ما الذي قد يجمع العرب والأتراك والإنجليز والألمان والفرنسيين والأستراليين والنيوزيلنديين على أرض واحدة؟ إنها القسطنطينية، عاصمة الخلافة حتى عام 1923، والتي اندلعت على أبوابها، في مضيق الدردنيل المؤدي للبوسفور، واحدة من أشد المعارك سخونة أثناء الحرب العالمية الأولى، بين الدولة العثمانية وألمانيا من ناحية، والإنجليز والفرنسيين وحلفائهم من أستراليا ونيوزيلنده من ناحية أخرى: معركة جنق قلعة Çanakkale، المعروفة بـ “جاليبولي” Gallipoli، التي بدأت عام 1915، والتي يحتفل الأتراك اليوم بذكراها المائة.
“لقد كانت ملحمة جنق قلعة ملخصًا لكل ما جرى في الحرب العالمية الأولى، حيث استِخدِمَت فيها كل أنواع السلاح التي عرفتها البشرية آنذاك: السفن والغواصات والألغام والطائرات والمواجهات البرية”، هكذا يقول خلوق أورال، الأستاذ بجامعة كوتش التُركية، ومؤلف كتاب “جاليبولي 1915: بعيون تُركية”.
تركيا والحرب العالمية
قامت الحرب العالمية الأولى عام 1914 في مكان ليس ببعيد عن تركيا والقسطنطينية؛ مدينة ساراييفو في البلقان، حين اتم اغتيال ولي عهد إمبراطورية النمسا والمجر، فرانز فرديناند، ليبدأ أول صراع عالمي في التاريخ الحديث، بين دول الحلفاء التي مثلّت القوى الأوربية التقليدية، إنجلترا وفرنسا وروسيا، ودول المحور، التي مثلّت ألمانيا بشكل رئيسي، التي هزّ صعودها من المعادلة الأوربية، وكذلك الدولة العثمانية وإمبراطورية النمسا والمجر المنحدرتين، واللتين اختارتا ألمانيا في القلب من أوروبا لمواجهة الروس.
بينما شهدت الجبهة الغربية في قلب أوروبا نوعًا من البطء بعد عام على بدء الحرب، وبدا أن الحرب ستسمر طويلًا وتستنزف قوى الدول المشاركة، بدأ القلق ينتاب البعض من أن قدرة ألمانيا الصناعية قد تعطيها القدرة على الاستمرار لوقت أطول، وهو ما دفع السياسي البريطاني الطموح آنذاك، وينستون تشرشل، للتفكير في الالتفاف على الجبهة الغربية وضرب حلفاء ألمانيا، وتعزيز الموقف الروسي بدخول القسطنطينية.
بطبيعة الحال، كان الطريق إلى المدينة يستتبع المرور عبر مضيق الدردنيل البالغ عرضه حوالي كيلومتر ونصف، وبالتحديد شبه جزيرة جاليبولي الصغيرة، والتي اعتقد الإنجليز أن دخولها سهل نظرًا لضعف الجيش العثماني آنذاك، “سيكون ثمن الحصول على جاليبولي كبيرًا لا شك، ولكننا على الأقل سنُخرِج تركيا من الحرب، وسيكون كافيًا أن نستخدم قوة من 50.000 مع قوتنا البحرية لنكتب نهاية الخطر التركي”، هكذا كتب تشرشل لأحد أصدقائه.
المعركة
مصطفى كمال أتاتورك بين جنوده أثناء معركة جنق قلعة
قبل وصول الإنجليز يوم الثامن عشر من مارس، وبعد أن تأخرت سفنهم بضعة أيام نظرًا لسوء الأحوال الجوية، كان الأتراك قد لغّموا المضيق وعززوا من عدتهم وعتادهم على سواحله، وبينما تقدمت قوات الحلفاء بتخطيط غير دقيق وقلة معرفة بجغرافيا المنطقة، اعتقادًا منها بأن المعركة ستكون سهلة، كان الأتراك قد استغلوا بالفعل ارتفاع الأرض المحيطة بالمضيق ليُمطروا البحرية البريطانية بكل أنواع الذخيرة التي امتلكوها، وهو ما دفع الحلفاء لاتخاذ قرار اجتياح جاليبولي برًا للسيطرة على المضيق، ليطلبوا الاستعانة بمدد من جيشي أستراليا ونيوزيلنده، أو قوات أنزاك (ANZAC).
اتجهت قوات أنزاك في أول معركة عالمية للبلدين بعد انفصالهما عن بريطانيا، لينزلوا بمصر في معسكر قرب الأهرامات، ثم يتجهوا إلى الدردنيل ليواجهوا القوات العثمانية التي كان يوجهها آنذاك جنرال ألماني، أوتو فون ساندرز، ويقودها مصطفى كمال، الذي أصبح أتاتورك فيما بعد، “ما إن دخلنا حتى فُتِحَت علينا النيران من كل اتجاه حاملة إلينا الموت، وكأننا قد حُبِسنا في الجحيم”، هكذا يتذكر أحد الضباط الأستراليين.
على مدار أشهر، استمر القتال بين الطرفين، ورُغم خسائر العثمانيين الكبيرة، والتي أثرت كثيرًا على قدرتهم على تحقيق الانتصار بشكل عام في الحرب العالمية، إلا أن بسالتهم في هذه المعركة حالت دون وصول الحلفاء إلى القسطنطينية، لتصبح معركة جنق قلعة اليوم هي ذكرى انتصار في تركيا كل عام في مثل هذا اليوم، وتصبح حملة جاليبولي في أستراليا وبريطانيا، على أقل تقدير، واحدة من أبرز القرارات الفاشلة التي اتخذتها قواتهما، وإن كان بعض المؤرخين لا يرى أنها انتهت بهزيمتهما على المستوى العسكري.
النتائج الواسعة للمعركة
يُنظَر للمعركة في بريطانيا كواحدة من أسوأ قرارات تشرشل، حيث أخفقت في تحقيق أهدافها الإستراتيجية، وأدت لمقتل أكثر من 30.000 جندي بريطاني وفرنسي، و8.700 أسترالي و2.700 نيوزيلندي، وقد دُفِن الكثير منهم في مدينة جنق قلعة التي تُعَد اليوم مواقع المعركة فيها مقبرة كبيرة، “بالنسبة لوينستون تشرشل، فإنني أود أن أراه يُقتَل في نفس المواقع التي مات فيها الكثيرون هنا”، هكذا قال أحد الضباط الإنجليز بعد الحرب.
بيد أن العثمانيين أيضًا تكبّدوا خسائرًا كبيرة، ونظرًا لتخلّف قواعدهم الصناعية عن الحلفاء، كان أصعب عليهم أن يعيدوا بناء صفوفهم لاستكمال بقية معارك الحرب، مما أدى لهزيمتهم وتوقيعهم معاهدة فرساي المهينة، قبل أن تبدأ حرب الاستقلال في السنوات التالية على الحرب العالمية الأولى، لتعيد تركيا الكفة لصالحها وتوقّع اتفاقية لوزان، ويبدأ تأسيس الجمهورية التركية، والتي استلهمت شرعيتها من تلك الحرب، ومن معارك ضباط حركة تركيا الفتاة أثناء الحرب العالمية الأولى، مثل أتاتورك في معركة جنق قلعة، بعد أن كانت شرعية السلطنة قد انتهت فعليًا بهزيمة دول المحور عام 1919.
“لا يمكن المرور عبر جنق قلعة” Çanakkale Geçilmez، هي جملة انتشرت فيما بعد في تركيا، في إشارة إلى صعوبة المرور بين ضفتي المضيق اللتين امتلأتا بعدة وعتاد الأتراك، وكذلك في إشارة إلى الهبة التي منحتها الجغرافيا لأي قوة مهيمنة على القسطنطينية، حيث يصعب بشكل عام المرور عبر هذا المضيق للوصول إلى المدينة حال واجهت تركيا هجومًا من الجنوب، على العكس من الهجوم السهل عليها من الشمال، عن طريق البحر الأسود، وهو ما يجعل الروس، حتى اليوم، الغريم الجيوسياسي الأبرز للأتراك مهما اقترب أنقرة من موسكو، ويجعل كفة الموازين العسكرية التركية تميل بشكل تلقائي لصالح القوى الغربية والأطلسية.
بطبيعة الحال، يمكن للإستراتيجية التركية أن تعتمد على العرب في جنوبها، وليس بالضرورة إلى محور أطلسي أبعد عنها، كما تثبت معركة جنق قلعة، حيث ساهم العدد الكبير للقوات العثمانية، والتي ضمت 300.000 عربي في الحرب العالمية، في صد العدوان، والذي ما كان ليفشل بنفس الدرجة لولا قدرت تركيا على حشد هذه الكميات من الجنود حول ضفتي المضيق في وقت قصير، بيد أن تمكّن الخطاب القومي على الجانبين بعد الحرب، لاسيما بعد ما عُرِف بالثورة العربية الكبرى ضد الخلافة أنذاك، وسّع الهوة بين الطرفين، ودفع بتركيا المتجهة بجموح نحو سياسات التغريب هي الأخرى إلى الاتجاه نحو التحالف الغربي، وهي معادلة تسري إلى اليوم.
في العام الماضي، وفي الذكرى التاسعة والتسعين للمعركة، وجه رئيس الوزراء التركي (آنذاك) رجب طيب أردوغان رسالة شكر للعالم الإسلامي، وللعرب خصوصا، ذاكرا دمشق وحلب وبغداد والقاهرة والقدس ورام الله ونابلس، كان أردوغان يشكر العرب ” من أجل شهدائكم الذي يرقدون هنا جنبا إلى جنب مع شهدائنا”. ورغم التوترات الشديدة بين تركيا وعدة أطراف عربية، تلك التي أعقبت الانقلاب العسكري في مصر في صيف 2013 إلا أن نظرة على قوى المنطقة تقول بوضوح أن تحالفا تركيا عربيا قد يشكل قوة هائلة في المنطقة والعالم.
أما الأستراليون والنيوزيلنديون فإنهم يتذكرون ضحاياهم في ذكرى المعركة البرية، التي بدأت يوم 25 أبريل 1915، كل عام في أول مغامرة لبلديهم بشكل أقوى من كافة المعارك الأخرى التي جرت أثناء الحرب، لاسيما يوم إعلان وقف إطلاق النار والحرب، وهو ما جعل هذا اليوم، المعروف بيوم أنزاك Anzac Day، واحدة من أبرز أسباب نشوء خطاب وهوية وإستراتيجية أسترالية خاصة فيما بعد.
يأتي الكثير من هذه الجزر البعيدة عن أوروبا كلما زاروا تركيا، ليلقوا نظرة على المئات والآلاف من جنودهم الذين دُفِنوا هنا، ليجدوا في استقبالهم كلمات أتاتورك الشهيرة في تأبين قتلى العدو الذي حاربه بنفسه، “هؤلاء الأبطال الذين بذلوا دماءهم وفقدوا أرواحهم يرقدون الآن في أرض صديقة، ويرقدون في سلام، لا فرق لدينا بين مسيحي ومسلم ماداما يرقدان هنا جنبًا إلى جنب في بلدنا، وأنتن، أيتها الأمهات اللائي أرسلن أبناءهن بعيدًا عن ديارهم، فلتمسحن دموعكن؛ أبناءكن يرقدون الآن في حمايتنا وسلامنا، فقد أصبحوا أولادنا أيضًا بعد أن فقدوا حياتهم هنا على أرضنا”.