لاتزال آثار الغزو الأمريكي واضحة ولن ينساها العراقيون وستبقى مشهدًا قاسيًا أمام أنظارهم لسنين قادمة كما وستبقى دروسها للأجيال المستقبلية، وستبقى أمريكا وقواتها المحتفلة هي الدولة الغازية الكاذبة، وهي من دمرت البلد وأحرقته بكل ما تملك من ذخيرة عسكرية وخطط تقوم على تفريق الوحدة العراقية والعربية بمختلف الأساليب.
نستذكر جيدًا ما حصل، فما إن دخلت أمريكا وقواتها الغازية للبلاد إلا وخربت كل المرافق الحيوية فيها ودمروا المؤسسات الحكومية وأحرقوا الوثائق وسرقوا البنوك والمتاحف التراثية في مختلف المحافظات وسرقوا كل نفيس وغال فيها، وفككوا ودمروا الجيش العراقي، ذلك الجيش الذي كان يوصف بأنه من أقوى الجيوش العربية والشرق الأوسط، خلاصة الكلام أنهم دمروا كل شيء ولكن قاموا بحماية وزارة النفط وآبار النفط من التخريب والسرقة لينظموا بعد ذلك وفق ما تمليه عليه خططهم الإستراتيجية تهريب وسرقة هذا البترول.
وما هي إلا سنين قليلة على بدء الغزو الأمريكي للعراق إلا وبدأت الفتن الطائفية والعرقية في البلاد بالظهور، فحرب مع السنة، وأخرى مع الشيعة، وتلك مع الأكراد، والكل مستهدف فيها! والجميع يمثل دور الضحية، والجلاد جاثم على صدور العراقيين يحرك الأطراف كيفما يريد في مشهد دموي وكارثي فقد فيه العراق خيرة علمائه وأبنائه ناهيك عن تدمير مرفقاته ومؤسساته.
محطات العراقيين مع الاحتلال الأمريكي متعددة، وتتنوع فصول قصصها وأماكن أحداثها، أحاول ان أسلط الضوء عليها، إضافة إلى ما خلفه هذا الغزو من تغيير في المجتمع وتركيبته الطائفية والسياسية في وقت يمر فيه العراق بمرحلة حرجة من الصراع الطائفي والسياسي.
عن ذكرى السقوط
يدخل الجيش الأمريكي بدباباته وآلياته العسكرية إلى العاصمة بغداد، في ذلك اليوم يمكنك ان تتصور المشهد القائم فيه وكيف أن هذه العاصمة بدت وهي تبكي حالها بفقد أهلها وأحبابها من كل الأطياف العراقية، واقع مرير في تلك الساعات التي كانت بغداد وبغضون ساعات قليلة قد سقطت في يد الجيش الأمريكي، وما هي إلا ساعات حتى تحولت بغداد إلى مدينة أشباح وانتشر فيها اللصوص الذين لم يتركوا شيئًا أمامهم إلا ونهبوه، وفيما استباح آخرون مؤسسات الدولة ونهب محتوياتها، وفي هذا الوقت لزم سكان بغداد الأصليون بيوتهم ومساكنهم بانتظار الفرج.
التاسع من أبريل، يوم حزين وكئيب يمر على أغلب العراقيين بفعل تداعيات الحرب وتحول مجرياتها وتطورها الكبير الذي ساهم في تخريب العراق كليًا وعلى مختلف المستويات الاجتماعية والتدريسية والسياسية والاقتصادية.
تمر الذكرى الثانية عشرة لسقوط عاصمة الرشيد “بغداد”، هذه العاصمة العربية التي بسقوطها في يد الاحتلال الأمريكي ساهمت وبجزء كبير في تحول شكل وسياسة الدول العربية والمنطقة بشكل كامل وعلى مختلف المستويات، فبسقوط العاصمة العراقية بغداد لم يسقط العراق وحده فسحب، ولكن لهذا السقوط تبعات كبيرة دفع ثمنها العالم العربي بشكل خاص والعالم بأجمعه بشكل عام، ولكن يبقى الشعب العراقي هو أكبر الخاسرين في هذه الحرب التي شكّلت مأساة قاسية ودامية؛ فقد فيها العراقيون أحب ما يملكون من عوائلهم وأصدقائهم، وعندما تريد المقارنة بين ما كانت عليه الحال قبل سقوط بغداد وبعدها فإنك سترى فارقًا كبيرًا في الحال الاجتماعي والاقتصادي والسياسي في بلد تتنوع فيه الطوائف والثقافات وعاشت على مر الزمن ضمن منظومة عيش سلمي مشترك وبلد واحد هو العراق بعيدًا عن كل المسميات والقوميات.
أصبحت ذكرى سقوط بغداد جزءًا من التاريخ الحديث لبلاد الرافدين، وتمر هذه الذكرى بآلامها المختلفة بعد أن ساهمت وبجزء كبير في وجود شرخ كبير بين العراقيين في إحداث نعرات طائفية وأخرى سياسية وعلى مختلف أرجاء الدولة العراقية، ويستذكر البعض في هذه الذكرى الأليمة “سقوط بغداد” العهد السابق والذي كان يحكم فيه العراق صدام حسين، وهو النظام الذي يصفه البعض هنا “بالديكتاتوري” والذي امتد حكمه لأكثر من ثلاثين عامًا، و يتأسف البعض ويبكي دمًا على أيام ذلك النظام الذي بسقوطه أوقع البلاد برمتها في دوامة عنف لا يعرف أحد أين ستكون نهايتها، وفي الجانب الآخر يحتفل البعض بانتهاء زمن وكما يسمونه “زمن الديكتاتورية” الذي شاع فيه الظلم والاستبداد من قِبل حكومته، ذلك النظام الذي يصفونه بالدامي والذي دمر العراق ودول جواره بحروبه الغير قانونية، وبين الرأيين يتفق الجميع هنا أن الواقع الأمني ومنظومة التعايش السلمي كانت في ذلك النظام هي أفضل بكثير مما هو عليه الواقع حاليًا .
مقاومة العراقيين للمحتل
بعد محطات خاضها العراقيين لعقود من الزمن قضوها بين صراع عسكري مع دول الجوار وآخر سياسيًا وطائفيًا مع دول مختلفة، وصراع متعدد الأوجه داخليًا! ناهيك عن فرض حصار اقتصادي على البلد، إضافة إلى سياسية قمعية داخلية أدت إلى الكثير من الخلافات في ذلك الوقت، وإلى يومنا هذا يجني العراقيون مساوئ تلك الفترة، كل هذه العوامل شكّلت في ذهن القوات الأمريكية أن العراقيين شعب أصابه الإعياء بفعل تلك المحطات التي عصفت بهم، وتصورت تلك القوات أن هذا الشعب ولد في داخله الإحباط ولن تجد صعوبة في احتلاله، تصورات وعوامل اتخذها الأمريكيون حسابات لهم ومن خلالها أرادوا المكوث طويلاً وبسلام في العراق! ولكن؛ سرعان ما تغيرت تلك الحسابات التي رسمت وخططت من قِبلهم مع أول رصاصة للمقاومة العراقية لهم.
أيام لا ينساها كل من عايشها، أو حتى لمن تابع أحداثها، وستبقى تذكر للأجيال القادمة، تلك التي خاضها العراقيون في مختلف محافظاتهم بمعارك متواصلة طيلة فترة تواجد الاحتلال الأمريكي في البلد، وتصاعدت حدة المقاومة العراقية في الأنبار بغرب العراق، فتقارير أمريكية تصف المعارك في الأنبار بأنها الأعنف ضدها، وتحجم الخسائر الأمريكية فيها قرابة الثلث من تلك القوات.
مقاومة عراقية جاءت نتيجة لجرائم المحتل الأمريكي ضد العراقيين بمختلف مناطقهم، مقاومةٌ كبدت المحتل خسائر بشرية ومالية هائلة أفقدت الولايات المتحدة الأمريكية التوازن المالي والعسكري حينذاك، ليكون بعد كل هذه المحطات قرار تلك القوات بالانسحاب من العراق “عسكريًا” وتسليمه إلى القوات العراقية في أواخر عام 2011، وليبقى بعد ذلك نفوذ الإدارة الأمريكية وبكل ما تمليه سياساتها قائم على خيارات السياسيين العراقيين الذين لم يفلحوا برسم عملية سياسية تجمع تلك الأطراف تحت سقف عراقي واحد.
وطيلة كل تلك الفترة التي تواجد فيها المحتل الأمريكي سجلت المقاومة العراقية بأحرف البسالة والشهامة العراقية صفحات تاريخية مشرقة شرفت العراقيين بمختلف مذاهبهم وأطيافهم، ففي ذلك الوقت كانت المقاومة العراقية للمحتل الأمريكي بطوائف متعددة، وكانت أقوى الأطراف المقاومة في البلد هي المقاومة السنية غرب وشمال العراق.
“معركة مطار صدام الدولي” والتي استخدمت القوات الامريكية فيها أسلحة الدمار شامل، و”معركة الفلوجة” عندما استخدمت فيها الفسفور الأبيض، وغيرها الكثير من المعارك التي تثبت قدرة المقاومة العراقية القوية، وتفضح في ذات الوقت وحشية القوات الأمريكية من انتهاك حقوق الإنسان واستخدامها للأسلحة المحرمة دوليًا.
محطات المقاومة العراقية تطول إن ذكرت أحداثها، ويبقى التعبير الشامل لمحطات أحداثها بأن تذكر “المقاومة العراقية” ليعرف الجميع أنك تتكلم عن شيء كبير وتتلاشى عظمته إن أطلت بسرد تفاصيله! ما يؤسف المشهد في العراق حاليًا هي أن طبيعة الصراع السياسي والفتن الطائفية في البلد أنست الكثير من العراقيين بطولاتهم ضد المحتل الأمريكي لهم، بسبب أن تلك القوات وبسياساتها جعلت من العراق بلدًا مصنعًا للفتن، فكلما وئدت فتنه فيه ولدت أخرى في مشهد يتكرر دوريًا، إذ يمر العراق اليوم في منعطف تاريخي مهم وخطير، وأبرز أحداثه هي استمرار المعارك والعمليات المسلحة في الأنبار تحت أهداف وغايات متعددة وسط غموض المشهد وعتامة أحداثه الميدانية والسياسية وفي وقت تستعد القوى الوطنية والقومية والإسلامية في مختلف المحافظات للمشاركة في الانتخابات في ظل تنبؤات عن مقاطعتها وأخرى عن المشاركة الفاعلة فيها بين أوساط المجتمع العراقي وممثليه في العملية السياسية.