“في كل مرة يجب علينا الاختيار بين أوروبا والبحار المفتوحة، فإننا سنختار دومًا البحار المفتوحة”، هكذا قال رئيس الوزراء البريطاني السابق وينستون تشرشل ذات مرة للرئيس الفرنسي السابق تشارل ديجول، أثناء معارك الحرب العالمية الثانية، وهي جُملة لطالما استغلها أعداء الاتحاد الأوروبي في بريطانيا للترويج لخروج بلادهم من المشروع الأوروبي، حيث كانت كلمات تشرشل خاصة بأولويات الحرب على الأرض آنذاك، والتي اختلف فيها الزعيمان المعروفان ليس إلا، نظرًا لتوتر علاقتهما.
في الحقيقة، كان تشرشل واحدًا من أبرز المتحمسين لمشروع الاتحاد الأوروبي، بل ودعا إلى ولايات متحدة أوروبية “بدون أي حواجز بين سكانها، وبدون أي قيود على السفر بين ربوعها”، كما قال ذات مرة، ولكنه في مرة ثالثة كان حريصًا في خطاب له بالبرلمان على توضيح المسافة بين الجزر البريطانية وبقية القارة الأوروبية، “نحن مع أوروبا، ولكننا لسنا فيها، مهتمون ومرتبطون بها ولكننا غير مُستَوعبين فيها.”
بريطانيا والاتحاد الأوروبي
يحار المرء إذن في موقف تشرشل من المشروع الأوروبي، والذي يستخدمه أنصار وأعداء البقاء في الاتحاد داخل بريطانيا على السواء هذه الأيام، حيث يحتدم النقاش بخصوص سياسات الاتحاد الأوروبي التي توسّعت على مدار العقد الماضي، وأصبحت تُلزم الدول الأعضاء بالكثير من القوانين بدءًا من القطاع المالي والبنوك، وحتى الزراعة والصيد، وهي قوانين يضعها الاتحاد دون انتخابات مباشرة لمؤسساته، فيما يراه البعض تقويضًا للأسس الديمقراطية.
في هذا السياق، خرج رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون عن صمته عام 2013 بمواجهة أوروبا في سابقة لم تحدث ربما منذ خمسين عامًا، حين قال بأنه يتفاوض مع بروكسل لإعادة صياغة الاتفاقيات التي تربط لندن بالاتحاد، وأنه سيطرح عضوية بريطانيا في الاتحاد للاستفتاء عام 2017 (حال استمر في السلطة بعد انتخابات 2015)، وهو استفتاء يبدو أنه قد يُخرج بريطانيا بالفعل من أوروبا على عكس ما أراد تشرشل، كما يقول أنصار الاتحاد، أو يحقق ما كان ليفعله في الواقع لو عاصر المستشارة الألمانية أنغلا مِركِل، والتي لا تقل علاقتها بكاميرون سوءًا عن علاقة تشرشل بديجول.
على الناحية الأخرى، بظهور حزب استقلال بريطانيا UKIP وزعيمه نايجل فاراج بقوة، وتصدره لانتخابات البرلمان الأوروبي، يبدو أن المعادلة البريطانية نفسها قد تتغير بعد أن ظلت لحوالي قرن مقتصرة على تبادل السلطة بين المحافظين والعمال، وهو تغيّر أقل ما يُقال عنه إنه سيزيد الهوة بين لندن وبروكسل، لاسيما وأن الحزب لا يخفي هدفه الأساسي في إخراج بريطانيا من الاتحاد وتخليصها من أفواج المهاجرين التي تغمرها سنويًا.
ماذا يحدث إذن إذا ترك البريطانيون الاتحاد الأوروبي؟ يقول المتشائمون إنها ستصبح مثل كوريا الشمالية في المنظومة الأسيوية، جزيرة بعيدة ومعزولة وغير قادرة على لعب دورها العالمي المعتاد، في حين يقول المتفائلون إنها ستصبح مثل هونج كونج، مركز ثقل قائم بنفسه، كما كانت على مدار قرون قبل ظهور فكرة الاتحاد.
في الحقيقة، سيكون خروج بريطانيا، المعروف في وسائل الإعلام حاليًا بـ “برِكزيت” (BritishEXIT — BREXIT)، مزيجًا بين هذا وذاك.
بين الاقتصاد والثقافة: بريطانيون لا أوربيون
يعرف كثيرون أن الثقافة الاقتصادية والسياسية في لندن أقرب كثيرًا لنظيرتها في واشنطن منها إلى برلين أو باريس، فالثقافات والفلسفات الأنجلوساكسونية تفضَل هامشًا واسعًا من الحرية وتدخلًا ضئيلًا من المؤسسات، في مقابل ثقافة أوروبية تحبّذ التركيز على حماية الفرد وتزويده بحقوقه أكثر منها اهتمامًا بحريته أو إبداعه، وبينما يركز شعب مثل الألمان على فكرة النظام والتناغم في العمل، فإن الإنجليز والأمريكيين يهمهم النتيجة في النهاية، ولذلك تتسم فلسفتهم، كما هي طريقة لعبهم لكرة القدم، بالبراجماتية، مقابل ميكانيكية الألمان.
بالطبع هناك خلافات بين دول أوروبا وبعضها، خاصة بين دول الشمال ودول المتوسط، وهو ما يجعل حُجة اتحاد اقتصادي قوي دون أي وحدة سياسية أو ثقافية فكرة مناسبة، بيد أن بروكسل منذ سنوات طويلة تحاول بث نوع من الثقافة الأوروبية المشتركة، وشد حبال السلطة السياسية بشكل أكبر نظرًا للأزمة التي تعصف باليورو وازدياد ثِقَل ألمانيا، وهو أمر بالطبع لا يعجب البريطانيين.
أبرز مثال على ذلك هو محاولات خلق هوية أوربية غير موجودة على الأرض، فالاتحاد الأوروبي الآن أصبح له نشيد (وهو عبارة عن مقطع موسيقي لبيتهوفن بدون كلمات نظرًا لتعدد اللغات الأوروبية!) ومحكمة وبنك مركزي، وتجري محاولات لتوحيد كافة البنوك الموجودة في بلدانه، بل ودمج ميزانيات الدول مجتمعة لتجنّب – أو هكذا يعتقد الألمان على الأقل – سوء إدارة الأموال في دول عدة.
على المستوى الرمزي، حاول البرلمان الأوروبي إجبار أندية كرة القدم على وضع نجوم الاتحاد الأوروبي إلى جانب شعارها على الفانلات التي يرتديها اللاعبون، وهي محاولة فشلت في نهاية المطاف، أضف إلى ذلك محاولة “الركوب” على أولمبياد لندن 2012، أو هكذا يراها البريطانيون، عبر طلب تعليق علم الاتحاد الأوروبي في كافة المناسبات الرياضية أثناء استضافة لندن للألعاب باعتبارها بلدًا أوروبيًا، وباعتبار الاستضافة البريطانية تلك أوروبية في نفس الوقت.
بالنسبة للثقافة والتعليم، قامت بروكسل بتطوير كتيّب “لنكتشف أوروبا” لطلاب المدارس، والذي يحاول رسم صورة مختلفة لهويتهم من سن مبكرة، كما قال مدير المطبوعات في المفوضية الأوروبية صراحة، حيث أكد على ضرورة تعرّض الأطفال للدعايا الأوروبية قبل أن تسيطر عليهم رؤى أخرى، وهو يقصد طبعًا الرؤى الثقافية والقومية العادية التي تتسم بها أوروبا منذ قرون، مما يعني ببساطة محاولة تغيير الطابع الثقافي الخاص لكل بلد لصالح هوية أوروبية ملساء بلا عُمق أو معنى، كما يقول منتقدي الاتحاد في بريطانيا، وفي دول كثيرة أخرى مثل فرنسا.
هذه إذًا أسباب عدم التوافق المتزايد بين لندن وبروكسل، ولكن السؤال التالي الآن هو: ماذا يحدث إذا ما خرجت بريطانيا فعلًا من الاتحاد؟
بريطانيا ما بعد أوروبا
إذا ما صوّت البريطانيون لصالح الخروج بالفعل عام 2017، فإن لندن ستحتاج إلى اتخاذ إجراءات لاستيعاب الكثير من التحولات في الداخل، والوصول لترتيبات جديدة بديلة للقوانين الأوروبية مع قطاعات بريطانية واسعة كانت تستفيد منها، وأبرز مثال هنا هو ولايتي وِست ويلز West Wales وكورنوول Cornwall، واللتان تستفيدان من تمويل الاتحاد الأوروبي لصالح التنمية والمشاريع المجتمعية وغيرها، وهو تمويل وصل لحوالي 4.5 مليار إسترليني سنويًا.
بالإضافة لذلك، سيحتاج فلاحو بريطانيا إلى بديل عن الدعم الذي كانوا يحصلون عليه بموجب السياسة الأوروبية الزراعية المشتركة، وهو ما يعني أنهم سيواجهون منافسة عنيفة في السوق من نظرائهم داخل أوروبا إذا ما لم تعطهم بريطانيا بديلًا للدعم الأوروبي، وهو بديل لا يبدو أنه سيمر بسهولة إذ تعترض عليه بعض أحزاب اليمين التي ترى في ذلك تدخلًا من الدولة في الاقتصاد، أيضًا، سيحتاج أصحاب المصانع إلى الاحتفاظ بنظام موحّد للمعايير مع السوق الأوروبية حتى بعد خروج بلادهم من الاتحاد ليستطيعوا الحفاظ على نفس مستوى الجودة، ويتمكنوا من تصدير منتجاتهم إلى بلدان أوروبا بسهولة كما يفعلون الآن.
النقطة الأبرز والأكثر سخونة ستكون في العمالة الأجنبية القادمة من شرق أوروبا، والتي تنتقل إلى بريطانيا بسهولة نتيجة وجودها في الاتحاد، حيث يقول أعداء أوروبا في بريطانيا إن لها أثر سلبي على البلاد، ثقافيًا بكونهم غريبين عنها، واقتصاديًا نظرًا لمنافستهم للبريطانيين على الوظائف، ورفعهم لأسعار العقارات والسلع، لذلك، التخلّص من هؤلاء، أو الحد من وفودهم على الأقل، يُعَد هدفًا رئيسيًا من الخروج من الاتحاد بالنسبة لحزب مثل استقلال بريطانيا، وهو إجراء سيُقلِق كافة الشركات ورواد الأعمال الذين يعتمدون على تلك العمالة الرخيصة في تخفيض التكاليف.
بالمثل، سيصبح البريطانيون الموجودون في بلدان أوروبا في ليلة وضحاها مهاجرين غير شرعيين، وستصبح صادرات بريطانيا عُرضة لقيود السوق الأوروبية باعتبارها دولة خارج الاتحاد، حيث يمكن فرض ضرائب عليها، كما سيكون دخول رأس المال الأوروبي إلى السوق البريطاني أصعب من ذي قبل، وهو ما سيؤثر بالطبع على الاقتصاد وقد يزيد الأوضاع المالية تدهورًا، لاسيما وأن القطاع المالي البريطاني لم يتعاف بالكامل من أزمة 2008.
على صعيد آخر، لا يبدو أن بريطانيا ستتراجع بالكامل كدولة هامشية نظرًا لقوتها كاتحاد منفصل، فلندن هي واحدة من أبرز المراكز المالية والاقتصادية في العالم، كما أنها ستوفر بخروجها 8 مليارات إسترليني تدفعها سنويًا للاتحاد الأوروبي لتمويل ميزانيته، وستستطيع إنفاق تلك الأموال في الداخل، أضف إلى ذلك أن بريطانيا تملك القدرة على تعزيز الروابط مع دول الكومنوولث، والتي سترحب بالدور البريطاني، لاسيما كندا وأستراليا والهند، كما تملك تحويل قبلتها الاقتصادية والسياسية نحو الولايات المتحدة بشكل أكبر.
ومع ذلك، وعلى عكس ما يعتقد كثيرون، وبحُكم وجودها جغرافيًا في القارة الأوروبية في نهاية الأمر، ستبدأ بريطانيا مفاوضات طويلة لإيجاد صيغة جديدة للتعايش مع بروكسل، والحل المُتاح والأبرز حاليًا هو الخروج من الاتحاد مع البقاء داخل المنطقة الاقتصادية الأوروبية، والتي تضم النرويج، وهي مُهنَدَسة خصيصًا للدول التي رفضت عضوية الاتحاد واليورو، ولكن لا تريد أن يتم معاملتها ومواطنيها وشركاتها كبلد أجنبي مثله مثل الصين أو الهند يخضع للجمارك، وهو ما سيعطي المال البريطاني سهولة التواجد في سوق أوروبا دون التقيّد بسياساتها، أما الحل الثاني فهو بلورة اتفاقية ثنائية بين لندن وبروكسل مثل تلك التي تملكها سويسرا غير العضوة هي الأخرى.
***
ما إذا كانت بريطانيا ستخرج من الاتحاد أم لا هي مسألة ستكشف عنها السنوات القليلة المقبلة، ولكنه يبدو سيناريو مرجحًا بقوة نظرًا لتزايد رواج الفكرة بين البريطانيين، وعدم وجود أي رغبة في بروكسل أو برلين في منح بريطانيا المزيد من المرونة في عضويتها الأوروبية.