إن عرّفنا الديمقراطية بجوهر تمثيل الناس , لا باستنساخ إجراءات و قوانين و زرعها في بيئة غير بيئتها , و هذا ينطبق على شكل من الديمقراطية الليبرالية و الحزبية , و ليس انتقاداً لجوهر الديمقراطية , و الديمقراطية كمصطلح ليس مقدّساً و لا مطلوباً بحدّ ذاته و بالبداهة ليس مرفوضاً لنفسه كذلك , فالمهمّ هو جوهر تمثيل الأمّة و منع استبداد الفرد , و يمكن تطوير نظامٍ من الإجراءات انطلاقاً من مبدأ الشورى الذي لم يتطوّر عنه أيّ نظام بعد , ولا مشاحة في الاصطلاح .
لكن انتقاد الديمقراطية الذي يعلّق رفضه للديمقراطية على نقطة الانتخاب و التمثيل فيها بالذات , و يعمّم رفضه باعتبارها كفراً و يسحب ذلك على جوهرها و إجراءاتها و نتائجها , بحيث يصبح تخيّل أيّ اختيار للناس و إقرار بمرجعيّتهم مرفوضاً لأنّه ديمقراطي و الديمقراطية كفر , , هو تعميم متهافت و ايديولوجي بمعنى الايديولوجية الشعاراتية و التي تقدم وعياً زائفاً , و يغيّر النظر عن حقائق الأمور و تفصيلاتها , و يعيدنا لذات نقاش علي بن أبي طالب مع الخوارج , ولا حلّ بهذا الرفض الذي يسحب رفضه لاستيراد نموذج غربي إلى رفض فكرة حقّ الناس في الحكم و تمثيل أنفسهم إلّا بالانتصار للاستبداد و الحكم القهري و تخيّل أنّ هذه هي الطريقة الإسلامية في الحكم , لكن الخلاف فقط حول صلاح هذا المستبدّ أو فساده .
و هذا اختزال و تشويه للإسلام , حين يصوّر كنصير للاستبداد و مانع لاختيار الناس حاكمهم , و تجاوز لا للقرآن و السنّة و تراث الفقه السياسي الضخم و حسب , و إنّما تجاوز للمسلمين أنفسهم , و اعتبارهم مجرّد مواضيع للحاكم الذي يضحي محلّ الشرعيّة الإسلامية و الأمّة مجرّد موضوع تابع له , و هذا التجاوز في مآله ينزع التكليف عنهم الذي كانو ا به مسلمين قبل كلّ شيء , أي أنّه ينزع الإسلام عن المسلمين و يضعه في الحاكم وحده , بحيث يكون هو المسلم الوحيد حقّاً .
أحاديث قليلة في السنّة تلك التي تتكلّم عن الحكّام , بينما كان الخطاب موجّهاً في تطبيق الإسلام دوماً إلى المسلمين , الذين هم محلّ تحقيق “الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر” , و هم الذين لا يجتمعون على خطأ , و هم الذين يكونون شهوداً على العالم يوم القيامة .
و حتى في مرحلة “الملك” التي تلت “الخلافة” لم يستطع الفقهاء السياسيّون -رغم سيادة آليّات التوريث في الحكم و هيمنة العائلة على الدولة المهيمنة بدورها على القوّة و القدرة على العنف- إلّا تأكيد مرجعيّة الأمّة كشرط أوّل في تنصيب الحاكم لا شرعيّة للحاكم دونه , و ذلك بشرط البيعة و إجماعهم على أنّ الحكم لا ينعقد بالوراثة –كما يقول ابن حزم- و إنّما بموافقة الناس و بيعتهم للحاكم , مع محاولتهم وضع أسس قانونيّة تحتوي النظام السياسي القائم و تضع حدوداً له بدل أن ينفلت في فوضى لا حدود فيها , لم تكن مؤلّفات الفقه السياسي شرعنةً للاستبداد و فساد النظام السياسي بقدر ما نبعت من شعور بالمسؤوليّة الأخلاقيّة عن وضع أساس قانوني للدولة يحافظ على شرعيّتها و يمنعها باعتبارها شرعيّة من أن تنفلت عن المحدّدات الشرعيّة و تأخذ مدى أوسع في الاستبداد و القهر إن ظنّت أنّها في وضع فوضى ولا شرعيّة فيجوز ان تفعل أيّ شيء , فلم تكن تنفصل النبرة الوعظيّة النقديّة في التأليف السياسي عن النبرة الفقهيّة التنظيميّة , و هذا أحد الأمثلة الأهمّ لطبيعة التشريع الإسلامي و حداثته الدائمة بطبيعة مهمّته في احتواء الوضع القائم و وضع حدود قانونيّة له و إصلاحه من خلال ذلك , و هذا التشريع (المرجعية القانونية و القضائيّة ) لم يكن يوماً في ملك الدولة و إنّما
استمرّ إعادة إنتاج الأمّة لنفسها قانونيّاً في حيّز العلماء , أي في حيّز الأمّة أو الشعب , دون تعميم ذلك على مجمل العلماء , باعتبار اختلاف سياق العلاقات بين المؤسسة السياسية و المؤسسة الدينية و التيارات المختلفة الممثّلة لها في أزمنة التاريخ الإسلامي العديدة , و هذا بحثٌ واسع .
إنّ انتقاد أحد أشكال الديمقراطية , كما هو انتقاد دستور حزب التحرير أو فهم القاعدة لموضوع الدولة مثلاً , أو غيرها من تصوّرات النظام السياسي , ينبغي أن تكون انتقاداً لتفصيلات انحرافها عن تمثيل الأمّة و تحقيق مقاصد الإسلام في العدل و حفظ الحياة و الإصلاح و إعمار الأرض و تحقيق شرع الله حقّاً , لا انتقاداً شعاراتيّاً سطحيّاً ولا معرفيّاً يعيدنا لمعركة الشعارات بدلاً من جوهر النقاش المطلوب في بحث النظم و الإجراءات , و بناء تجربتنا الخاصّة لا التكرار السطحي لمصطلحات كالخلافة أو العلمانية أو الديمقراطية أو أهل الحل و العقد أو غيرها دون فهمٍ لمضامينها أو استيعاب لعلّة رفضنا أو قبولنا بها .
إنّ الديمقراطيّة إن عنينا بها تمثيل الأمّة و منع استبداد الفرد , فيها من الإسلام أكثر ممّا فيها ضدّه حتى لو اخترنا اسماً آخر لهذه الإجراءات , ولا يقبل الإسلام أيّ حكم يهمّش فيه اختيار الناس و يُفرض بمعزلٍ عن إرادتهم و قهراً فوقهم , و إلّا كان علينا أن نمسح آيات العدل و خطاب الأمّة في القرآن , و ألّا ندّعي كون الإسلام دين كرامة الإنسان و إعمار الأرض .
لكن الإسلام يرفض الديمقراطية التي تمثّل شكلاً من الحكم القهري على الناس حين لا تكون مجرّد إجراءات ناظمة للتمثيل الحقيقيّ و إنّما تفرض معها نخبتها و مآلاتها و قوانينها و نموذجها الوافد المستورد باعتبارها إجراءً خاصّاً بنخبة اقتصاديّة أو ثقافيّة أو سياسيّة , و رفض الإسلام لهذا الشكل المستورد من الديمقراطية هو لذات العلّة التي يرفض لأجلها الاستبداد , و لا يمكن لأحد نسيان خمسين عاماً من الديكتاتوريات المدعّمة بسلسلة من مصطلحات الحداثة و العلمنة و التنوير و حتى الديمقراطية , و لم تفرز لنا سوى عقود من القهر و تشويه التاريخ , لأنّها فرضت نفسها كعدوّ لهويّة الناس و انتمائهم الإسلامي قبل أيّ سبب آخر , الأمر نفسه الذي تحاول بعض الحركات الإسلاميّة الآن تكراره دون وعي … أو بوعي .
ليس مطلوباً القبول بالديمقراطية ولا رفضها , المطلوب تجاوز رُهاب المصطلحات , و الاتفاق على أنّ تمثيل الأمّة و مرجعيّتها في الحكم شرطٌ إسلاميّ أصيل ليكون الحكم شرعيّاً , و الإقرار بأنّ سياق كلّ مجتمع و زمنٍ يحتاج نظاماً للوصول إلى هذا التمثيل مختلفاً عن غيره , و أنّ استيراد النظم لمجرّد غربيّتها و رفضها لذات العلّة كلاهما ينطلق من موقف هزيمة حضاريّة لا من موقع الثقة و القدرة على تبيئة إنجازات الآخرين إن كان ممكناً الإفادة منها في مشروعنا الذاتيّ خاصّة ما دمنا متجاوزين القلق الهويّاتي المصطنع و ما دامت هذه التجارب – في غير مصطلحاتها – لم تعد إنجازات الآخرين حقّاً .
و لسنا ملزمين باستيراد أيّ نموذج بكامل علله بقدر ما المطلوب الإفادة من نظامٍ إجرائيّ لتحقيق غاية تمثيل الأمّة و تحقيق نظامٍ من العدالة مانعٍ للاستبداد , حين تكون هذه الإجراءات مفيدةً حقّاً , دون أن يتعارض ذلك مع أنّ نموذج الحكم و محدّداته و شروطه و أسس التشريع و مصدره و غاياته هو نموذجنا و بمرجعيتنا الخاصّة , ما دمنا على أرضيّة واثقة و صلبة و مكتملة الرؤية , ولا يهدّدها الإفادة من إنجازات إجرائيّة حداثيّة ما دمنا نعيش في هذا العالم لا منعزلين عنه و ما دام رفضها لمجرّد حداثتها انطلاقاً من توثين للحداثة أيضاً .
خطب عمر بن الخطاب : “إنه بلغني أن قائلاً منكم يقول و الله لو قد مات عمر بايعتُ فلاناً , فلا يغترّنّ امرؤ أن يقول إنما كانت بيعة أبي بكر فلتةً و تمّت , ألا و إنّها قد كانت كذلك ولكن الله وقى شرّها , و ليس منكم من تقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر , من بايع رجلاً عن غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا ”
قال ابن الأثير : “و فى الكلام مضاف محذوف تقديره : خوف تغرة أن يقتلا , أي خوف وقوعهما في القتل