في ديسمبر الماضي، توجه الملك محمد السادس إلى تركيا لقضاء إجازته، ولم ينزل بقصره في فرنسا كعادته، مما دفع البعض للتساؤل حول أسباب تغيير وجهته، وما إن كانت هناك دوافع تقف خلفه أم أنه مجرد تغيير عادي قررته الأسرة الملكية، بيد أن ما جرى بعد تلك الرحلة يقول بأنها لم تكن مصادفة، حيث وقع توتر قصير في العلاقات بين مصر والمغرب بسبب إشارة قنوات مغربية لما جرى في مصر بالانقلاب، بُعَيد حضور أحد المسؤولين المصريين لاجتماع في الجزائر قيل إنه ضم أعضاء من جبهة البوليساريو.
ما الذي قد يدفع المغرب إلى الاقتراب من تركيا؟ تقول صحيفة إل موندو الإسبانية أن زيارة الملك تمت في لحظة تشهد فيها العلاقات الفرنسية المغربية توترًا لأسباب عدة، أبرزها تحول السياسة الفرنسية على خلفية الأزمة الليبية والصراع في الصحراء الكبرى، واللذين جعلاها تميل للجزائر وتوسّع دورها على حساب علاقاتها مع المغرب، وهو ما يصب لصالح الإستراتيجية الجزائرية الراغبة في عزل المغرب، أضف إلى ذلك أن مصر، التي تدهورت علاقتها بتركيا، تحاول أن تميل بشدة لصالح الجزائر مؤخرًا، حيث اختارها السيسي في أول زيارة له بعد توليه منصبه، وقيل إن الأسباب تتراوح من الحصول على غاز بأسعار رخيصة، والتعاون فيما يخص ليبيا لمواجهة الإسلاميين.
الربيع العربي
لا يخفى على أحد أن المغرب واحدة من البلدان التي تعاملت بشكل مرن مع احتجاجات 2011 التي ألهمتها الثورات العربية في مصر وتونس وليبيا، إذ تبنى الملك مباشرة مجموعة من الإصلاحات فتحت الباب أمام حزب العدالة والتنمية، الفصيل الإسلامي الأبرز في البلاد، وقلّصت من نطاق صلاحيات الملك التنفيذية، ليُصبح مجبرًا على اختيار رئيس الوزراء من الحزب الأكبر في البرلمان، وتقتصر سلطته على العلاقات الخارجية والجيش والقضاء، ناقلًا بقية صلاحيات الحكم للوزارة، والتي يرأسها الآن عبد الإله بن كيران.
أدى موقف القصر المنفتح نسبيًا تجاه الربيع العربي إلى رفض المغرب للمواقف المتطرفة من الثورات والإسلاميين، وهو ما توضحه بجلاء زيارة الملك لتونس منتصف العام الماضي، واستضافته للمحادثات بين الفصائل الليبية منذ أسابيع، مما يعني رفض بلاده لمحاولات التدخل لصالح مجلس طبرق وحفتر التي دعت لها مصر والإمارات، وأيضًا زيارته الأخيرة لتركيا وتوتر العلاقات مع فرنسا التي أقل ما يُقال عنها إنها تميل لمجلس طبرق.
بطبيعة الحال، خلقت تلك الاتجاهات مسافة نوعًا ما بين المغرب والدول العربية المحافظة، والتي تتحفظ بشكل خاص على تعامل الملك مع حزب العدالة والتنمية، والذي لا يُعَد فقط محسوبًا على الإسلاميين، بل لا يخفي استلهامه لتجربة نظيره التركي، وهي علاقة خلقت عُمقًا أكبر في العلاقات التركية المغربية، خاصة وأن أنقرة تبحث عن حلفاء لها في إستراتيجيتها تجاه الخليج، وهو ما وجدته في قطر، وفي إستراتيجيتها في المغرب العربي والمتوسط، وهو ما لا يسع تونس وحدها أن تقوم بها، مما يجعل المغرب مرشحًا قويًا لذلك.
بين الأطلنطي والمتوسط
بينما يتزايد نمو القارة اللاتينية الاقتصادي، ويتراجع المحور الأمريكي الأوربي المهيمن على الأطلنطي منذ عقود مقابل اتجاه الولايات المتحدة نحو أسيا بشكل أكبر، تبدو المغرب مرشحة للعب دور كبير في الفترة المقبلة، أولًا بالنظر لكونها واحدة من أهم اقتصادات أفريقيا، حيث استضافت مؤخرًا صندوق نقد “أفريكا فيفتي” Africa 50 لتمويل مشاريع البنية التحتية في الدار البيضاء، وثانيًا بالنظر لموقعها المُطل على الأطلنطي والمتوسط في آن واحد، مما يجعلها نقطة التقاء هامة للتجارة اللاتينية والأوربية والأفريقية.
لذلك، تزايد اهتمام المغرب مؤخرًا بالبنية التحتية في مدنها، والتي تقع أغلبها على سواحل الأطلنطي، كما أخذت الرباط على عاتقها تعزيز الروابط مع البرازيل تحديدًا، والتي تُعَد بالطبع القوة الأبرز في جنوب الأطلنطي، بالإضافة إلى ذلك، تطمح المغرب إلى توسيع دورها في غرب أفريقيا، وتفعيل نفوذها الاقتصادي هناك، وهو ما دفع الملك للقيام بجولة شاملة لدول شتى بالمنطقة العام الماضي، وتوقيع عدة اتفاقيات استثمارية هناك، وهو نفوذ سيعطيها القدرة على لعب دور مركزي في التجارة بين القارتين المتوقع نموهما بقوة في العقود المقبلة نظرًا لانتقال آليات الاقتصاد الرخيص من الشرق (الصين) إلى الجنوب (أفريقيا وأمريكا اللاتينية).
علاوة على ذلك، ستحاول المغرب تعديل الكفة العسكرية لصالحها على حساب الجزائر بطرح نفسها كحليف للناتو في المتوسط، وهي بالفعل الآن شريك أساسي للحلف، وهو ما يجعل خطواتها نحو تركيا مهمة في هذا الإطار، خاصة وأن تركيا ستستفيد من جذب حلفاء لدورها في الناتو خارج إطار القارة الأوربية، والتي توترت علاقاتها ببعض دولها مؤخرًا، وستكون المغرب المطلة على الأطلنطي بالطبع مفيدة لتركيا أكثر من سواها.
صعود هادئ
على العكس من التحولات السريعة في المشرق، من غزو العراق إلى الصراع في سوريا، والتي أبرزت الدورين التركي والإيراني سريعًا، تبدو التحولات التي ستحمل المغرب إلى موقع قيادي في محيطها تحولات اقتصادية وإستراتيجية طويلة المدى، من اتجاه واشنطن نحو شرقها، وصعود البرازيل كقوة في الأطلنطي، إلى بدء تحول رأس المال إلى أفريقيا باعتبارها الصين الجديدة، وإعادة صياغة أوروبا لحلف الناتو ودور تركيا فيه.
تباعًا، يعني هذا أننا لن نشهد الدور المغربي “صاعدًا” بنفس الشكل السريع في السنوات المقبلة، ولكن سنرى تناميًا بطيئًا في الثِقَل الاقتصادي والسياسي المغربي مع الوقت، وهو ما سينعكس ربما في اتجاه الرباط نحو تحالفات جديدة خارج نطاق دائرة موالاة الغرب التي عُرِفَت بها طوال العقود الماضية، وهو اتجاه سيعززه بالطبع وجود حكومة أكثر تعبيرًا عن الشارع، وتزايد نفوذها في معادلة السلطة مع الوقت.