“لا يمكننا أن ننسى الألمان أبدًا، لقد أتوا إلى قريتنا قبل 71 عامًا ببنادقهم، وهم الآن يضغطون عليها ببنوكهم وسياساتهم”، هكذا تحدث لوكاس زيسيس، نائب عُمدة قرية ديستومو، التي تبعد عن العاصمة اليونانية أثينا حوالي ساعتين، والتي شهدت واحدة من أبشع مجازر النازيين في الحرب العالمية الثانية، حين ذبح الألمان بدم بارد 218 شخص من أهل القرية، منهم العشرات من الأطفال.
لاتزال مذبحة ديستومو حاضرة في أذهان الكثير من اليونانيين، ولا يدلل على ذلك أكثر من العقود التي أمضتها محاكم اليونان وألمانيا في النظر بالخسائر التي تسببتها ألمانيا النازية بالقرية، حتى حكمت محكمة يونانية عام 2000 بأن ألمانيا مطالبة بدفع تعويضات لأهالي القرية، وهي تعويضات لايزال أهل ديستومو في انتظارها، كما يقول لوكاس.
الديون بين الماضي والحاضر
بعد ساعات من دخوله إلى منصبه كرئيس لوزراء اليونان في يناير الماضي، قام أليكسيس تسيبراس بزيارة ضريح قيصرياني، الذي يخلد ذكري 200 ناشط شيوعي قتلهم النازيون في أثينا عام 1944، والذي يمثل مقاومة الاحتلال الألماني ورغبة اليونانيين في التخلّص منه، وفق ما قاله المتحدث باسم حزب سيريزا اليساري الحاكم، وهي خطوة كانت رمزيتها واضحة بالطبع في سياق السجال الألماني اليوناني الجاري حول أزمة اليونان الاقتصادية.
منذ حوالي أسبوع، وقف تسيبراس في البرلمان اليوناني متحدثًا عن التعويضات الألمانية التي لم تُدفَع بعد بينما يتحدث الجميع في أوروبا عن مديونية بلاده لألمانيا، “بعد توحيد ألمانيا عام 1990، أصبحت الظروف السياسية والقانونية مواتية لحل هذه المسألة، ولكن الحكومات الألمانية منذ ذلك الوقت تختار الصمت والحيل القانونية والمماطلة”، هكذا تحدث تسيبراس دون مواربة موجهًا كلامه لبرلين، وهو يعلم تمامًا أن برلين دون سواها أكثر مكان يحمل أهله إرث الحرب العالمية الثانية حتى اليوم، ويدرك أن عقدة الذنب النازية لاتزال تثير الكثير بين الألمان.
تسيبراس يضع الورود على مقابر ضحايا النازيين من اليسار اليوناني في قيصريانيالآن، وبعد أن اكتملت دراسة بدأتها وزارة المالية اليونانية عام 2012، حصلت مجلة شبيغل الألمانية على نسخة منها، وهي قد تكون بالفعل دليلًا بالفعل على مديونية برلين لأثينا، ليس فقط فيما يخص تعويضات لأهالي الضحايا، والتي قد يحتاج الوصول لحل فيها مفاوضات طويلة، ولكن فيما يخص ديون حقيقية بكل ما تعنيه الكلمة: أموال انتزعها النازيون بالإكراه من البنوك اليونانية أثناء إنفاقهم على حملاتهم العسكرية من هناك، وهي موجودة إلى اليوم في وثائق وسجلات بنكية منذ ذلك الوقت.
هي ديون موثقة إذًأ قد تصل قيمتها اليوم إلى حوالي 11 مليار يورو، طبقًا للجنة التي أعدت الدراسة، والتي كتبت في تقريرها بأن تلك الأموال ديون لا تعويضات، فالتعويضات التي دفعتها ألمانيا عام 1961، بقيمة 115 مليون مارك، هي مسألة منفصلة، والفرق بينهما واضح بالطبع، فالديون ليس أمام برلين سوى دفعها لليونانيين إذا ما أجبنا على السؤال التالي: هل يجب على جمهورية ألمانيا الفيدرالية أن تدفع ديون كان يدين بها الرايخ الألماني باعتبارها الوريث الأساسي له؟ أم أن الجمهورية غير معنية بما فعله النازيون؟
بالنظر للكثير من سياسات ألمانيا تجاه اليهود وجرائم شتى قامت بها، يبدو أن برلين حتى اليوم لاتزال تعتبر نفسها مسؤولة عن جرائم النازيين، وهو ما يعني مسؤوليتها عن دفع تلك الديون.
المسؤولية التاريخية
يقول المؤرخ الألماني هاجن فلايشر، أستاذ التاريخ بجامعة أثينا، والمقيم في العاصمة اليونانية منذ عام 1977، إن ألمانيا يجب أن تدفع الديون فورًا دون أي مفاوضات، وهو واحد ممن عكفوا طويلًا على دراسة هذه الوثائق، ويملك منها ما يكفي لإثبات حجته، “الديون التي أخِذَت بالإكراه تملأ الملفات الألمانية القديمة، وقد مثلّت صدمة لمسؤولي ألمانيا ما بعد الحرب أكثر كثيرًا من الوثائق الخاصة بجرائم النازيين”، هكذا يقول فلايشر، المُتهم بالتحيز من قِبَل كثيرين، والذي تدعمه اليونان بطبيعة الحال منذ سنوات، والتي يحمل جنسيتها حاليًا.
المؤرخ الألماني هاجن فلايشرفي عام 2014، كانت حكومة رئيس الوزراء السابق أنطونيوس ساماراس ماضية هي الأخرى في تلك المسألة، والتي لا يختلف عليها أحد في الساحة السياسية اليونانية، وقد أوكلت مهمة تحضير الملفات الخاصة بإثبات مديونية ألمانيا لمدير وزارة المالية المعروف بناغيوتيس كراكوسيس، والذي أمضى خمسة أشهر يقرأ حوالي 50.000 صفحة من وثائق البنك المركزي اليوناني، ليضع في دراسته كل ما حصل عليه الألمان؛ من الذهب الذي نهبوه من منازل اليونانيين، خاصة اليهود منهم، والذي يتجاوز 7.3 طن، ما يوازي 235 مليون يورو اليوم، وحتى الاحتياطي النقدي الذي أخذوه من فروع البنك المختلفة أثناء انسحابهم، 6.34 تريليون دراخما، وهي تقدر بحوالي 40 مليون يورو اليوم.
من ناحيته، وجد فلايشر وثائق تثبت حصول الألمان على حوالي 300 مليار دراخما بالإكراه عام 1944 لتمويل عملياتهم العسكرية، وهي أموال تعهد النازيون أنفسهم بإعادتها إلى اليونان، والذين كانوا قد وعدوا اليونانيين بدفع أي أموال يحصلون عليهم ما دامت قيمتها قد تجاوزت 750 مليون دراخما، وما تقوله الوثائق هو إن ما حصل عليه الألمان كان أضعافًا مضاعفة بالطبع لم تدفع منها برلين منها شيئًا إلى اليوم.
كل ذلك وأكثر يثبت أن المسألة ليست مجرد تعويضات، ولكنها ديون حقيقية، “التعويضات يمكن التفاوض بشأنها على المستوى السياسي، أما الديون فهي أموال يجب أن تعود لأصحابها، حتى ولو كانت بين حليفَين”، هكذا يقول فلايشر، وهو كلام يؤكده كراكوسيس، “لا يمكن لإنسان عاقل أن ينكر حقيقة هذه الديون أبدًا”.
ماذا بعد؟
ماذا سيفعل الألمان حيال تلك الدراسة الجديدة التي ظهرت لأول مرة وحصلت عليها مجلة شبيغل الألمانية المرموقة؟ “لا أعلم، أنا ليست سياسيًا، كل ما قُمت به هو واجبي في دراسة الوثائق وتحضير التقرير”، هكذا يقول كراكوسيس، ولكن السؤال بالطبع لن يقتصر على الديون، ولكن سيفتح على الألمان أبوابًا أخرى لا يريدون فتحها؛ تعويضات كثيرة قد تكون من حق الآلاف ممن لم تعوّضهم برلين بعد، مثل أهالي ديستومو.
النازيون يرفعون علمهم في أثينا أمام قلعة الأكروبوليس المعروفةقد يقول من لا يعرف الألمان جيدًا إنهم سيقفون بجانب حكومتهم في تجنّب دفع تلك الأموال، ولكن الحقيقة هي أن أثينا تعرف جيدًا أن ما تضغط من أجله سيجد صدى لديهم، فالألمان لن يقبلوا أبدًا بأي مماطلة فيما يخص التزام ألمانيا بمسؤوليتها التاريخية تجاه ضحاياها في الحرب العالمية الثانية، وفلايشر ليس مثالًا غريبًا هنا، فالمحامي المسؤول عن دعوة أهالي ديستومو المطالبة بالتعويضات هو الآخر ألماني.
يمثل يواخيم لاو البالغ من العمر 70 عامًا، والمقيم في فلورنسا بإيطاليا، ضحايا النازيين من اليونانيين والطليان بشكل عام منذ سنوات، وقد دعمت إحدى محاكم إيطاليا دعاواه من قبل، “أشعر بخيبة أمل تجاه الأسلوب الذي تتعامل به ألمانيا مع تلك المسألة، الأمر ليس تعويضًا ماليًا ولكنه تحقيق العدل”،هكذا قال لاو الذي أرسل خطابًا مفتوحًا للرئيس الألماني يواخيم جاوك محذرًا إياه من خرق القانون الدولي بتصريحاته بخصوص التعويضات التي يطالب بها من تعرض للعمالة القسرية والتهجير وشهد قتل ذويه في الحرب.
من ناحيته، يؤكد لوكاس أن المسألة ليست أبدًا عداوة غير موجودة أصلًا بين البلدين، ولكنه حق يجب أن يعود لأصحابه، “أنا معجب جدًا بالألمان، بماركس، بنيتشه، بهذا النموذج الاقتصادي القائم على الرفاهة، بالنظام الذي يتسم به المجتمع الألماني، ولكننا في هذه القرية ننتظر اعتذار ألمانيا، إنها مسألة مهمة لمركز ألمانيا في أوروبا اليوم، ولا أستطيع أن أفهم موقفهم فيها إلى اليوم”.