علي الرغم من عدم دوام اللقاء أكثر من نصف ساعة وصفت كاثرين اشتون في تصرح لرويترز لقائها بمحمد جواد ظريف بـ”الإيجابي” و حوارها معه بـ “المفيد و البناء”. لم يتطرق الجانبان للتفاصيل و إنما اتفق الطرفين علي الخطوط و المحاور الأساسية لجولة محادثات 5+1 التي ستعقد يوم الخميس المقبل. من جانبه قال جواد ظريف في تصرح لوكالة ايسنا الإيرانية أن الحوار مع اشتون كان ايجابياً و أن جولة المفاوضات النووية القادمة ستعقد في اكتوبر في جنيف و ذلك بعد جولة محادثات يوم الخميس التي سيحضرها وزراء دول 5+1.
اعادت إلي الاذهان توقعات المتحدث بأسم الأمم المتحدة لقاء يجمع الرئيس الإيراني حسن روحاني و الأمريكي باراك اوباما و اللقاء المزمع بين وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف و وزير الخارجية الأمريكية جون كيري يوم الخميس 26 سبتمبر ذات اجواء التقارب التي سيطرت علي المشهد في الفترة الأولي من حكم الرئيس محمد خاتمي. في 1998, اثناء زيارة خاتمي الأولي للولايات المتحدة الأمريكية رتب الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان للقاء بين وزيرة الخارجية الأمريكية مادلين اولبرايت و وزير الخارجية الإيراني كمال خرازي , لكن كانت المفاجأة أن خرازي اعتذر. و في خطاب في عام 2000, اعلنت اولبرايت عن إستعداد الولايات المتحدة لمعالجة الإشكالات التي تعيق العلاقات الثنائية بين البلدين , هو ما قوبل برد فعل إيجابي من كتلة خاتمي في المجلس و لكن استجاب المرشد بصورة مختلفة تماماً. لاحقاً اضطرت الإدارة الإيرانية تحت ضغوط أقليمية إلي إبداء رغبتها في فتح قنوات تفاوضية مع الولايات المتحدة تحت حكم الإدارة الجديدة و لكن كانت الفرصة قد ذهبت ادراج الرياح. في نوفمبر 2001 بدأت إيران في عرض تعاونها مع الولايات المتحدة فيما يخص أفغانستان , في مايو2003 تحت ضغط الغزو الأمريكي بعد موافقة المرشد عرض خاتمي و خرازي التفاوض المباشر مع الإدارة الأمريكية و لكن قوبل طلبهم بالرفض.
كان هناك تفسيراً يشير إلي رغبة المرشد منذ البداية في أن تتولي دائرته القريبة الملف التفاوضي و ليس خاتمي أو خرازي و لكن جاءت موافقة المرشد في 2003 تحت ضغط الغزو الأمريكي و تحولات اقليمية غير متوقعة دفعته لأخذ هذه الخطوة. و ذلك لأنه بعد أن تولي علي لاريجاني مباشرةً منصب سكرتارية المجلس الأعلي للأمن القومي في 2005 بعد روحاني اقترح لاريجاني فتح قناة للتفاوض المباشر مع الولايات المتحدة , في 2006 قوبل اقتراح لاريجاني بالرفض من قبل وزيرة الخارجية الأمريكية كونداليزا رايس. اما التفسير الاخر هو أن المرشد رأي أنه من الأفضل إنتظار الإنتخابات الرئاسية الأمريكية و عدم التعاون مع حكومة كلينتون التي لن تستمر طويلاً. لكن ما توفر في فترة إدارة كلينتون لم يتوفر في إدارة بوش. في مايو 2005 فقط جمع كونداليزا رايس بمنوشهر متقي لقاء سريع في شرم الشيخ.
علي الرغم من التشابه الواضح بين اجواء التقارب إبان عصر خاتمي و اجواء التقارب الحالية في عهد الرئيس حسن روحاني (بالإضافة إلي أن سياسات خاتمي كانت امتداد لبرجماتية مدرسة رفسنجاني التي ينتمي إليها روحاني) فأن الوضع الآن بالنسبة للإدارة الإيرانية يختلف من اربعة زوايا : 1- موقع حسن روحاني القريب نسبياً من دائرة المرشد و إنسجام خطابه مع متطلبات الوضع الراهن , 2- الضغط الاقتصادي الذي يواجهه المجتمع الإيراني و القطاعات الاقتصادية الاستراتيجية و علي رأسها قطاع النفط , 3- الرغبة في تسوية الأزمة السورية و الإتفاق علي وضع يحفظ لإيران مصالحها جيو–استراتيجياً في سوريا , 4- استخدام الملف الأفغاني و الإنسحاب الأمريكي كورقة للضغط و المناورة.
علي خلاف ما بدي عليه المشهد السياسي داخلياً في عهد خاتمي من عدم تلاقي و توافق بين دائرة الرئيس و دائرة المرشد فيما يخص التعامل مع القوي الغربية و ما انعكس عليه من فشل في إدارة الملف التفاوضي فأن خطوات روحاني الحالية تبدو اقرب إلي تتويج لإتفاقات مبدئية مُسبقة بين الإدارتين علي تسوية الإشكالات العالقة و علي رأسها الملف النووي الإيراني. ناهيك عن الخطابات التي تبادلها روحاني و اوباما التي كُشف عنها مؤخراً ظهرت أخبار و شائعات غير محسومة تتحدث عن زيارة سابقة لمستشار المرشد , وزير الخارجية السابق علي ولايتي و رئيس شعبة الإستخبارات في الحرس الثوري الإيراني إلي واشنطن , بل يُشار إلي لقاءات أخري جرت في دول وسيطة كسويسرا و ألمانيا.
التمهيد للمسار داخلياً
إذا اخذنا في الإعتبار كون السياسة الخارجية للدولة امتداداً لنشاط و تنافس الفاعلين السياسيين في الداخل فأن لإنتقال مسئوليات صنع القرار الخارجي من جهاز مؤسسي لآخر دلالة رمزية و فعلية. كان الملف النووي و التفاوضي يُدار عرفياً من قبل المجلس الأعلي للأمن القومي حيث يقود سكرتيره فريق المفاوضين. بعد تلقي الضوء الأخضر من المرشد للبدء في لعبة المفاوضات نقل حسن روحاني مسئولية ملف التفاوض من المجلس المذكور إلي وزارة الخارجية الإيرانية , وهي نقلة مهمة تعزز رمزياً من مؤسسات الدولة المدنية لإعادة جزء من التوازن المؤسسي الذي يميل ثقله لصالح المؤسسات الأمنية – العسكرية (إن كانت الخارجية الإيرانية امتداد لنشاط الاستخبارات و الحرس الثوري علي اعتبار أن العديد من السفراء و الدبلوماسيين من خلفيات استخباراتية و عسكرية).
إذا كان اعطاء مهمة الملف النووي لمحمد جواد ظريف الذي يلقي قبولاً لدي المسئولين الغربيين يستهدف تطمين القوي الغربية فأن روحاني اعطي منصب سكرتارية مجلس الأمن القومي للادميرال علي شمخاني وزير الدفاع السابق في عهد خاتمي و أحد مؤسسي الحرس الثوري الإيراني الذي قال “ليس هناك من بديل سوى امتلاك السلاح النووي للدفاع عن أنفسنا بعدما بات النووي في متناول بلدان مجاورة”. إن تعيين روحاني لشمخاني لم يأتي فقط لتوازنات داخلية في النظام و لكن لإرسال رسالة للغرب مفادها بأن هناك خيارات أخري إن لم تسلك القوي الغربية المسار المطلوب لحل الأزمة.
تترافق هذه النقلة في المهام المؤسسية مع طلب الرئيس روحاني في 16 سبتمبر من الحرس الثوري الإيراني في كلمة القاها في مؤتمر يجمع قادة الافرع و المناطق الا يتدخل الحرس في “الالعاب السياسية”. كما تحدث المرشد في كلمته امام قادة الحرس عن ضرورة ابتعاد الحرس الثوري عن المجال السياسي , من ناحية أخري أكد علي أهمية “الدبلوماسية المرنة الشجاعة” في التفاوض مع القوي الغربية. و هي خطوة تعني أن المرشد يرغب في تعزيز سلطة روحاني و يرغب في دعم خطواته.
علي الرغم من تأكيد روحاني علي أهمية نشاطات الحرس في المجال الاقتصادي في كلمته و ما تعنيه من إعطاء إشارة خضراء للمزيد من التوسع لشركات الحرس في القطاعات الاقتصادية كتعويض و ثمن لمحاولة تنحيتهم عن التدخل في السياسة الخارجية إلا أنه سيكون علي روحاني الإنخراط أكثر في مفاوضات مع الحرس من أجل ضبط تدخلاتهم. إن كان إعطاء الحرس إشارة خضراء للتوسع في الاقتصاد يعني كسبهم علي المدي القصير فأنه يعني تعزيز سلطتهم السياسية و تدخلاتهم علي المدي البعيد. لم يكن تحذير الحرس اللاحق لروحاني من الاعيب ساسة البيت الأبيض في خطابهم المنشور علي صفحات وكالة أنباء تسنيم بمناسبة الذكري 33 للحرب العراقية – الإيرانية بعد أيام من كلمته التي القاها سوي رسالة مزدوجة للداخل و الخارج. داخلياً مقصود بأن الحرس لا يزالون يراقبون تحركات الرئيس عن كثب و خارجياً تعني أن الحرس لايزالون علي موقفهم من تحركات القوي الغربية.
خطاب المرحلة
حرص روحاني علي استخدام عده وسائل لإيصال رسائل سياسية ذات مغزي إلي الغرب تتضمن وسائل التواصل الإجتماعي (التويتر) و الظهور في وسائل اعلام غربية (ان.بي.سي) و اهمها مقاله الهام الذي نشره علي صفحات جريدة الواشنطن بوست الأمريكية.
يمكن اعتبار مقال الرئيس روحاني المنشور في الواشنطن بوست في 19 سبتمبر بمثابه مانفيستو الخطاب الخارجي الذي ستتبناه الإدارة الإيرانية الجديدة في هذه المرحلة. يري روحاني أن “العالم قد تغير , لم تعد السياسة الدولية معادلة صفرية و لكنها مجال متعدد الأبعاد حيث يسير التعاون و التنافس بشكل متزامن. انتهي عصر الثأر, الآن المتوقع من الزعماء الدوليين هو تحويل التهديدات إلي فرص”. يستكمل روحاني موضحاً “الرؤية البناءه في الساحة الدبلوماسية لا تعني التنازل عن الحقوق بل الإشتباك مع الآخرين علي اسس المساواة و الاحترام المتبادل لمعالجة الإشكالات و تحقيق الأهداف المشتركة … المعادلات الصفرية و عقلية الحرب الباردة تؤدي إلي خسارة الجميع”.
يركز روحاني علي عامل “الهوية” كمفسر للأزمات الأقليمية. يقول روحاني “علينا الإنتباه إلي أن الهوية هي محرك التوترات في الشرق الأوسط و بقية المناطق” … “في القلب من هذه التوترات, الصراعات الدموية في العراق , أفغانستان , سوريا الدائرة حول هويات هذه الدول و ادوارهم المترتبة في المنطقة و العالم. تتجاوز مركزية عامل الهوية لتصل إلي برنامجنا النووي السلمي” … ” دون فهم دور عامل الهوية فأن الكثير من القضايا التي نواجهها ستظل عالقة”.
اما مقال الرئيس السابق محمد خاتمي المنشور في الجارديان يوم الاثنين 23 سبتمبر الذي يأتي في إطار حملة إعلامية لتعزيز خطوات روحاني, فأنه يؤكد علي ذات الخطوط الرئيسية لخطاب روحاني. يقول خاتمي : “حتي ينجح أي حوار يجب أن يتبني الحوار لغة السياسة و الدبلوماسية. أن حصافة الرئيس روحاني هي الترجمة العملية لفكرة الحوار بين الحوارات في الساحة السياسية. يأتي هذا الخطوات كضرورة عندما تتلاقي عدد من الأزمات السياسية التي تنذر بكارثة عالمية”. فيما يخص موقع المرشد من تحركات روحاني يقول خاتمي : “الدعم الصريح من مرشد الجمهورية يعطي روحاني و دائرته السلطة اللازمة للتوصل لحل دبلوماسي لعدد من القضايا مع الغرب و ليس فقط الأزمة النووية”.
يمثل مقال روحاني في الواشنطن بوست مقدمة لخطابه الذي القاه في الجمعية العامة للأمم المتحدة. امتداداً للمقال الذي أكد فيه علي إمكانية التعاون و الوصول إلي حلول مرضية للجميع عن طريق التفاوض. قال روحاني في كلمته في الجمعية العامة أنه يمكن ايجاد إطار لمعالجة الإشكالات التي تواجه البلدين إذا ابتعدت واشنطن عن جماعات الضغط التي تحرض علي التحرك العسكري, موضحاً استعداده للتفاوض و إزالة “المخاوف المفهومة” التي تحيط بالمشروع النووي الإيراني السلمي. و لكنه في ذات الوقت أكد علي حقوق إيران النووية التي لا يمكن التنازل عنها و علي ضرورة اعتراف العالم بالتكنولوجيا التي اصبحت تمتلكها إيران و التي دخلت تطبيقاتها في النطاق الصناعي. من جهه أخري انتقد روحاني العقوبات المفروضة علي بلاده. اما فيما يخص الأزمة السورية و التي تحتل موقعاً هاماً من الملف النووي الإيراني قال روحاني “أننا نريد العمل لتحقيق السلام في سوريا والبحرين، والعنف لا يحل الازمات”. وأكد أن “الحل في سوريا ليس عسكرياً”، مشددا على رفض طهران “استخدام الاسلحة الكيميائية”، ومشيرا إلى أن “الفاجعة الانسانية في سوريا نموذج مؤسف للعنف في منطقتنا”.
كيف تتعامل الإدارة الأمريكية مع روحاني ؟
اشارت تقارير إعلامية إلي ما ينوي حسن روحاني تقديمه للقوي الغربية علي طاولة المحادثات النووية القادمة و التي تتمحور حول إستعادة إيران لكامل حقوقها النووية فيما يخص التخصيب و بناء المفاعلات و أن تخفف القوي الغربية العقوبات و التهديدات العسكرية في مقابل المزيد من الشفافية و الوضوح و التي تتضمن إجراءات كالقبول بالبروتوكول الإضافي و بذلك يتاح لمفتشي وكالة الطاقة النووية التحرك أكثر في المنشآت النووية الإيرانية. لكن كيف تتعامل الإدارة الأمريكية و الدول الأوروبية مع المقترحات الإيرانية ؟.
حسبما يري ولي نصر في مقال له في مجلة “ذي فورين بوليسي” في 16 يونيو, تواجه الإدارة الأمريكية معضلة في التعامل مع إيران تكمن في أن حسن روحاني قريب من المعسكر الإصلاحي Outsider و ليس من دائرة المرشد لذا فأن زيادة العقوبات الإقتصادية و عدم تقديم تنازلات للضغط علي طهران قد يقوض من مركز روحاني و المعسكر الإصلاحي و يظهرهم في الداخل الإيراني في صورة العاجز لذا فلا فرق بينهم و بين الأصوليين في عجزهم عن الملف التفاوضي مع الغرب. لكن في ذات الوقت إذا فسحت الإدارة الأمريكية الطريق للتنازلات و تخفيف الضغوط فأن المستفيد سيكون المرشد و الدوائر التي تتحكم في جهاز الدولة و الملف النووي و من ثم يمكنهم إستغلال الوقت للمزيد من التطوير لمنشآتها النووية.
التحدي الثاني الذي يواجه الإدارة الأمريكية في التعامل مع الملف النووي الإيراني هو إدارة الأزمة السورية. حيث أن ضعفاً في التعاطي الأمريكي مع الملف السوري قد ينعكس علي الملف النووي الإيراني و يُضعف من موقف الولايات المتحدة قبال إيران و موقف الدول الأوروبية في محادثات 5+1. يري ميشيل سينج في مقالته المنشورة علي صفحات “ذي فورين بوليسي” في 20 سبتمبر, أن عدم اتساق خطوات واشنطن تجاه سوريا يضعف من موقفها امام روسيا ايضاً. فبينما يؤمن عدد من مسئولي إدارة اوباما و الكونجرس أن التوصل لإتفاق مرهون بتهديد عسكري اطاح نواب الكونجرس بإمكانية استخدام الورقة عندما بدا أن النواب لن يسمحوا بالتحرك العسكري. حيث أن اساسيات سياسة الاحتواء تقوم علي حضور ورقة التحرك العسكري و استمرار فاعليتها. اعطي ذلك فرصة لروحاني لعرض إمكانية لعب طهران لدور وسيط بين النظام السوري و المعارضة إلا أن محاولة روحاني فشلت برفض قوي المعارضة العرض.
إذاً ستبقي الولايات المتحدة علي موقف مترقب و هو ما تعكسه تصريحات اوباما الأخيرة من “ترحيب حذر” بالمفاوضات مع إيران. قال الرئيس اوباما في كلمته في الجمعية العامة للأمم المتحدة أن الولايات المتحدة مستعدة للتفاوض مع إيران بشأن برنامجها النووي. و اضاف أنه اختبر الرئيس الإيراني في مراسلاته الأخيرة لأخذ خطوات ملموسة لحل أزمة الملف النووي الإيراني موضحاً “الكلمات التوافقية يجب أن تقابلها خطوات تتسم بالشفافية يمكن التحقق منها”. في ذات الوقت تعهد أوباما بأن إدارته لن تتهاون مع تطوير إيران لأسلحة نووية. و لكن الجديد هو عدم ذكر جملة “جميع الخيارات مطروحة علي الطاولة” التي تشير إلي إمكانية اللجوء إلي التحرك العسكري و التي كان يذكرها دائماً في تصريحاته بشأن البرنامج النووي الإيراني.