدنية المعنية برفض العمل بأحكام الإعدام في العموم، كما وقع البعض في مأزق أخلاقي يكشف حقيقة مبادئه حين قال “أنا ضد حكم الإعدام، لكن في حالة محمود .. “، ولم يتفاعل من هذا التيار سوى القليلين.
أما تسجيل المواقف بعد تنفيذ الحكم فحدث ولا حرج، فقد انطلق الجميع من جميع التيارات إلى تسجيل موقفه، إما بالتأييد أو الشجب أو التحليل المعمق الذي لن يوقظ ميت ولن يعيد حبيب إلى أهله، فكما قالت زوجة محمود: “لا أريد زوجي شهيد ولا بطل .. أريد زوجي فقط”.
كم من ميت سنبكي عليه
تأتي المحن لتختبر المعادن، لكن لعل الاختبار لم يفت بعد، فهناك الآلاف ممن لايزالون يبحثون عمن يسمعهم، وهناك مئات من محمود رمضان الذين يتمنون ما هو أفضل من “نوت” ينعيهم على الفيسبوك بعد موتهم.
الوضع لازال يتطلب المزيد من الأعمال الاستقصائية، والمزيد من الدقة عند اتخاذ المواقف بما تستوجبه مهابة الموت وخطورة الاتهام بالقتل.
قد نعتاد الأمر ونسمع عن الإعدام تلو الآخر، ويشعر رعاة “اعدموهم كلهم” أن الاستقرار قادم، وحين لا يقدم سيعودون إلى المطالبة بتزويد عيار العقوبة، ليكتشفوا أنه لا يوجد أكثر من “الإعدام”، فالفصل العشوائي للرؤوس لا يجلب الاستقرار بل يجلب مزيدًا من العنف والثأر والرغبة في الانتقام.
نحتاج الخروج من هذه الخانة الضيقة، ألا نكون فقط أحد خيارين، ألا تنبني مواقفنا على ضمير مشوب بالتطرف والكره الأعمى.
أن نستمع، ونعلم أن شهاداتنا سنقابل بها الله، فهي ليست مجرد كلمات تُكتب وتمحى، إنما طلقات يهلك بها البعض، ولعلك توضع يومًا ما في مكان أحدًا ممن عبثت باتهامه، وستتمنى حينها أن تجد فقط من يستمع إليك.