العلماء يحلون لغز كائنات داروين الغريبة

في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، وأثناء رحلته إلى أمريكا الجنوبية على متن السفينة بيغل التابعة للبحرية البريطانية HMS Beagle، اكتشف عالم الطبيعيات تشارلز داروين حفريات لحيوانات غريبة عصية على التصنيف، ولم يُر لها مثيل في بقية أنحاء الأرض، أبرزها الماكروخينيا، وهو حيوان أشبه بالجمل ولكنه بدون سَنَم وبرقبة طويلة وأنف متدل أشبه بالفيل، والتوكسودون، وهو حيوان بجسم وحيد القرن ولكن وجهه أشبه بفرس النهر وله أسنان كأسنان القوارض.
في بحث نُشِر مؤخرًا في دورية نيتشر العلمية المرموقة، نجح فريق بحثي في الوصول إلى علاقة هذه الكائنات، المعروفة بحافريات (أي ذات حوافر) أمريكا الجنوبية South American Ungulates، بغيرها من الثدييات الموجودة على الأرض، إذ اتضح أنها تطورت عن مفردات الأصابع Perissodactyla، والتي تضم الخيول ووحيد القرن وحيوان التابير البرازيلي.
لغز قديم
منذ وصف داروين لهذه الكائنات العجيبة، والتي انقرضت منذ حوالي 12.000 سنة، لم يكن يعرف العلماء عنها سوى انتمائها للثدييات بشكل عام، وتشكيلها لمجموعة تُعرَف بحفريات أمريكا الجنوبية، وعلى مدار قرنين تقريبًا لم يفلح أحد في الحصول على بروتينات الحمض النووي من حفرياتها ليرسم مسار تطورها ويعرف موقعها الدقيق في شجرة الكائنات الحية التي تطورت منذ ملايين السنين على الأرض، وذلك لأن جزئيات الحمض النووي الموجودة في الحفريات بالقارة اللاتينية تتحلل بسرعة تحت تأثير الجو الحار.
للالتفاف على هذه المشكلة، قام أيان بارنز، عالم الأحياء بمتحف التاريخ الطبيعي في لندن، وماثيو كولينز، عالم الحفريات البيولوجية بجامعة يورك في بريطانيا، باستخلاص الكولاجين من عظام الحفريات الموجودة في متحفين بالأرجنتين، وذلك لأن الكولاجين، وهو جزء أساسي من العظام، يحتفظ بالبروتين الخاص به بشكل أطول من الحمض النووي، كما استخلصوا الكولاجين من عظام حيوانات فرس النهر والآردفارك والتابير البرازيلي للمقارنة.
بشكل أوسع، تنتمي مجموعة مفردات الأصابع لمجموعة أكبر معروفة بالـ “لوراسيات” Laurasiatheria، والتي تضم الزراف والخفافيش والحيتان ومعظم الحافريات، وهي مسماة نسبة لقارة لوراسيا التي يُعتَقَد أن أصول تلك الثدييات تعود إليها، وهي قارة كانت موجود منذ ملايين السنين على الأرض، وتفككت مع الوقت لتصبح أمريكا الشمالية وأوروبا وأسيا اليوم، وقد انتقلت مجموعة من اللوراسيات تلك إلى أمريكا الجنوبية قبل 60 مليون سنة، لتتفرع عنها حافريات أمريكا الجنوبية وتنفصل عن أسلافها، ثم تنقرض ليجد داروين بقاياها هناك.
سفينة بيغل البريطانية تعبر مضيق ماجِللان في أقصى جنوب أمريكا اللاتينية (نُشرَت الصورة لأول مرة عام 1890 في نسخة من كتاب لداروين عن أبحاثه في القارة).
“لقد كانت حفريات أمريكا الجنوبية تحديًا صعبًا لعقود طويلة، فهي تركيبة غريبة من خصائص نجدها في كائنات مختلفة غير مرتبطة ببعضها البعض في قارات العالم الأخرى، وهذا هو ما حيّر داروين حين اكتشفها، فالبعض قال إنها أقرب للجمال، والبعض قال إنها أقرب للفيلة، في حين قال آخرون إنها شبيهة بالقوارض الكبيرة”، هكذا يقول روس ماكفي، أحد المشاركين في الورقة البحثية، والمسؤول عن متحف التاريخ الطبيعي الأمريكي.
مفتاح الكولاجين
“باختيار العيّنات المحفوظة جيدًا، وباستخدام تقنيات تحليل بروتيني متطورة، نجحنا في الوصول إلى تسلسل البروتينات في 90% من الكولاجين لكائن التوكسودون وكائن الماكروخينيا”، هكذا يقول فريدو فيلكر، طالب الدكتوراة في معهد ماكس بلانك للأنثروبولوجيا التطورية في ألمانيا وبجامعة يورك، “هذه التقنية ستفتح المزيد من الآفاق في هذا المجال”.
“إنها ليست نهاية الرحلة بل بدايتها”، هكذا يقول ماثيو كولينز، إذ يبدو أن استخدام الكولاجين للبحث عن أصول الكائنات سيتيح لآلاف الباحثين استخدام تلك التقنية، وسيعزز من معارفنا عن العالم الطبيعي بشكل لا يقل أهمية عن ثورة استخلاص الحمض النووي، بل ربما بشكل أكبر، “نظريًا، يمكن للكولاجين أن يأخذنا إلى الوراء عشرة ملايين سنة، بل وربما عشرين مليون سنة إذا ما اتجهنا للمناطق المتجمدة”.
يبلغ عُمر عيّنة الحمض النووي الأقدم لدينا الآن على أقصى تقدير 800.000 سنة، وهي مُستخرجة من جليد جزيرة جرينلاند الواقعة بين أوروبا والولايات المتحدة، حيث تناسب الظروف البيئية بقائها سليمة، على عكس حفريات داروين، أما عيّنة البروتين الأقدم حتى الآن، فهي تعود لجمل عاش في القارة القطبية الشمالية منذ حوالي 3.2 مليون سنة.
سيكون الكولاجين مفيدًا بالطبع للبحث في أصول الكثير من الحيوانات التي انقرضت منذ وقت طويل، مثل الفيل القِزم، وفيل الماموث، والزواحف الأسترالية العملاقة، وأنواع القوارض المتنوعة والهائلة التي تميّزت بها جزر إندونيسيا ولاتزال، وغيرها الكثير.