منذ مطلع القرن العشرين، يمكن للناظر في طبيعة السياسة الخارجية التركية أن يلاحظ بسهولة تحوّلها نحو الاهتمام بمناطق عدة متجاوزة لتحالفها مع الغرب، وهو ما يدلل عليه نشاطها الدبلوماسي خلال العقد المنصرم، والذي بدأ بدخولها كمراقب للاتحاد الأفريقي عام 2005، ثم كشريك إستراتيجي عام 2008، وهو ما تبعته عام 2009 بتأسيس مجلس للبلدان المتحدثة باللغات التركية (أذربيجان وكازاخستان وقرغزستان وأوزبكستان وتركمنستان) لتوطيد تعاونها مع شعوب القوقاز وأسيا الوسطى الذين تربطهم بها روابط تاريخية وثقافية قديمة، وأخيرًا تفعيل علاقاتها مع اتحاد دول جنوب شرق أسيا (الأسيان) عام 2010 بتوقيع اتفاق للتعاون بين الطرفين.
الاتجاه للشرق
بالنظر لموقعها الإستراتيجي بين أسيا وأوروبا، وروابطها مع شعوب كثيرة في المنطقة، تبدو تركيا مهتمة بترسيخ هذا الاتجاه الاقتصادي الجديد نحو أسيا، كما تبادلها قوى أسيا ذلك، فالروس من ناحية يحاولون البحث عن بدلاء لأوروبا بعد تدهور العلاقات بين موسكو والغرب جراء الأزمة الأوكرانية، أما الصينيون فيبحثون عن شركاء إستراتيجيون لتنفيذ مشروع طريق الحرير الاقتصادي الجديد الذي تطمح به بكين إلى الهيمنة على التجارة والنقل من شرق القارة إلى غربها، ومن شرق أسيا عمومًا إلى الشرق الأوسط وأوروبا.
لذلك، تمثل منظمة شانغهاي نافذة مهمة لتركيا لتوسيع قوتها الاقتصادية، لاسيما وأن أهمية دول أسيا تزداد للاقتصاد التركي مقارنة بتراجع نصيب أوروبا منه، فالأتراك يستوردون الآن حوالي 29% من صادراتهم من دول المنظمة مقارنة بـ16% فقط عام 2003، بينما شهدت حصة الاتحاد الأوروبي من الواردات التركية تراجعًا من 51% إلى 36% في نفس الفترة، ومن صادراتها تراجعًا من 58% إلى 43%، وفي هذا السياق يمكن فهم إصرار تركيا على المضي قدمًا في مواصلة تعاملاتها التجارية مع روسيا رغم ضغوط حلفائها في الناتو والاتحاد الأوروبي عليها للالتزام بالعقوبات الغربية على موسكو.
علاوة على ذلك، تلعب تركيا بشكل متزايد دورًا مهمًا لروسيا والصين في تنمية مناطق الأغلبية المسلمة والتركية، حيث تجد فيها تركيا مجالًا لمد نفوذها، بينما تجد فيها الصين وروسيا ترسيخًا لاستقرارهما بالداخل، ومنافسًا من قبل الاستثمارات والثقافة التركية لقوى التطرف المتمركزة في أفغانستان والشيشان، والمثال الأبرز هنا في روسيا هو جمهورية تتارستان الفيدرالية التابعة للاتحاد الروسي، والتي تُعَد تركيا شريكها التجاري الأول بأكثر من مليار دولار، وبالمثل تقوم بكين بتعزيز الروابط بين تركيا ومنطقة شينجيانغ، معقل أتراك الأويغور في أقصى غربها، كجزء من التعاون بين البلدين في إطار منظمة شانغهاي.
الملف الأفغاني
على صعيد آخر، تُعَد أفغانستان ذات أهمية كبيرة بالنسبة للدور التركي في أسيا، خاصة أسيا الوسطى، والتي تتنافس فيها أنقرة مع طهران بوضوح، وهو ما دفع تركيا للإبقاء على جنودها، كجزء من حلف الناتو، داخل أفغانستان رُغم تطبيق خطة الانسحاب بعد 2014، إلى جانب ألمانيا والولايات المتحدة وإيطاليا، بل وزيادة عدد قواتها على الأرض في البلاد، لتكون بذلك عضو الناتو الوحيد الذي عزز وجوده على الأرض داخل أفغانستان، وهو وجود يتم في إطار مهمة دعم الدولة الأفغانية الهشة، ولكنه في الواقع يُستَخدَم لخدمة الدور التركي المتنامي في البلاد.
لا يقتصر الدور التركي على المهمات العسكرية فقط، والتي يقوم فيها الجيش التركي بتدريب الشرطة والجيش الأفغانيَّين، بل ويمتد إلى مجالات مدنية متنوعة، حيث تملك أنقرة برنامجًا لدعم التنمية تقوم بموجبه بمشاريع تعليمية وطبية بشكل رئيسي، كما تساهم في خدمات أساسية مثل تنظيف المياه وبناء البنية التحتية والمواصلات، إلى جانب جهودها الإغاثية بالطبع، وهو ما يتم عبر وكالة التنمية والتعاون الدولية التركية (TIKA).
طبقًا لإحصائيات تيكا، نفذت تركيا أكثر من 800 مشروعًا بين عامي 2005 و2014 في أفغانستان، منها 240 في مجال التعليم و214 في مجال الصحة، كما منحت لحوالي 100.000 طالب أفغاني تعليمًا على مستوى جيد، وبنت 83 مدرسة، بينما وصلت خدماتها الطبية إلى خمسة ملايين أفغاني تقريبًا، علاوة على ذلك، تهتم تركيا بشكل خاص بتحسين قدرة المؤسسات الأفغانية على إدارة الخدمات والمرافق العامة، في منافسة واضحة مع إيران التي تتواجد بقوة في غرب البلاد، حيث تستغل أنقرة الإمكانيات التي تعطيها إياها مظلة التحالف الغربي لموازنة الوجود الإيراني العسكري المتواجد عن طريق الميليشيات الصديقة لإيران، وكذلك الاقتصادي المتواجد عن طريق استثمارات طهران في البنية التحتية.
التعاون العسكري مع روسيا والصين
بالإضافة إلى كذلك، ورُغم أن البعض قد يرى أن وجود تركيا في حلف الناتو قد يعيقها عن توسيع عضويتها في منظمة شانغهاي لتشمل تحالفًا عسكريًا، إلا أن أنقرة لا ترى أن التعاون في شرق والغرب متضادان، وهي لا تسعى في الحقيقة لخلق تحالف مع الصين أو روسيا كما يعتقد البعض لأسباب كثيرة، ولكنها تحاول خلق شراكة عسكرية من نوع خاص للاستفادة من قوتيهما، وتنويع قوتها العسكرية، لاسيما وهي تحتاج ذلك في الفترة المقبلة للتعامل مع تحديات عدة، أبرزها موازنة إيران، التي تتمتع بالطبع بالعديد من المنظومات روسية أو صينية المنشأ، وهو ما يعني أن المزج بين خبرات الشرق والغرب العسكرية سيكون مفيدًا لأنقرة.
أبرز نتائج هذه السياسة الجديدة، والتي تسير فيها أنقرة منذ مطلع هذا العقد، هو المفاوضات التي لاتزال جارية لشراء منظومة الدفاع الصينية المضادة للصواريخ بعيدة المدى، على حساب إجراء صفقات مع أوروبا أو الولايات المتحدة، وعن طريق شركة تخضع لعقوبات غربية نظرًا لتعاملها مع كوريا الشمالية والصين، وهي صفقة ستتضمن تصنيع المنظومة بشكل مشترك بين الطرفين على الأرض التركية، الأمر الذي لا تتيحه أي صفقة غربية، وتلك سابقة من نوعها بالطبع لعضو في حلف الناتو.
أيضًا، يُعَد التعاون الجاري منذ فترة بين أنقرة وموسكو في ملفات عسكرية عدة غير مسبوق في تاريخ التحالف، والذي تأسس في الأصل لاحتواء الدور الروسي (السوفيتي آنذاك) في شرق أوروبا، وهو تعاون تستفيد منه تركيا وروسيا على السواء، فرُغم أن تركيا لا يُتاح لها أن تمرر خبرات الناتو إلى أحد، إلا أن كفاءة قواتها التي تجنيها نتيجة وجودها في الناتو لعقود تمر في نهاية المطاف لأي طرف يتعاون معها دون تمرير أي خبرات تقنية بشكل مباشر.
***
هل يعني كل ذلك اتجاهًا نحو الشرق على حساب الغرب؟ بالطبع لا، فتركيا تدرك أنها لاتزال بحاجة إلى حلف الناتو بشكل حيوي، ولكنها تدرك أيضًا أنها يجب أن تستثمر مبكرًا في المنظومة الأسيوية الصاعدة، لتعزيز موقعها الدولي، ولترسيخ نفوذها في ساحتها الخلفية كما تراها؛ الشرق الأوسط وأسيا الوسطى، ولتنويع مصادر قوتها العسكرية والسياسية والاقتصادية.