ترجمة وتحرير نون بوست
بعد ظهر يوم مشمس في فصل الشتاء، التقيت بفلاديمير تولستوي، حفيد الروائي الروسي الكبير ليو تولستوي، فلاديمير هو مستشار الشؤون الثقافية للرئيس فلاديمير بوتين، وقبيل وصولنا إلى مكان اللقاء مشى تولستوي ضمن طريق تصطف على جانبيه أشجار البتولا، هذا الطريق الذي يؤدي إلى مجمع العائلة الريفي حيث كتب جده روايتي “الحرب والسلام” و”آنا كارنينا”، أما الآن فقد أصبح هذا المكان متحفًا تابعًا للدولة، وفي كل خطوة كان يقترب فيها من منزل أسلافه، كان الموظفون يستقبلونه بتحياتهم الحارة.
“مساء الخير”، قال تولستوي بابتسامة دافئة، “مساء الخير”، أجابه موظفو المتحف، وابتدرت إحدى الموظفات بالقول “فضلًا، أرسل تحياتنا الطيبة لقيصرنا، وقل له إننا نحترمه كثيرًا”، ورد عليها تولستوي بإيماءة مرحة.
هذا المشهد الودي والبرجوازي الذي دار على قطعة الأرض التي تبعد نحو 125 ميلًا جنوب موسكو، يعبر عن المزاج العام في روسيا اليوم، حيث يعتبر بوتين بأنه القيصر، وخصوصًا خارج المدن الكبيرة، وذلك حتى في ظل انتقاد المثقفين الليبراليين له، كما يعكس هذا المشهد الفوائد التي تعود على بوتين إثر اكتساب دعم أحد أفراد عائلة شهيرة في روسيا، في الوقت الذي يواصل فيه بوتين تشجيع سياسة الفخر الوطني.
منذ أن تم تعيينه في منصبه من قِبل بوتين في عام 2012، برز تولستوي (52 عامًا) كوجه توفيقي ووسطي، حيث ساعدته ثقافته العالية ووديته بالتعامل على تحسين سياسة الكرملين الثقافية الموجهة للغرب، وذلك على الرغم من أنه يعمل تحت إدارة وزير الثقافة المتعصب فلاديمير ميدنسكي، بيد أنه يختلف مع اتجاهات الأخير المعروف بإصراره العدواني على التفوق الروسي والقيم المحافظة الروسية.
تولستوي كان يعمل على إقناع المسؤولين على التخلي عن مشروع وزارة الثقافة الذي تم تسريبه العام الماضي والذي يقول إن “روسيا ليست جزءًا من أوروبا”، ولكنه بذات الوقت – مثل معظم الروس – مؤيد حتى النخاع للغزو الروسي لشبه جزيرة القرم وقرارها بضم الجزيرة لروسيا، كون أغلب الروسيين يعتقدون أنه لم يكن ينبغي التنازل عن هذه الأرض لأوكرانيا من قبل خروشوف في عام 1954.
“ليو تولستوي كان ضابطًا في الجيش الروسي، ودافع عن روسيا في سيفاستوبول” قال تولستوي وهو يتحدث معنا من خلال مترجم ونحن نشرب الشاي في مقهى بالقرب من المتحف، وأضاف “بالنسبة لنا، وفي أذهاننا، هذه المنطقة كانت دائمًا روسية”، حيث كان يشير إلى حصار سيفاستوبول في 1854-1855 في حرب القرم، التي خاضت فيها روسيا حربًا مع قوات التحالف المؤلفة من فرنسا وبريطانيا وسردينيا والإمبراطورية العثمانية، وخسرت في النهاية السيطرة على القرم، ويضيف تولستوي “باعتباري من نسل الضابط الروسي ليو تولستوي، لا يمكن أن يكون موقفي تجاه قضية القرم مختلف عن هذا الموقف”.
نشأ تولستوي في عائلة من الطبقة المتوسطة في منطقة موسكو، وهو خريج كلية الصحافة في موسكو، وعمل ضمن المجال الصحفي، وفي عام 1994، تم تعيينه مدير متحف يسنايا بوليانا، حيث يقع منزل الروائي تولستوي الريفي الذي تمت المحافظة عليه كما كان عند وفاته في عام 1910، وفي قلب المزارع والبساتين في تلك المنطقة يقبع قبر تولستوي في واد صغير منعزل حيث تم دفنه إلى جانب شقيقه الأكبر الذي توفي شابًا.
عمل تولستوي على تحسين نوعية أنشطة المتحف، حيث أضاف له المحاضرات، كما افتتح جائزة أدبية ضمنه، وصفوفًا لتعليم اللغة الروسية، وبعد أن تم تعيينه مستشارًا لبوتين، تم تعيين زوجته إيكاترينا تولستايا كمديرة للمتحف.
يشير تولستوي أن بوتين عرض عليه وظيفة المستشار بعد اجتماع له مع مدراء المتحف في أبريل 2012، حيث انتقد تولستوي إستراتيجية الحكومة الثقافية وإستراتيجية المجلس الثقافي الاستشاري للرئيس ووصفها بأنها إستراتيجية غير فعّالة، وعندما انتهت المقابلة، طلب الرئيس منه البقاء وعرض عليه أن يعمل كمستشار ثقافي له حتى يستطيع العمل بشكل أفضل، وحاليًا يعمل تولستوي على إطلاع بوتين على القضايا الثقافية ويعمل كصلة وصل بين العالم الثقافي الروسي والكرملين.
بعد ظهر اليوم كان تولستوي يرتب متطلبات جنازة الكاتب فلاديمير راسبوتين في ايركوتسك في سيبيريا، الذي توفي الأسبوع الماضي عن عمر يناهز الـ 77 عامًا، حيث سيتم دفنه – وفق ما طلب – في مسقط رأسه في ايركوتسك، وأشار تولستوي أنه يعتبر راسبوتين كأفضل كاتب في النصف قرن الماضي، حيث كان يُعرف بتصويره الحي للدمار البيئي الناجم عن ثورة الصناعة التي دخلت إلى المناطق الريفية في روسيا، كما أن راسبوتين معروف بمواقفه المحافظة، حيث دعا إلى محاكمة فرقة بوسي ريوت المنحلة أخلاقيًا بعد أدائها الاستفزازي في كنيسة موسكو، وشن هجومًا حادًا على البيريسترويكا “إعادة البناء”، وهي حركة متحررة بدأت منذ عهد ميخائيل غورباتشوف قبل تفكك الاتحاد السوفييتي.
منذ وقت ليس ببعيد، انتشرت في روسيا فكرة أن الدولة فقدت بوصلتها بطريقة أو بأخرى بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، ولكن تولستوي وبعض الموالين لبوتين نجحوا في إحياء الشعور بالفخر الوطني من خلال السياسة الثقافية، وعن طريق الاسترشاد بنصائح تولستوي، قامت لجنة مكونة من شخصيات ثقافية بارزة ومسؤولين حكوميين بوضع وثيقة سياسة عامة مؤلفة من 18 صفحة تقوم بتعريف الثقافة الروسية بشكل موسع، ويوضح القائمون على هذه الوثيقة أن لها قيمة كبيرة لروسيا، حيث تشرح المبادئ الأخلاقية وأهمية الدين في تشكيل القيم ومكانة اللغة الروسية وقدرتها على توحيد أكثر من 140 مليون شخص من أعراق متنوعة ضمن بلد واحد، كما تسلط الوثيقة الضوء على تميّز روسيا باعتبارها دولة توحد عالمين مختلفين، الشرق والغرب.
انتقدت بعض الشخصيات الثقافية هذه الوثيقة لعدم تصديها لنفوذ التلفزيون الحكومي الروسي، الذي يعمل بمثابة بوق للكرملين، وكثيرون لم يهتموا بها، واعتبروها مجرد كلام جامد، حيث يقول المخرج كيريل رازلوجوف عن الوثيقة “إنها متجردة عن الواقع لأبعد الحدود، وكأنها نص من الكتاب المقدس”.
ولكن بغض النظر عن هذه الوثيقة، يمكن القول إن القرارات الأكثر واقعية وتأثيرًا على الثقافة الروسية التي تم اتخاذها في الفترة الأخيرة، تتمثل بالقانون الذي يحظر الألفاظ الفاحشة في المسرح والأفلام والعروض العامة، أو القانون الذي يجرّم انتقاد المؤمنين بالدين، وكلاهما صدرا بعد سجن أعضاء فرقة بوسي ريوت في عام 2012.
وبالنسبة لتولستوي فإنه يتفق مع الاتجاه العام الروسي، ولكنه ينتهج مسلكًا أكثر تسامحًا، حيث يقول “أعتقد أن كل شيء له الحق في أن يكون مباحًا، إلا إذا كان استفزازيًا، وأعتقد أن الفن لا يجب أن يكون مسيئًا”، وعند سؤاله عن فرقة بوسي ريوت أجاب “أنا لا أؤيدهم، ولكن من ناحية أخرى أعتقد أن رد الفعل تجاههم كان غير مناسب، فلا ينبغي أن تعاقب فنانًا في المحكمة”.
يصف تولستوي نفسه على أنه شخصية معتدلة وقادرة على إيجاد توازن بين التقليديين والليبراليين الغربيين، فهو يرى أن روسيا منفتحة للتعاون، ولكنها بذات الوقت لديها وجهة نظرها الخاصة حول الخير والشر.
يبدو أن تولستوي محترم عمومًا من قِبل المثقفين الروسيين، حيث يقول الكاتب فيكتور يروفييف المشهور بانتقاده لبوتين، إن تولستوي هو رجل ذكي، ولكنه ينتقده لأنه يعكس ويتبنى وجهة النظر المتزايدة منذ إعادة انتخاب بوتين في عام 2012 والتي تتمثل بالنظر إلى روسيا على أنها أنقى بطريقة أو بأخرى من الغرب، حيث يقول “إنهم يعتقدون ذلك حقًا، والموضوع مختلف عن فترات الحكم الشيوعية عندما كان الناس يقولون نحن نحب الشيوعية ولكننا لا نؤمن بها، فحاليًا يتم التركيز على فكرة روسيا بطريقة أكثر إلحاحًا، فهم يرون أن روسيا لاتزال دولة ثقافية كبيرة، وأنها بلد العلاقات الإنسانية والصداقة والحب وهلم جرًا، وهذا هو السبب في أنهم يرون أن روسيا أفضل من الغرب”.
وبالرجوع مرة أخرى إلى المقهى الذي كنا نجلس فيه مع تولستوي، كان الأخير متحمسًا عند حديثه عن الكبرياء الروسي، حيث قال “روسيا اليوم لا يمكن إجبارها على فعل ما لا تريده، ومن المستحيل إجبارها على ذلك سواء عن طريق فرض العقوبات، أو حتى عن طريق الهجوم العلني، روسيا بلاد تحترم نفسها، وهي لا تريد سوى العدالة فقط”.
في ظهيرة ذاك اليوم الشتوي البارد، توافد العشرات من الزوار إلى متحف يسنايا بوليانا، الثلوج كانت تغطي الأرض، والجليد الرمادي كان يتجمع فوق البحيرة، وأشجار البتولا كانت تلتهم الضوء الخافت المنبثق من شمس ما بعد الظهر الخجولة، هذه السيمفونية المتناغمة كانت تعكس روح الحب المنبعثة من منزل الروائي ليو تولستوي.
في روايات ليو تولستوي “لا يوجد شخصيات شريرة بالكامل” وبالنسبة لحفيده فلاديمير تولستوي فإن “كل شخصيات ليو هم أناس حقيقيون”.
المصدر: نيويورك تايمز