يبدو لقارئ المقال أنّ العنوان غير منصف؛ إذ كيف يتحدث عن “عرب 48″ وكأنهم مقاطعون رغم أنّ الكثيرين منهم يشاركون في الانتخابات من خلال “القائمة المشتركة”؟
والحقّ أنّ غرض هذا المقال هو تسليط الضوء على حركة المقاطعة، انطلاقًا من الشعور بأنّها لم تأخذ حقّها إعلاميّا، وبأنّ الإعلام العربي عمومًا والمحلّي في فلسطين المحتلّة عام 48 خصوصًا لا يتطرّق بالشكل الكافي لحركة المقاطعة ومنطلقاتها المبدئية، ومن ثمّ أخذنا على عاتقنا مسؤولية تسليط الضوء على حركة المقاطعة، ولاعتبارها كذلك حركة واسعة لا يظهر ضجيجها لأنّها لا تملك دعاية منظّمة تهدف إلى جذب الجمهور كما هو حال الأحزاب قبيل الانتخابات، وثمّة قطاعات واسعة منها تكتفي بالمقاطعة الصامتة دون ممارسة أي جهد إعلامي يدعو للمقاطعة.
أغلبية أم أقلية؟
تعمد الآلة الإعلامية الإسرائيلية، بالإضافة إلى الإعلام العربي المحلّي في أراضي 48، إلى إظهار حركة المقاطعة في انتخابات الكنيست الإسرائيلي بدورتها العشرين باعتبارها حركة ضعيفة لا أثر لها أمام البحر الجارف من العرب المشاركين. والأمر مفهوم بالنسبة للمؤسسات الإعلامية الصهيونية المرتبطة بمؤسسات الدولة والتي تتبنّى وجهة نظرها؛ باعتبار أنّ أي دولة تهدف إلى زيادة عدد المصوّتين لتعزيز شرعيّتها، وهو مفهوم أيضًا بالنسبة للأحزاب العربية المشاركة؛ إذ ليس من مصلحتها إظهار التيّار المقاطع بحجمه الحقيقي وإعلاء صوته.
ولكنّ بالنظر إلى بعض الإحصاءات حول حجم مشاركة عرب 48 في الكنيست الإسرائيلي سنجد أنّ حركة المقاطعة كانت طوال العقود الأخيرة حركة كبيرة، وقد بلغت ذروتها في انتخابات عام 2001، عقب انتفاضة الأقصى عام 2000، والتي سقط برصاص القوات الإسرائيلية فيها 13 شهيدًا من عرب 48، حيث كانت نسبة المشاركة في تلك الانتخابات 18% (82% مقاطعون)، والملاحظ أنّ نسبة المشاركين العرب في انتخابات الكنيست منذ اغتصاب أرض فلسطين وتأسيس الكيان الصهيوني عليها عام 1948 حتى عام 2013 كانت في تناقص دائم، وكانت نسبة المقاطعين في ازدياد دائم. يقول أيمن عودة، رئيس “القائمة المشتركة” والأمين العام لحزب “حداش”، في دراسة له بعنوان “حول انتخابات الكنيست والمواطنين العرب”: “يُمكن الإشارة إلى ميزتين أساسيّتين في تصويت المواطنين العرب: الأولى، هي الهبوط الدائم بشكلٍ عام، ففي السنوات 1949 – 1969 تراوحت نسبة التصويت بين 80% و90%. وفي السنوات 1973 – 1999 تراوحت بين 68% و78%، وقد هبطت نسبة التصويت في الانتخابات الثلاثة الأخيرة بشكلٍ حاد في آخر ثلاث جولات انتخابية: في العام 2003 بلغت 62%؛ وفي العام 2006 بلغت 56%؛ وفي الانتخابات الأخيرة (2009) بلغت 53%”. انتهى كلامه.
وقد بلغت النسبة في انتخابات عام 2013 نحو 56%، ومع ذلك، علينا قبل الحديث عن منطلقات المقاطعة أن نشير إلى حقيقتين تؤكّدان أنّ هذه النسب المرتفعة للمقاطعين هي نسب صغيرة أمام حقيقة الواقع.
الحقيقة الأولى: أنّ هذه الإحصاءات تشمل الدروز الذين يشكّلون نحو 8% من مجموع السكان العرب، أي نحو 130 ألف نسمة، رغم أنّ المؤسسة الصهيونية تتعامل معهم كطائفة مستقلّة خصوصا في مسألة التجنيد للجيش، وهم في معظمهم لا يصوّتون للأحزاب العربية، بل يصوّتون للأحزاب الصهيونية؛ فقد حصلت الأحزاب العربية في انتخابات عام 2013 على 7,340 صوت فقط من مجموع أصوات البلدات الدرزية، أي 18% فقط من الناخبين في البلدات الدرزية، وبالمجمل فقد حصلت الأحزاب العربية على 77% من مجموع الأصوات العربية الصالحة في انتخابات عام 2013، أي هناك ما نسبته 23% من أصوات العرب تذهب لأحزاب صهيونية (ليس بسبب الدروز فقط، بل هناك الكثير من العرب غير الدروز يصوّتون لأحزاب صهيونية). إذا أخذنا هذه المعطيات بعين الاعتبار، علمنا أنّ نسبة المصوّتين العرب للأحزاب العربية هي أقل من نصف من يملكون حقّ التصويت.
الحقيقة الثانية: إذا أضفنا لذلك حقيقة يعلمها جميع العرب، وهي أنّ الكثير من هؤلاء الناخبين لا يزورون مراكز الاقتراع، في البلدات العربية تحديدا، بل يتمّ التصويت عنهم في اللحظات الأخيرة، من خلال شطب أكبر عدد من الأسماء من الجداول، والتصويت بدلا عنها مع توزيع الأصوات بين الأحزاب العربية!
يتّضح من المعطيات والحقائق التي ذكرناها أعلاه أنّ حركة المقاطعة، بخلاف ما قد يبدو في فترة الانتخابات، كانت ولا تزال حركة قوية، بل لا نبعد عن الحق إطلاقا إذا قلنا إنّها هي السمت الغالب على العرب الذين تبقّوا في فلسطين المحتلّة عام 1948.
هل هناك تغيير في الانتخابات الحالية؟
تشارك الأحزاب العربية في انتخابات الكنيست الإسرائيلي الحالية للمرة الأولى ضمن قائمة موحدة هي “القائمة المشتركة”، وذلك بسبب رفع نسبة الحسم في الكنيست إلى 3.25% من مجموع أصوات الناخبين، بعد سنّ قانون تحمّست له الأحزاب اليمينية ونال موافقة الكنيست، ممّا جعل الأحزاب العربية مجبرة على الوحدة وإلا بقيت خارج الكنيست غالبًا. ولكنّ هذا التغيير المتمثّل بالوحدة، لا يجعل الأمر مختلفا عمّا كان من مشاركات سابقة للأحزاب العربية؛ حيث تتوقّع الاستطلاعات في الصحف المحلّية لهذه القائمة المشتركة بين 13-14 مقعدًا في الكنيست، وهو ما يعني زيادة مقعدين أو ثلاثة عن الكنيست الحالي، إذ يبلغ عدد الأعضاء العرب ضمن الأحزاب العربية في الكنيست الحالي 11 عضوًا، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ أحد المرشحين العشرة الأوائل في القائمة الجديدة هو يهودي وليس عربيّا، وهو دوف حنين.
إذا نظرنا إلى هذه الحقيقة، وهي أنّ الحديث هو عن زيادة مقعدين أو ثلاثة، أو أربعة مقاعد على الأكثر؛ علمْنا أنّ الحديث لا يدور عن تغيير “جذري” أو “إنجاز كبير” كما تحاول الآلة الإعلامية لتلك الأحزاب إيهام الجمهور، ذلك أنّ حجم التأثير في الكنيست لن يتغيّر بزيادة ثلاثة مقاعد أو أربعة طالما أنّ القائمة لا تزال فاقدة للأغلبية وتمارس عملها السياسي من خارج أي ائتلاف حكومي قادم، والذي سيكون صهيونيا بالضرورة. تثير هذه الحقيقة تساؤلات كثيرة حول دوافع هذه الهالة الإعلامية الضخمة عن حجم التغيير الحاسم و”الإنجاز الكبير” المتوقّع للعرب إذا ما نجحوا في الحصول على 14 أو 15 مقعدًا في الكنيست، سواء من قبل أجهزة الإعلام الصهيونية أو العربية.
منطلقات المقاطعين
الخطأ الأخلاقي الأول الذي يقع فيه مؤيّدو المشاركة في الكنيست الإسرائيلي هو عبارة عن إهانة كبيرة لعموم شعبنا؛ وذلك عندما يزعم بعضهم أنّ المقاطعة في معظمها عبارة عن “كسل في أداء الواجب الوطني” أو “لا مبالاة”، وبغضّ النظر عن كون هذه الدعوى مصادرة على الحقّ واعتبار أنّ الوطنية كامنة في خيارهم السياسي، فإنّها مهانة كبيرة أن نسيء الظنّ بالمقاطعين ونعتبرهم فاقدين لأي وعي سياسي يمكّنهم من تحديد موقف خاص بهم. بل يعتقد كاتب هذه السطور أنّ كلّ مُقاطِع هو إنسان حرّ، يملك من الوعي ما يؤهّله لبناء موقف سياسي تتحرّك إرادته – ومن ثمّ عمله – بموجبه، وأنّ منطلقات المقاطعين، سواء كانوا حركات وأحزابًا أو أفرادًا مستقلّين، تتوزّع على ثلاثة منطلقات: سؤال الشرعية، سؤال الجدوى، وسؤال الخطاب.
سؤال الشرعية
نقصد بسؤال الشرعية تحديد موقف العربي الذي صمد في بلاده المحتلّة عام 1948 من قبل السلطة الصهيونية التي قامت على أنقاض أكثر من 400 قرية ومدينة، وهجّرت أكثر من مليون مواطن، وذبحت عشرات الآلاف. وينطلق هذا الموقف من أساس أخلاقي رافضًا إضفاء أيّة شرعية سياسية على المؤسسة التي قامت بهذه الجرائم، إيمانًا منه بأنّ عوامل الزمان لا تغيّر المبادئ ولا تلغي الحقوق، وأنّ المواقف – من ثمّ – لا ينبغي أن تتغيّر ما دام الحال كما كان عام 1948، بل لا تزال الجرائم والانتهاكات في الأرض والإنسان مستمرّة حتى هذه اللحظة، وهو ما يدفع “المقاطع الأخلاقي” إلى اتخاذ موقف اعتزال أي ممارسة سياسية من شأنها أن تعبّر – ضمنيّا – عن قبوله لشرعية المشروع الصهيوني الذي قام بكل هذه الجرائم بحقّ أبناء شعبه. وهو موقف طبيعي لدى الشعوب الحرّة أيّا كان موقعها على خارطة العالم، وإنْ بقيتْ في أرضها تمارس حياتها الضرورية وصمودها الواجب.
ويُعتبر هذا الموقف امتدادًا لموقف الشعب العربي في فلسطين؛ سواء كان في الضفة الغربية والقدس المحتلّة أو في قطاع غزة أو في الشتات، فهو الرأي العام السائد، ليس لأنّ الشعب الفلسطيني في الضفة أو في القطاع أو في الشتات لا يملك حقّ التصويت، بل هو الموقف السائد بغضّ النظر عن الإمكانية، ولو أخذنا نموذج مدينة القدس، المدينة الأكبر في فلسطين، فسنجد أنّ موقف سكّان القدس العرب (التي احتُلّت عام 1967) هو الرفض التامّ للمشاركة في انتخابات البلدية الإسرائيلية. يقول داني روبينشتاين في تقرير نشرته صحيفة “كلكاليست” التابعة لصحيفة “يديعوت أحرونوت” الإسرائيلية: “يحق لسكان شرقي أورشليم القدس، وبحكم وضعهم الخاص كمقيمين دائمين ليسوا من مواطني دولة إسرائيل، التصويت في الانتخابات البلدية، ولكن لا يحق لهم المشاركة في انتخابات البرلمان الإسرائيلي – الكنيست. ورغم أنّ نصيبهم من مجموع سكان المدينة يبلغ 35%، إلا أنهم يرفضون أداء دور في اللعبة السياسية، حيث لم يصوّت في الانتخابات البلدية الأخيرة التي جرت عام 2008، سوى 1.9% من أصحاب حق الاقتراع البالغ عددهم نحو 155 ألف شخص. وتفيد التقديرات بأن الذين أدلوا بأصواتهم هم من ذوي المناصب الرسمية، مثل العاملين في البلدية”.
سؤال الجدوى
يعتبر سؤال الجدوى امتدادا لسؤال الشرعية؛ حيث يرى المشاركون أنّ ثمّة شيئًا يبرّر هذه المشاركة، رغم ما يشوبها من تنازل مبدئي، هذا الشيء هو الدفاع عن حقوق الشعب المتبقّي في أرضه ضدّ الانتهاكات العنصرية والإجراءات التعسّفية التي تناله من السلطة.
يعتبر المقاطعون أنّ طبيعة لعبة الكنيست، وطريقة اتخاذ القرارات فيها، لا تسمح بأي تغيير ذي أثر حقيقي يبرّر دفع هذا الثمن الباهظ المتمثّل بالتنازل عن سؤال الشرعية واعتباره لاغيًا، مع ما تأسس عليه من قتل وتهجير وهدم واحتلال. ويرى المقاطعون أنّ “الكنيست أصل من أصول المشروع الصهيوني، وقد حرص مَن هندسَ قواعدها أن تبقى في أحسن الأحوال منبرًا احتجاجيا بالنسبة للمجتمع العربي الفلسطيني في الداخل”. فلا يمكن، من خلال واقع الكنيست والأدوات المتاحة فيه، أن يحقّق العرب تأثيرًا حقيقيّا، أو أن يمنعوا إجراءً قرّرت المؤسسة الصهيونية تنفيذه. بل وإنّ “تقييم تجربة أعضاء الكنيست العرب منذ أول عضو كنيست عربي وحتى الآن يؤكد أنّ هذه الكنيست لم تحقّ لنا حقّا ولم ترفع عنّا ظلما، وكنا ولا زلنا منذ نكبة فلسطين نعاني الظلم التاريخي والتمييز القومي والاضطهاد الديني كسياسة ممنهجة تمارسها عن سبق إصرار ضدنا المؤسسة الإسرائيلية”.
ولذا يرى المقاطعون أنّه إذا جاز لنا أن نعتبر المنجزات الممكنة من خلال الكنيست ثمرةً تليق بحجم التضحية المبدئية؛ فإنّه في الواقع ليست ثمّة ثمّرة ولا إنجازات ممكنة على ضوء طبيعة الممارسة السياسية في الكنيست، وعلى ضوء التجربة العربية فيه، ويكون حالنا كمن “عاد بخفّي حنين”. فإنْ لم يكن ثمّة جدوى جديرة بالتضحية من خلال هذا الانخراط السياسي، فلا قيمة للمشاركة، والأوجب مقاطعتها لِما تحمله من تنازل ضمني عن سؤال الشرعية، وتجميل لوجه المؤسسة القبيح، فيكون الإنجاز الحقيقي الوحيد لمشاركة العرب هو استخدامها كورقة رابحة بيد الحاكم الصهيوني، يجول بها أمام العالم فرحًا بمظهر دولته “الديمقراطي”!
لم تحقّق مشاركة العرب في الكنيست الإسرائيلي منذ عقود أيّة إنجازات حقيقية تليق بالثمن الباهظ المتمثّل بإضفاء الشرعية على المشروع الصهيوني، وتأطير الكفاح في مسارات الصراخ على مقاعد الكنيست، والتعاون مع الأعضاء الآخرين في سنّ قوانين ليست ذات أثر حقيقي على قضايانا الأساسية. ولم تمنع هذه المشاركة فعليّا أي إجراء حكومي يمسّ حقوق العرب حصل على غالبية في الكنيست؛ كاستباحة المسجد الأقصى، أو تمرير مشروع مصادرة الأراضي في النقب، وغيرها من قضايانا الحقوقية الأساسية، حتى لو صوّت 15 عضوًا عربيّا على رفض المشروع، فالذي يقابلهم غالبية تفوقهم بأضعاف.
ومن هنا يرى المقاطعون جدوى النضال خارج إطار الكنيست، باعتبار أنّ الذي منع انتهاك المسجد الأقصى وبناء الهيكل على أنقاضه أو على جزء منه حتى الآن لم يكن تصويتا من أعضاء كنيست عرب، بل كان كفاحًا شعبيّا سلميّا رابَطَ في المكان، وحافظَ على حقّه فيه، وكذلك الأمر ما يجري من التصدّي لمخطّطات مصادرة الأراضي في النقب الصامد، وغيرها من حقوق العرب المستهدفة بالمصادرة والانتهاك والتدنيس.
سؤال الخطاب
وأخيرا يأتي سؤال الخطاب، وهو امتداد طبيعي لسؤال الجدوى، حيث تتساءل قطاعات واسعة من المقاطعين: هل يمثّل هؤلاء شعبنا وآماله وتطلّعاته؟
يمكن للناظر إلى خطاب الأحزاب العربية المشاركة في الكنيست أن يرى بسهولة اتفاقها على خطاب واحد هو أقرب ما يكون لخطاب اليسار الصهيوني (كحزب “ميرتس” على سبيل المثال)، إذ لا يوجد فارق حقيقي يجعل هذه الأحزاب – أيّا كانت صبغتها: إسلامية، شيوعية، قومية – تختلف في أهدافها ورؤيتها الأساسية – التي تظهر في دعايتها – عن أحزاب اليسار الصهيوني. ومن هنا كان سؤال الخطاب حاضرًا لدى شريحة واسعة من المقاطعين، وهو نتيجة متوقّعة للانخراط في مؤسسة الكنيست؛ فبعد استبعاد أي خطاب يحافظ على قدر من الثوابت عبر عقود طويلة من تجربة الانخراط في الكنيست، لا يبقى في إطار “الممارسة المسموحة” إلا أصحاب الخطاب “المقبول” على المؤسسة الصهيونية، لا لإيمانها به، بل لأنّها ترى أنّ هذا القدر من “النضال” لنيل الحقوق هو الذي يمكنها السماح به في إطار “ديمقراطيّتها”.
وفي جولة سريعة على خطاب الأحزاب المشاركة المختلفة، يمكننا أن نحدّد هذا “المشترك” الذي اجتمعوا عليه، والذي يرى المقاطعون أنّه لا يمثّل الضمير الذي ينبض به الشعب الذي عاش النكبة والنكسة.
يفرّق خطاب “القائمة المشتركة” بين “اليمين” و”اليسار”، ويعتمد في دعايته الانتخابية بقدر كبير على ضرورة دعم القائمة من قبل العرب كي تدعم اليسار (المعسكر الصهيوني) وتسقط اليمين المتطرّف (الليكود بقيادة نتنياهو ومن معه من أحزاب يمينية)! ويرى المقاطعون أنّ التفريق بين اليمين واليسار هو وهمٌ لا يمكن أن يحمله من يتصدّى لمناصب القيادة والنضال، فقد كان دافيد بن جوريون، أول رئيس حكومة لإسرائيل، يساريّا، وكذلك كان حال الكثير من مجرمي الحرب الذين ولغوا بدماء إخوانهم في فلسطين أو في البلدان العربية المجاورة. بل يتساءل المقاطعون: لماذا لا ننتخب اليسار ابتداءً إذا كان الهدف الحاسم من المشاركة هو إنجاح اليسار على حساب اليمين المتطرّف؟!
وقد وضع خطاب “القائمة المشتركة” قضية “المساواة” كأساس لدعايته الانتخابية، باعتبار أنّ الشعب الذي تمثّله هو “أقلّية فلسطينية تعيش في هذه البلاد، وتسعى لنيل حقوقها وكبح العنصرية”، لا باعتباره شعبًا محتلّا يعاني من مؤسسة صهيونية طردت أهله وقتلت عشرات الآلاف منهم وهدمت قراهم ومدنهم وأقامت على أنقاضها دولة لشعب آخر لا تزال تضطهده وتسلبه حقوقه. ومن المضحك المبكي أنّ خطاب القائمة يستخدم عبارة “الأقلية الفلسطينية” أو “الفلسطينيين” باعتبارهم شعبًا له مميّزات خاصّة، رغم أنّ هوية “الشعب الفلسطيني”، كشعب متميّز عن غيره، قد تشكّلت – بقدر كبير – على أساس اشتراك أفراده بقضية النكبة، وما حدث فيها من تهجير وقتل وهدم واحتلال، فمن الغريب أن يستخدم هذا المصطلح من يتخلّى عن الخطاب الذي ساهم بشكل رئيسي في تشكيله!
وفي الواقع، لا يختلف خطاب “القائمة المشتركة” عن خطاب أي حزب يساري صهيوني يدعو للمساواة، بل يرى رئيس “القائمة المشتركة”، أيمن عودة، “أنّ الفلسطينيين داخل إسرائيل، البالغة نسبتهم 20%، لن يحصلوا على حقوقهم وحدهم دون تعاون مع القوى اليهودية، التي ترى أن عدم المساواة يعني عدم ديمقراطية الدولة، ويطرح موضوع تعزيز الشراكة بين العرب واليهود الديمقراطيين، ويرفض دعاوى التقوقع والانغلاق القومي”.
وعلى ضوء هذا الخطاب يتساءل المقاطعون: كيف يمكن منح هؤلاء شرعيّة تمثيلنا والنضال باسمنا وهم يمارسون خطابا غريبًا عنّا؟
وليست قضية الخطاب قضية تمثيل وقتي فحسب، بل هي إعادة صياغة للخطاب الفلسطيني بين عرب 48 بمعايير جديدة، يخشى إزاءها الكثير من المقاطعين أن تصبح نكبة جديدة تضاف إلى نكبات هذا الشعب، ولكنها هذه المرة على المستوى الفكري والأخلاقي، وتكون كفيلة بتذويب ما تبقّى له من ذاكرة تاريخية يربّي عليها الأجيال، فيتحوّل إلى أوضاع تشبه أوضاع الهنود الحمر في أمريكا، بعد أن يسهل دمجه في إطار “الثقافة المهيمنة” التي تفرضها السلطة الصهيونية، بل وتستخدم في ذلك العناصر العربية التي قرّرت ممارسة السياسة وفق قواعد اللعبة التي ترسمها المؤسسة، لتتحوّل – بين عشيّة وضحاها – إلى أدوات تكرّس الثقافة المهيمنة وتغزو بها عقول الأجيال المتعاقبة، وكلّ ذلك “في سبيل القضيّة”!
المصدر: ساسة بوست