ترجمة وتحرير نون بوست
بعد حوالي قرن ونصف من شروع الخديوي إسماعيل ببناء العاصمة على النمط الأوروبي، يبدو أن القاهرة على استعداد اليوم مرة جديدة إلى جولة أخرى من التحديث، ولكنه هذه المرة تحديثها مستوحى من المدينة الخليجية الجذابة دبي.
على الرغم من أن الخديوي قام بنقل العاصمة مجازياً ومادياً باتجاه الغرب، بيد أن الخطة الآن تتمثل بنقل العاصمة إلى الشرق الصحراوي، في تشبّه ملموس لمدن الخليج الغنية بالنفط.
والفكرة الراديكالية تتلخص هنا بالكيفية التي يتم بها صياغة تاريخ مصر العمراني -مثلها مثل العديد من الدول- من خلال التطورات السياسية والاقتصادية، جنباً إلى جنب مع المواقف الدولية والهوية السياسية.
زار إسماعيل باشا باريس بهدف حضور المعرض العالمي في عام 1867، وهناك أُعجب بالتحديث الهائل في العاصمة الفرنسية وبالثورة المعمارية الفريدة، حيث أعلن: “على مدى السنوات الـ 30 الماضية عمل تأثير أوروبا على تحويل القاهرة، الآن أصبحنا متحضرين”.
هكذا كانت رؤية حاكم مصر، وهو رؤية شاركه فيها إلى درجة كبيرة نخبة الأعيان في البلاد، والتي كانت تنظر إلى أوروبا كمرجع للحضارة في الوقت الذي كانت تتراجع فيه قوة الإمبراطورية العثمانية.
قام الخديوي باستقدام بعض الابتكارات التقنية التي اشتدت الحاجة إليها إلى القاهرة، وشملت هذه التحديثات اقتباس البنية التحتية الحديثة ونظام السكك الحديدية الواسعة لربط العاصمة مع المدن، حيث استوحى الخديوي رؤيته للمدينة من رؤية البارون هوسمان لباريس، وصمم على تحويل القاهرة إلى ما أسماه المؤرخ أندريه ريمون “منافس جدير للعواصم الأوروبية الكبيرة”.
لم يقم الخديوي بهدف تحقيق رؤيته للعاصمة الجديدة بترميم المدينة القديمة، وهي المكان الذي كان يقطن فيه حكام مصر منذ عهد صلاح الدين في القلعة العائدة للقرن الثاني عشر، بل شرع إسماعيل الذي تلقى تعليماً فرنسياً ببناء عاصمة جديدة بذات حجم القاهرة تقريباً، وساعده على ذلك الاقتصاد المزدهر، بفضل ارتفاع أسعار القطن وقرب افتتاح قناة السويس.
المدينة الجديدة التي أصبحت معروفة الآن باسم الإسماعيلية، استلهمت عمارتها وشكلها من طراز هوسمان، ويتضح ذلك كما يقول المؤرخ ريمون “بشبكة الطرقات الواسعة والمستقيمة التي توصل عشرات الساحات ببعضها”، والتي أصبحت اليوم شرايين وسط المدينة – قصر النيل وسليمان باشا وقصر العيني –، وجميع هذه الطرقات تم التخطيط لها في عهد الخديوي اسماعيل.
ضم الحي الجديد جميع المباني الحكومية الجديدة، كما تم بناء مسرح ضمنه ودار أوبرا ومتحف وحدائق فخمة والعديد من القصور التي أراد إسماعيل أن يعرضها على كبار شخصيات العالم عند افتتاح قناة السويس عام 1869، وهذه المرافق المترفة كانت بحاجة كما يقول الصحفي ماكس رودنبيك في كتابه القاهرة المدينة المنتصرة إلى “ساحات مفتوحة مزينة بتماثيل الأبطال، وطرقات مضاءة بفوانيس الغاز على طول القصور والفيلات، وحدائق مع مغاور وأجنحة صينية وبحيرات متعة تموج بالزوارق”.
ولكن هذه السلسلة من التطورات والتحديثات أدت إلى وقوع مصر في أزمة ديون مع القوى الأوروبية، وهذه الأزمة المالية أدت إلى نفي إسماعيل في عام 1879، وعندما قدم الاحتلال البريطاني لمصر 1882-1954، لم يقدم الكثير لقاهرة الخديوي، ولكن العاصمة التي بُنيت على غرار الطراز المعماري الأوروبي استمرت لأنها أصبحت موطناً للنخبة المحلية أو العالمية الثرية ضمن البلاد.
تم تطوير المدينة على مدى 72 عاماً من الاحتلال البريطاني لتشمل بعض الأحياء التي تستخدم أساليب العمارة الإسلامية والمملوكية في نهاية القرن الـ 19 وبداية القرن 20 من قبل المهندسين المعماريين الأوروبيين والمصريين، وفي حوالي عام 1925 تم استخدام طراز آرت ديكو المعماري، الذي كان منتشراً في ذلك الوقت، وهو النمط السائد فيما تبقى من وسط القاهرة اليوم.
أما اليوم، وإذا تم تنفيذ الخطط الحالية التي وصفها المسؤولون بأنها خطة لبناء العاصمة الإدارية الجديدة، فإن هذه العاصمة ستقع على بعد 50 كيلومتراً إلى شرق العاصمة الحالية، ومن المخطط أن يتم بنائها على مساحة 490 كم مربع خلال فترة خمس سنوات.
المشروع الذي لم يتم الكشف عن اسمه بعد، تم كشف النقاب عنه في منتجع البحر الأحمر في شرم الشيخ في وقت سابق من هذا الأسبوع، حيث تُبيّن نماذجه التي تم طرحها التخطيط لبناء ناطحات السحاب بواجهات عاكسة، ومسلة فرعونية مصنوعة من الزجاج ومضاءة داخلياً ترتفع على علو شاهق فوق المدينة الجديدة الأرجوانية اللون، والمسؤول عن بناء العاصمة الجديدة هو رجل الأعمال الثري الإماراتي، الذي قامت شركته ببناء أطول برج في العالم في دبي، وتشير الأرقام أن تكلفة مشروع العاصمة الجديدة تصل إلى 45 مليار دولار.
المعلومات حول العاصمة الجديدة مازالت ضئيلة جداً، وفي هذه المرحلة المبكرة لا يوجد أي ضمانات على تنفيذ المشروع من عدمه، ولكن حتى لو لم يتم بناء العاصمة الجديدة، فإن الحقيقة الدامغة هي أن مدينة دبي أصبحت الآن مرجعاً للحداثة والذوق.
يقول أحمد البندري وهو مؤرخ معماري ومصور “الواقع يفرض نفسه والأذواق تتغير، فسنوات مجد القاهرة قد ولّت، ومراكز التسوق على الطراز الخليجي أصبحت شعبية، وهذا يعني ضرورة بنائها، حتى لو كان وجودها محدوداً على جزء فقط من المصريين” ولكن السؤال الذي يطرح نفسه، هل تحتاج القاهرة حقاً إلى أطول ناطحة سحاب أو إلى أكبر مدينة ألعاب في العالم؟
الجواب على هذه الحقيقة يترك الكثير من المصريين منقسمين، بين معجب بالنموذج العربي المعولم، وبين رافض لهوس التفوق، كما أن هذا الواقع فرض مساحة من الخوف من أن القاهرة الحالية بأهراماتها وعصورها التاريخية الإسلامية والقبطية والاستعمارية وفن هذه الحقبات المعماري، سيتم الآن هجره وتركه لينهار.
تقول أمينة البندري أستاذة تاريخ الشرق الأوسط في الجامعة الأمريكية في القاهرة “إن مدن الخليج نفسها هي نسخة عن تصوّر الغرب للمدن الحديثة، واعتراضي ليس على استعمال النموذج الخليجي في العاصمة الجديدة، ولكن القلق ينبع من كون هذا النموذج موجه نحو الاستهلاك؛ ففي الخليج لديهم طرق واسعة وسيارات مكيّفة ونفط رخيص، وهذه كماليات تنقصنا هنا في مصر، فالسلوك الشعبي العام ما بين الدولتين مختلف”.
على مدى العقد الماضي هيمن منطق التوسع العمراني خارج العاصمة على الفكر السائد، مما أدى إلى انتقال قطاعات كبيرة من الطبقة المتوسطة والغنية المصرية إلى مجتمعات مغلقة في المدن التابعة لشمال وشرق القاهرة، وشجعت السياسات الليبرالية الجديدة التي اعتمدها نظام مبارك خلال سنواته العشر الأخيرة من هذا الاتجاه، كما سعى نظام مبارك إلى جذب المستثمرين الخليجيين لتغذية هذا المنهج، حيث تم اقتراح فكرة العاصمة الجديدة أيضاً خلال فترة حكم مبارك، ولكن تم اعتراض هذا المشروع وتوقف إثر ثورة يناير لعام 2011.
نموذج الحداثة العمرانية، والمرافق ذات التقنية العالية، ورغد العيش ضمن مجتمع منظم، هي عبارة عن أفكار جالت في المخيلة الجماعية للجمهور المصري، ولكن غاب عن الأذهان أن مدن الخليج التي تشبه دبي هي نتاج لأنماط الهجرة الجارية منذ عقود طويلة، والتي يبحث الأشخاص من خلالها عن ظروف عمل ومعيشة أفضل في دول الخليج الغنية بالنفط.
خلال العقود الماضية أرسل الملايين من المصريين العاملين في الخليج مليارات الدولارات على شكل حوالات نقدية إلى مصر، كما جلبوا معهم إلى الوطن قيم وأذواق ومعايير ثقافية جديدة استقوها من بلدانهم المضيفة، حيث يقول ديفيد سيمز المخطط الاقتصادي والعمراني الذي عاش في مصر منذ عام 1973 “جزء كبير من النخبة المصرية الحالية عاش في الخليج، ومن المنطقي أن تعجبهم مدن مثل دبي، حيث قد يفضلونها على نيويورك على سبيل المثال، لأن نمطها عصري ومألوف لهم بذات الوقت”، والجدير بالذكر أن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي -وهو أكبر دعاة العاصمة الجديدة- عاش في المملكة العربية السعودية مسبقاً، حيث كان يعمل ملحقاً عسكرياً في السفارة المصرية، ويضيف سيمز “الخليج أيضاً هو مورد المال، 80% من الاستثمارات الأجنبية في مصر قادمة من الخليج، وليس من الولايات المتحدة أو أوروبا، لذا هذا النمط العمراني يعتبر جزء من الإستراتيجية الوطنية”.
تشير المهندسة المعمارية أمنية عبد البر التي تخرجت من كلية الفنون الجميلة في عام 2000، أن ثلاثة أرباع خريجي دفعتها يعملون الآن في دبي، لأنهم لم يعثروا على وظائف لهم في مصر، وعندما توظفت أمنية في شركة معمارية، كان كل العمل الذي تقدمه موجه إلى مشاريع في منطقة الخليج، حيث تقول “إن مصممي هذه المشاريع هم غربيون، ولكن يوجد نسبة جيدة من المهندسين المشرفين على الأعمال من الجنسية المصرية، حيث صاغ هؤلاء خبراتهم المعمارية من خلال هذه النماذج الدولية الحديثة”، وتابعت بقولها “على مدى عقود، جاء أفضل المهندسين المعماريين والمقاولين في العالم إلى مصر، وتركوا بصماتهم الحضارية على مباني لا تقدر الآن بثمن، ولكن حالياً دبي هي مرجعيتنا، ولكننا لا نحتاج لدبي، فهذه هي القاهرة!”.
المصدر: الأهرام ويكلي