راسخ في قناعتي أن ثورة تونس المجيدة قد أدخلت -ودون رجعة أو حاجة لمسعى تصديرها- ليس فحسب تونس بل أمة العرب، عالما جديدا، عالم الحرية، على غرار ما فعل الإسلام أول مرة، وكما فعلت الثورات الإنجليزية والأميركية والفرنسية بأمم الغرب.
إن مسألة التحاق هذه المنطقة أو تلك بركب الحرية- مسألة وقت وتكلفة- وذلك حسب درجة تعقيد الأوضاع وأهمية الموقع، مع اختلاف في المنهج بين دكتاتوريات ذكية تبادر بإصلاحات جادة متدرجة، كما فعلت عدة ملكيات في أوروبا وبين دكتاتوريات محنّطة ترفض الاستجابة لمنطق التاريخ وضرورات الإصلاح فتجتاحها رياح التغيير. وتوجد مؤشرات في المنطقة على هذه وعلى تلك.
وإذا كانت سنة ٢٠١١ اندلاع عاصفة ثورات الربيع العربي فقد مثلت سنة ٢٠١٣ سنة الانتصار الكبير لموجات الثورات الارتدادية ضد قوى التغيير انطلاقا من الإعصار الذي ضرب مصر في منتصف السنة وكادت موجاته الارتدادية تطيح بالربيع التونسي المتداعي للسقوط، لولا تنازل النهضة وقبولها الانسحاب من السلطة، إلى تنازلت أخرى مؤلمة.
“المقصود بالنظام القديم هو قواعد وقيم الحكم وأنظمته مثل نظام الحزب الواحد والانتخابات المزيفة والإعلام الخشبي والزعيم الأوحد والمال المحتكر في فئة الحكم.. وهي أصنام أسقطتها الثورة وطوى الدستور صفحتها وأرسى بديلا عنها “
لقد ظهر تأويلان لهذا الارتداد، هل هو عائد لكيد خارجي؟ أم نتيجة لأخطاء مقترفة من قبل الحكومات التي جاءت بها الثورة والتي بدل أن تعتمد إستراتيجية ثورية تستهدف طي صفحة ما تبقى من المنظومة القديمة أفسحت المجال لعودتها، فاعترفت بأحزابها ولازمت الصمت أمام عودة إعلامها بنفس رجاله المعروفين، بما انتهى بأبناء الثورة إلى أن ألفوا أنفسهم محاصرين بمنظومة متكاملة بل بتحالف واسع جمع بين أهل المنظومة القديمة وأهل اليسار بمن فيهم المشاركون في الثورة وبعض حتى من أحزاب الوسط، على غرار ما حدث في مصر.
لقد عاد أهل النظام القديم من بوابة اليسار، مستغلين سماحة حكومات الثورة!! فماذا بقي من فرص أمام قوى الثورة المحاصرة حتى لا ينهار البناء فوق رؤوس الجميع في ظل انهيار عربي، غير استبدال نهج الصراع والمغالبة بنهج الحوار بحثا عن التوافق مع الجميع بمن فيهم أهل المنظومة القديمة العائدين بقوة، وذلك ما دعت إليه خارطة الطريق التي وقع عليها ٢٢ حزبا بتاريخ ٥ أكتوبر/تشرين الأول ٢٠١٣ جمعت بين الإسلاميين (النهضة) واليسار والقوميين والليبراليين، ولم يقاطع هذا التمشي إلا حزب المؤتمر ومشتقاته تقريبا.
وهل كانت هناك أصلا إستراتيجية أخرى بديلة عن التوافق تتوفر على فرصة لإنقاذ مسار انتقالي مترنح في ظل وضع عربي منهار؟
فات الأوان
حتى على فرض أنه كانت هناك فرصة ومصلحة للثورة وللبلاد في اجتراح الحلول الثورية الراديكالية في التعامل مع أهل المنظومة القديمة وذلك في الأيام والأشهر الأولى من اندلاع الثورة في شدة عنفوانها، كما كان يريد البعض وكما فعل البعض في تجارب أخرى قادتها سياسات العزل السياسي إلى الانهيار والخراب، فقد فاتت تلك الفرصة- على افتراض أنها كانت موجودة أصلا- وذلك بالنظر إلى الثقافة السياسية السائدة وسط النخبة التي كان تيارها الأساسي إصلاحيا نظاميا لم يفتأ يطرق أبواب النظام السابق يسأله اعترافا به حتى يندرج في إطار القوانين الجارية على أمل تطويرها من داخلها.
وحتى الأفراد القلائل في النخبة الذين كان خطابهم يستهدف المخلوع شخصيا فقد كانوا خارجين عن السياق العام متهمين بالتشدد وكنت معدودا من بينهم.
ولذلك لم يكن عجبا أن توافقت هذه النخب جميعها على الاحتفاظ بخيط من الشرعية صبيحة انتصار الثورة متمثلة في القبول برئيس برلمان المخلوع رئيسا للدولة كما هو مقتضى دستور المخلوع، وإبقاء الوزير الأول للمخلوع وزيرا أول لأول حكومة للثورة.
وحتى عندما رفض شباب الثورة هذا الوضع واحتشدوا في اعتصام القصبة الأول والثاني انفضوا بمجرد أن تم تنصيب الباجي قائد السبسي وزيرا أول، إذ كان يكفيه أن يلبي مطلبهم في التأسيس الدستوري بدل ترقيع القديم، وكان ذلك هو المطلب الثوري الوحيد تقريبا، وذلك دون اعتراض من أحد على سي الباجي رغم تقلده مسؤوليات رفيعة في المنظومة القديمة، وتعامل معه الجميع.
بل بلغ مستوى العلاقة معه حد التفكير في إيلائه الرئاسة، وكان الرجل في مستوى الثقة إذ قاد البلاد إلى أول انتخابات تعددية نزيهة، دليلا على الطبيعة السلمية للتونسيين ولثورتهم.
“كل من دخل تحت خيمة الدستور وحكم باسمه فهو من أهل النظام الجديد أيا كان علو موقعه في النظام القديم، ومن ثبت عليه تورط في نهب أو قمع فأمره إلى العدالة الانتقالية وأجهزة القضاء، هذا إذا لم تؤثر الضحية العفو والسماحة وهو ما ندعو إليه بعد كشف الحقيقة”
ولم يكن كذلك عجبا أن حكومتي الثورة اللتين لم تضما إليهما إلا كوادر منحدرين من أحزاب الثورة لم تعقدا محاكمات سياسية لرموز المنظومة القديمة ولم تشنا عليهم حملات إعلامية بل كانتا ضحية إعلامهم العائد، بل اعترفت حكومة الثورة بأحزابهم دون اعتراض من أحد.
فهل يبقى بعد ذلك مجال لرفض التعامل معهم، من أجل المصلحة الوطنية باعتبارهم جزءا من التكوينات الوطنية بما في ذلك إشراكهم في الحوار الوطني والتوافق معهم على إنقاذ المسار الانتقالي وفق خارطة الطريق التي وقع عليها الجميع عدا المؤتمر ومشتقاته؟ وهل يبقى مسوغ لرفض التعاون معهم في كل ما يقدر أنه مصلحة وطنية؟
وهل كان هناك سبيل آخر لإنقاذ المسار الانتقالي التونسي من التسونامي الجارف القادم من الشرق، المسار الذي أنتج ما غدا يعرف بالاستثناء التونسي وذلك دون انخراط الجميع في الملحمة البديعة ملحمة الحوار الوطني التي قادها رباعي المجتمع المدني؟
مسارات أخرى
إن السياسة مصالح ومبادئ لا تتنزل إلا في سياق موازين قوة مناسبة، هي نتائج وممكنات، وليست افتراضات.
اليوم هناك مسار انتقالي ديمقراطي تونسي حقق للتونسيين بل أوسع من ذلك للعرب وللمسلمين ولكل من له مصلحة في انتصار الديمقراطية في وطننا والعالم، حقق منجزات غير قابلة للإنكار ضمن الفرص وموازين القوة المتاحة، أنتج دستورا توافقيا وقع عليه 22 حزبا من كل التيارات وصوت عليه ٩٤% من نواب الشعب، استوعب أحدث ما توصلت إليه البشرية في مجال قيم الحداثة السياسية وحقوق الإنسان، وذلك في توافق مع قيم الإسلام الوسطية.
وكان من منجزات هذا المسار المظفر حماية هذا الدستور بمنظومة كاملة من مؤسسات شعبية منتخبة تتولى مهام الرقابة والتعديل، مثل المحكمة الدستورية، وهيئة للعدالة الانتقالية، وهيئة للإعلام ولحقوق الإنسان.
كما أنجز هذا المسار أول انتقال سلمي للسلطة في البلاد وعالم العرب في المستويات التشريعية والحكومية والرئاسية، وذلك عبر تنظيم ثلاثة انتخابات اعترف الجميع بنتائجها، وجرت تحت إشراف هيئة مستقلة منتخبة.
فهل هناك من نجاح يبز هذا النجاح الذي أنجزه المسار الانتقالي التونسي الذي تأسس على نهج الوفاق بديلا عن نهج الصراع والمغالبة والإقصاء الذي كاد في وسط العام ٢٠١٣ يطيح بالمركبة جملة، وذلك في أعقاب الزلزال المصري، لولا ما أقدمت عليه النهضة من تنازلات موجعة بما في ذلك التنازل عن حكومة منتخبة والامتناع عن حق التنافس على الرئاسة إلى جانب تنازلات أخرى في الدستور وفي رفض تمرير مشروع العزل السياسي وإقصاء منتسبي المنظومة السابقة من التنافس السياسي.
فبأي مبرر يقع تبخيس المنجز التونسي الرائع بدعوى عودة النظام القديم! أو الاشتراك معه في حكومة؟
وكيف يلتقي في الدعوة لمقاطعة ممثلي النظام القديم أنصار القوى الثورية الراديكالية والجبهة الشعبية بمكوناتها، رغم أنها كانت إلى وقت قريب لا ترى مشكلا في أن تتعاون معهم إن تعلق الأمر بإخراج النهضة من الحكم أو منعها من العودة إليه؟
“معظم من نجح من الثورات السابقة انتهج نهج الوفاق في اتجاه احتواء النظام السابق في قيم النظام الجديد، وهو ما فعل مانديلا مع أشخاص النظام العنصري، فلم يمارس الانتقام وإنما الاحتواء والسماحة، فانتقل رأس النظام العنصري نائبا أول له”
مقاربة جديدة
لقد قاربت الموضوع إلى هذا المستوى من التحليل انطلاقا من المفهوم الشائع والمتداول للنظام القديم، والذي لا أراه شخصيا معبرا بدقة في اللحظة الراهنة عن شريك أو شركاء في السياسة بات يجمعنا معهم العيش تحت سقف الثورة، بعد أن دخل الجميع -هذا ما نعتقده- تحت سقف الدستور، وهو أهم منجزات الثورة وتاج افتخارها.
وحتى نتجنب السير في الظلام نتساءل ما المقصود بالنظام القديم أو المنظومة القديمة؟
بالتأكيد ليس المقصود الملايين الذين كانوا منخرطين في حزب التجمع/الدستور، ولا منجزات دولة الاستقلال التي نعتز بها ولا دور الدساترة في معركة التحرير الوطني ضد المستعمر الغاشم. ولا نعني أيضا وبالخصوص من كانوا يعملون في نظامه من الكفاءات الوطنية الشريفة والنزيهة.
وإنما المقصود هو قواعد وقيم الحكم وأنظمته، مثل نظام الحزب الواحد والانتخابات المزيفة والإعلام الخشبي والزعيم الأوحد والمال المحتكر في فئة الحكم.. وهي أصنام أسقطتها الثورة وطوى الدستور صفحتها وأرسى بديلا عنها نظاما جديدا أركانه معروفة مقابل سالفتها.
فكل من دخل تحت خيمة الدستور وحكم باسمه فهو من أهل النظام الجديد أيا كان علو موقعه في النظام القديم، ومن ثبت عليه تورط في نهب أو قمع فأمره إلى العدالة الانتقالية وأجهزة القضاء، هذا إذا لم تؤثر الضحية العفو والسماحة، وهو ما ندعو إليه بعد كشف الحقيقة، حتى ينطلق شعبنا إلى المستقبل متخففا من الأحقاد والثارات.
وأقول هنا بوضوح إن حزب النداء ليس هو التجمع، لأن التجمع ينتمي لنظام الحزب الواحد بينما النداء حزب ينتمي للنظام الجديد الذي أرسته الثورة بدستورها الجديد. وبن علي ليس هو الباجي قائد السبسي، لأن الأول جاء بانقلاب وحكم بالعنف، والثاني جاء بانتخابات حرة وأعلن التزامه بدستور الثورة.
هذا ما قلته قبل الانتخابات وشكك في صحته كثيرون، لا أعتقد أنه بإمكانهم الآن وهم يشاهدون الوحدة الوطنية التي يدفع في اتجاهها حزبنا، وجناح قوي في حزب النداء، والتقارب التاريخي المتنامي باطراد بين الإسلاميين والدساترة داخل النداء وخارجه يترسخ كل يوم، القدح في سلامة الخيار الذي دافعت عنه من أجل شراكة تحمي الثورة وتضمن سلامة الانتقال الديمقراطي.
ثمار التوافق
إن ديمقراطية القائمين على أي نظام لا تقوم بلونهم الأيديولوجي، ليبرالي أو اشتراكي قديم أو حديث، إسلامي أو علماني، وإنما بنوع الطريقة التي وصلوا بها إلى سدة الحكم ومدى خضوعهم لسلطة القانون والدستور وحمايتهم للحريات؟
وواضح أن حكام تونس الديمقراطية ملتزمون بالدستور والقانون، ووصلوا إلى سدة الحكم عبر انتخابات حرة، وسيغادرون الكرسي يوم يسحب الشعب ثقته منهم في مواعيد محددة.
نحن في تونس رفضنا كل سبيل للإقصاء والتفريق بين التونسيين، مؤكدين أن كل من دخل تحت خيمة دستورنا فهو منا، مواطنا يتمتع بكل حقوق المواطنة دون تمييز، وإذا تعلقت به قضية عدوان على أحد فهناك القضاء، هناك قانون للعدالة الانتقالية وليست الانتقامية، تقوم عليها هيئة منتخبة، له أن يتوجه إليها، وما عدا ذلك هناك مواطنون يتمتعون بحقوق المواطنة كاملة ومنها حق الترشح لمختلف الوظائف اللائقة بهم.
أسأل الآن في ضوء ما تقدم من تحليل، وأنا أشاهد على أرض الواقع ثمار التوافق الوطني الذي كان ضربا من الخيال أو الحلم الصعب سنة 2013، أشاهد منذ أيام مسيرة وطنية ضد الإرهاب يقودها نداء تونس والنهضة. هل عاد النظام القديم؟
وهل كنّا على خطأ حين راهنا على الوفاق ورفضنا قانون العزل السياسي، ومددنا أيدينا لخصوم الأمس؟
كلا، النظام القديم أطاحت به ثورة سلمية عظيمة أطاحت بأركانه وأصنامه: الحزب الواحد والإعلام الخشبي والزعيم المقدس والانتخابات الزائفة والمال المحتكر في عائلة الحكم. أما الأشخاص الذين كانوا منضوين تحت النظام القديم وهم ملايين فنراهم اليوم تحت لواء دستورنا وذلك أكبر نجاح لثورتنا التي حققت ما عجزت عنه ثورات أخرى تغرق في الدماء والدموع، لأنها اختارت تقسيم المجتمع إلى قديم وجديد، وثوري صادق وثوري زائف.
من الثورة إلى الحرية
كيف فعلت الثورات التي سبقتنا في تعاملها مع القديم؟ معظم من نجح منها انتهج نهج الوفاق في اتجاه احتوائه في قيم النظام الجديد، وهو ما فعل مانديلا مع أشخاص النظام العنصري، فلم يمارس الانتقام وإنما الاحتواء والسماحة، فانتقل رأس النظام العنصري نائبا أول له، وكذا انتقل رؤوس النظام القرشي قادة في جيوش الإسلام، بمنأى من كل انتقام.
“كثيرا ما توقفت عند مشهد “اذهبوا فأنتم الطلقاء” باحثا عن موقع ذلك المشهد الرائع في مشاريع قوانين الإقصاء والانتقام التي اتبعت في أكثر من قطر عربي، من قانون اجتثاث البعث وقانون العزل السياسي.. إلخ”
وإنني كثيرا ما توقفت عند مشهد “اذهبوا فأنتم الطلقاء” باحثا عن موقع ذلك المشهد الرائع في مشاريع قوانين الإقصاء والانتقام التي اتبعت في أكثر من قطر عربي، من قانون اجتثاث البعث وقانون العزل السياسي… وهذا ما حملني على التصدي بكل الوسائل لمشروع تحصين الثورة وفصول الإقصاء في القانون الانتخابي لأنصار الحزب المنحل، وهو ما صنع الاستثناء التونسي وأنقذ بلادنا من الكارثة وصنع الفارق بين الثورة التونسية وبقية الثورات العربية التي تردت في حروب أهلية بسبب الانقسامات والاستقطابات.
إن الحرية إما أن تكون للجميع أو لن تكون لأحد. لقد احتفلت النهضة بنتائج الانتخابات التشريعية رغم أنها نقلتها من المرتبة الأولى إلى الثانية، وهنأنا الحزب الفائز غير آبهين بما قيل عنه من أنه إعادة إنتاج للنظام القديم.
ونحن اليوم في حكومة وحدة وطنية جمعت على أرضية دستور الثورة كل القوى التي رفضت الإقصاء ورضيت التوافق وتعمل من أجل استكمال أهداف ديمقراطيتنا الناشئة في التنمية ومحاربة الإرهاب والفقر والتهميش.
لم نتردد في الاحتفال بنتائج الانتخابات، كما لم نتردد في المشاركة في الحكومة، ولو كانت مشاركة غير مكافئة لوزننا الانتخابي، لأن هدف خطتنا الأول هو نجاح الخيار الديمقراطي أي المحافظة على الحرية رأس مالنا الأعظم، لأنه في الديمقراطية ليس من فائز دائم ولا من خاسر دائم، بل الجميع في الحقيقة فائزون ما دام الجميع يتمتعون بالحرية، بحقوق المواطنة، والحاكم الذي لم يحالفه الفوز لا ينتقل من القصر إلى القبر أو السجن أو المنفى، وإنما إلى مقام آمن فاعل يتهيأ فيه لجولة جديدة مشاركا أو معارضا. قال تعالى ‘”وتلك الأيام نداولها بين الناس”.
المصدر: الجزيرة نت