بينما يظل السلطان قابوس، حاكم عُمان منذ العام 1970، في ألمانيا لتلقي العلاج بعد إصابته بسرطان في القولون حسبما تقول بعض المصادر، وبينما تغافل كثيرون عن أهمية وخطورة انتقال السلطة في عُمان اعتقادًا منهم بأنها بلد هامشي في النظام الإقليمي العربي، يبدو أن الكثير من صناع القرار ينتظرون بشغف وقلق ما ستؤول إليه الأوضاع في عُمان خلال الفترة المقبلة، بدءًا من واشنطن وحتى طهران، حرصًا منهم على الدور العُماني المهم في ملفات عدة، والذي يُعَد محوريًا وإن لم يكن بارزًا إعلاميًا، لاسيما في المفاوضات بين الأمريكيين والإيرانيين، التي تتمنى مسقط أن تؤدي لاتفاق نهائي.
السلطنة الهادئة
بغالبية سكانية تعتنق المذهب الإباضي، غير المرتبط بالشيعة أو السنة، وبموقع بعيد عن معمعة الصراع في المشرق والهلال الخصيب على مدار العقود الماضية، يبدو أن الجغرافيا قد نأت بعُمان عن نيران المنطقة بقدر ما نأت بها ثقافتها عن فِتَنِها، لاسيما وأن سلالة البوسعيديين الحاكمة منذ أواخر القرن الثامن عشر قد نجحت من خلال إدارة علاقاتها مع الإنجليز في الاحتفاظ بنوع من الاستقلالية والمرور بسلام عبر حقبة الاستعمار، لتصبح عُمان، على عكس بقية دول الخليج، وعلى غرار المغرب، واحدة من العروش المتبقية من الأزمنة السالفة، دون أن تعصف بها رياح الشرق الأوسط.
منذ تولي السلطان قابوس لزمام الحُكم في البلاد ومسقط تسير بهدوء نحو موازنة كافة الأطراف في محيطها، والذين لا تنتمي لأيٍ منهم نظرًا لتفرّدها المذهبي، فهي جزء من مجلس التعاون الخليجي الذي يعطيها الكثير من المميزات، ولكنها حريصة أيضًا على خلق مسافة بينها وبين الرياض السنية نظرًا لعدم ارتياح العمانيين للإسلام السعودي، وهو ما يجعلها أقرب دول الخليج إلى إيران التي تتمتع بعلاقة إستراتيجية مع عُمان، بل وتشارك في تدريبات عسكرية مشتركة معها، كان آخرها في يناير الماضي، حين قامت القوات البحرية للبلدين بتدريبات في خليج عُمان.
بينما تقترب مسقط من طهران تارة، فإنها تميل لواشنطن ولندن بقوة تارة أخرى لحماية محيطها من الهيمنة الإيرانية، وهي تتمتع بعلاقات قوية مع القوى الغربية بشكل عام، ولكنها من ناحية أخرى تعزز من كافة روابطها بالشرق، لكيلا يكون اعتمادها على الغرب مُطلقًا، فهي تتمتع بعلاقة تاريخية طويلة ووطيدة مع الهند لأسباب جغرافية وثقافية واضحة، حيث تهيمن شرائح هندية واسعة على السوق العُماني بشكل يجعلها واحدة من أصدقاء الهند في المحيط الهندي، وهي تمتلك أيضًا علاقة تجارية قوية بالصين في محاولة لتنويع شركائها التجاريين الآسيويين.
باختصار، فإن عُمان لا أعداء لها ولا حلفاء قريبين منها، ولا يعلو لها صوت في المنطقة مثل قطر أو إيران أو تركيا؛ فهي تتمتع بإستراتيجية موازنة بين الأطراف المختلفة وتسير وفقًا لها في صمت، ولكن الصمت لا يعني بطبيعة الحال غياب الطموح، والذي بدأت تظهر بوادره في مسقط منذ بضعة سنوات، خاصة والخليج قد نمى اقتصاديًا بقوة من حولها، والهند قد برزت كقوة عالمية إلى شرقها، وشرق أفريقيا على طريق الصعود الاقتصادي إلى غربها، وفق ما يقول الخبراء.
أولويات عُمان بين أسيا وأفريقيا
وزير الشؤون الخارجية العُماني يوسف بن علوي مع نظيرته الهندية سوشما سواراج، العضوة بحكومة مودي المنتخبة حديثًا
على مدار السنوات الأخيرة، تنامى الحديث عن ميناء الدُقم الذي تقوم عُمان ببنائه حاليًا، والذي من المُنتَظر أن يصبح واحدة من أهم النقاط على طريق التجارة الهندية والصينية المتجهة غربًا، والأوربية المتجهة شرقًا، لينافس بوضوح كافة موانئ الخليج الفارسي، والتي تعاني بالطبع من عدم الاستقرار مقابل هدوء الدقم البعيدة عن الخليج والمطلة على البحر العربي مباشرة، وهي جهود تعكس إستراتيجية أوسع تحاول بها عُمان استغلال موقعها لوضع نفسها على الخارطة في المحيط الهندي، على غرار ما تقوم به المغرب في المحيط الأطلنطي مؤخرًا.
تُعَد الهند واحدة من أبرز المتحمسين للدور العُماني، أولًا، لأنها تتمتع بالفعل بنفوذ اقتصادي كبير فيها، وثانيًا، لأنها بعيدة عن باكستان، على عكس بقية دول الخليج، فعُمان لا تتقيد بأي تحالف أو علاقة خاصة مع باكستان نظرًا لتوجسّها من دعم باكستان لبعض الفصائل السنية المتطرفة، وأيضًا نظرًا لمنافستها إياها، إذ تحاول إسلام آباد بناء ميناء على البحر العربي في مدينة جوادار، والذي تستثمر فيه الصين بقوة لتطويق الهند في المحيط الهندي.
بدورها، تقوم إيران بمحاولات هي الأخرى لبناء ميناء في مدينة تشابهار بأقصى جنوبها تدعمه الهند أيضًا كمنافس لباكستان، ولكنه رهان غير مضمون نظرًا لاحتمال استمرار العقوبات عليها حال فشلت المفاوضات مع الغرب، وبالتالي تعقيد الموقف الهندي، كما أنه حتى في حالة نهاية العقوبات ستكون المدينة، الواقعة في محافظة بلوشستان السنية والناقمة على طهران والتي تشهد اضطرابات كثيرة، مخاطرة بالنسبة لكثيرين، على عكس الدقم الهادئة والمستقرة.
تعكس تلك الجهود رغبة عُمانية في التحليق بآفاق العلاقات الأسيوية الأفريقية، والخروج من ضيق الخليج وصراعاته، لاسيما وأن دول جنوب شرق أسيا، مثل إندونيسيا والفيليبين وفيتنام، ودول شرق أفريقيا، مثل كينيا وتنزانيا وإثيوبيا، من المتوقع أن تلعب دورًا اقتصاديًا بارزًا في المرحلة المقبلة، بالتوازي مع استمرار صعود الصين والهند سياسيًا واقتصاديًا، وهي دول تتسم علاقاتها بالتشابك والتنافس البناء، على عكس الصراعات الدامية في المنطقة العربية الآن.
سياسة جديدة قديمة
قد يعتقد البعض أن هذا التوجه جديد على مسقط، بيد أن العالم بتاريخها يعلم جيدًا أن عُمان لطالما نجحت في ترسيخ دورها على مستوى التجارة العالمية عبر الساحل الأفريقي والهند، وسلالة البوسعيديين بالتحديد، التي ينحدر منها قابوس، وصل حكمها قبل الاستعمار في القرن التاسع عشر إلى شرق القارة الأفريقية (الصومال وكينيا وتنزانيا اليوم)، وإلى جنوب غرب أسيا (بلوشستان اليوم)، وهو نفوذ ظل حتى منتصف القرن المنصرم في جزيرة زنجبار، والتي أصبحت فيما بعد جمهورية ذاتية اتحدت مع طنجنيقة لتصبح اليوم تنزانيا.
اليوم، تعيد مسقط اكتشاف هذه السياسة ليس إلا، وهي مؤهلة للعب هذا الدور بقوة بموقعها وتاريخها وثقافتها.