ترجمة وتحرير نون بوست
لطالما ردد لي كوان يو، رئيس الوزراء والأب المؤسس لسنغافورة، وعملاق التاريخ الأسيوي في فترة ما بعد الحرب، أن بلاده لم يكن من المفترض أن تكون موجودة، حيث قال في مقابلة له في عام 2007 مع صحيفة نيويورك تايمز “نحن أساسًا ليس لدينا مقومات الأمة، العوامل الأولية: التجانس السكاني، اللغة المشتركة، الثقافة المشتركة، المصير المشترك”، وتابع “التاريخ طويل ويمتد، وأنا أديت رسالتي البسيطة فيه”.
لي يتواضع عندما يصف دوره في سنغافورة بالبسيط، فرجل الدولة، الذي توفي يوم الأحد عن عمر يناهز الـ91 عامًا بعد نوبة التهاب رئوي، ساعد على تحويل وطنه الفقير إلى أحد أكثر المجتمعات ازدهارًا في العالم، كما أصبحت سنغافورة أحد أكبر المراكز التجارية ومن أهم مراكز النقل، وذلك في ظل عقود السلام والاستقرار والنمو الاقتصادي التي تمتعت بها هذه الدولة، ولكن هذا النجاح لم يكن من قبيل الصدفة، كون لي احتضن التجارة الدولية – وساعده على ذلك موقع الجزيرة الإستراتيجي على طول خطوط النقل البحري – وحينها تحولت سنغافورة إلى وجهة جذابة للاستثمار الأجنبي، وأصر على أن تعتمد البلد – التي تحوي 5.3 مليون مواطن – اللغة الإنجليزية كلغة رسمية، مما ساعد على تعزيز الهوية المشتركة بين الإثنيات الصينية والهندية والملاوية في البلاد، كما جمع هذه الأعراق معًا في مبانٍ سكنية جديدة مختلطة عرقيًا.
ويقول علي واين الخبير في سنغافورة والمحلل في مؤسسة ويكيسترات “إذا ما استثنينا كوبا تحت حكم فيدل كاسترو، فإنه من الصعب أن نتذكر بلد آخر ترك فيه أي قائد مثل هذه البصمة التاريخية”.
ولكن نجاح سنغافورة تحقق بعد دفع فاتورة باهظة في مجال حقوق الإنسان، كون لي لم يتسامح مع أي معارضة، واعتقل المعارضين دون محاكمة، فالمواطنون السنغافوريون لا يتمتعون بحرية الصحافة، كما لا يمكنهم التعبير عن رأيهم بحرية، ولا يتمتعون بحرية التجمع، ويُتهم لي أيضًا بتطبيق نظام المحسوبيات ومحاباة الأقارب، فمثلًا ابنه لي هسين لونغ هو رئيس الوزراء الحالي في سنغافورة، وأبناؤه الآخرون وبعض أفراد أسرته المقربين يشغلون مناصب عالية داخل الدولة، وفضلًا عمّا تقدم يُتهم لي – ذو الأصل الصيني – من قِبل سكان سنغافورة ذوي الأصل الملاوي أو الهندي بأنه يحتكر الغنائم السياسية والاقتصادية لإثنيته ولا يتبادلها مع المجموعات العرقية الأخرى.
تأثير لي لم يقتصر على الحدود الداخلية لسنغافورة بل امتد إلى ما وراء الحدود الوطنية، فالمحامي من أصل صيني الذي تلقى تعليمه في كامبريدج، صاغ علاقات فريدة مع الولايات المتحدة، وتحدث كثيرًا حول هذا الموضوع، وعندما كان رئيسًا للوزراء في سنغافورة، كان يعتبر مستشار رئيسي للعديد من رؤساء الولايات المتحدة في شوؤن المنطقة، حيث كان يعمد للقيام بزيارات متكررة إلى البيت الأبيض خلال السنوات التي قضاها في السلطة، كما امتد تأثير لي إلى الصين، وعلاقاته مع الزعيم الصيني دنغ شياو بينغ مشهود لها، وكتب عنها الخبير بالشؤون الصينية عزرا فوغل، وأشار إلى أن دنغ كان يستشير لي خلال المراحل الأولى من الإصلاح الاقتصادي في الصين، ويمكن القول في الواقع إن خطة الصين لتحقيق الازدهار من خلال التحرر الاقتصادي والقمع السياسي، متطابقة مع مسار الخطة السنغافورية.
على الرغم من أنه لم يتسلم منصب رئيس الوزراء بعد استقالته في عام 1990، ولم يتقلد أي منصب حكومي رسمي منذ استقالته من منصب “الوزير المعلم” في عام 2011، بيد أن وفاته أثارت أسئلة مربكة حول مستقبل سنغافورة؛ ففي السنوات الأخيرة، اتسعت فجوة عدم المساواة في الدخل بين المواطنين، ونمت المعارضة السياسية لتصبح أكثر قوة، حيث حذر رئيس الوزراء في خطاب ألقاه عام 2013 أن سنغافورة كانت في نقطة انعطاف، ووضح ذلك بقوله “لقد أصبح مجتمعنا أكثر تنوعًا، واقتصادنا أكثر نضجًا، ومشهدنا السياسي أكثر تنافسية”، ومن المتوقع أن تسفر الانتخابات السنغافورية العامة المقبلة والتي من المقرر إجراؤها في عام 2017، عن بزوغ الحكومة الأكثر تعددية والأكثر انقسامًا في تاريخ البلاد منذ الاستقلال.
في المرحلة الحالية، سيبقى السنغافوريون يستذكرون الرجل الذي هيمن على الحياة السياسية في البلاد لفترة امتدت حتى الستة عقود، ولكن مع ذلك يمكننا القول إن الإرث الأسطوري الذي صنعه لي مبني على أساس أقدميته وولايته التي طال أمدها، وبهذه النظرة تكون مقارنته بكاسترو الذي تولى السلطة -مثل لي – في عام 1959، هي مقارنة غير ملائمة، لأن الزعيم الكوبي استمد شرعيته من خلال التمسك بأيديولوجية معاكسة لنهج لي.
في مقابلته مع صحيفة نيويورك تايمز قال لي “إذا كان من المتوقع أن تنجح الخطة، دعونا نجربها، فإذا نجحت، دعونا نستمر بها، وإذا لم تنجح، لنتخلص منها ولنستخدم غيرها”.
وفي النهاية يمكن القول إن لي أدى رسالته وخاض مغامرته بالفعل.
المصدر: ذي أتلانتك