ولد الاستشراق من رحم المواجهة بين الإسلام والغرب منذ العصور الأولى على نحو ما ذكرنا في المقال الماضي، ثم بدأ ينتقل إلى طور آخر في مرحلة “عصر الحروب الصليبية”.
تكاد تتفق المراجع على أن أوروبا عرفت نفسها وشَكَّلَتْ روحها وصنعت ذاتيتها في الحروب الصليبية، فلقد “تمخض عن ازدياد الرخاء والحيوية في أوروبا الغربية خلال القرن الحادي عشر عن ظهور الحركة الصليبية، وكيف وُجِّهت هذه الحركة بصفة أساسية ضد المسلمين، ولا شك أن هذه الحيوية ذاتها هي صاحبة الفضل في إقدام المثقفين الأوربيين في القرن الثاني عشر على دراسة علوم العرب وفلسفتهم”[1]، “لقد أعطت تجربة الحروب الصليبية أوروبا وعيها الثقافي وكذلك وَهَبَتْها وحدتها، ولكن هذه التجربة نفسها كان مقضيًا عليها منذ ذلك الحين فصاعدًا بأن تهيئ اللون المزيف الذي كان على الإسلام أن يبدو لأعين الغربيين به، لأنه إذا كان للدعوة إلى حملة صليبية أن تحتفظ بصحتها فقد كان من الواجب والضروري أن يوسم نبي المسلمين بعدو المسيح وأن يصور دينه بأكلح العبارات كينبوع للفسق والفجور والانحراف عن الحق، وفي أيام الحروب الصليبية ذاتها تخللت العقل الأوروبي وبقيت فيه تلك الفكرة المضحكة القائلة بأن الإسلام إنما كان دينًا يدعو إلى عبادة الشهوة وإلى القوة الوحشية”[2].
وقد ازداد سوء الفهم منذ ذلك الحين، حتى إن لفظة “محمد” أصبحت بمعنى الكفر بالله، وتطورت “المحمدية” في أذهان معاصري شكسبير حتى أصبحت بمعنى أية ديانة مزيفة، وعلى الأخص الديانة التي تعبد الأصنام”[3]، و”كانت تماثيله (محمد صلى الله عليه وسلم) – حسب أقوالهم- تصنع من مواد غنية وذات أحجام هائلة”[4]، ويحدثنا السفير والرحالة المغربي أفوقاي الأندلسي في سفارته إلى بلاد فرنسا وهولندا[5] عن بعض هذه الأكاذيب، فمن ذلك أن بعضهم فهم أن الإسلام يجيز الزنا والسرقة من حديث أبي الدرداء أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم “هل يسرق المؤمن؟ قال: قد يكون ذلك، قال: هل يزني المؤمن؟ قال: بلى وإن كره أبو الدرداء، قال: هل يكذب المؤمن؟ قال: إنما يفتري الكذب من لا يؤمن”[6]!!، وفهم بعض علمائهم أن الإسلام يجيز اللواط من قوله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223]، ومن علمائهم من كان يظن أن المسلمين يزورون مكة ليروا نبيهم في الهواء في وسط حلقة حديدية موضوعة في نقطة اتزان وسط قبة حجر مغناطيسي فيحسب المسلمون أن نبيهم معلق في الهواء وأنها من معجزاته[7].
وفي هذه الفترة كانت الصورة تقول بأن محمدا كان ساحرًا دبر المعجزات ليخدع بها العرب السذج، ومنها أن ثورًا أبيض نشر الرعب بين العرب ثم ظهر وبين قرنيه كتاب هو ذلك القرآن، كما أنه استطاع أن يدرب حمامة بيضاء على التقاط “البازلاء” من فوق أذنيه بما أوحى للناس أن روح القدس يوحي إليه، وأنه كان يعاني من الصرع (والصرع في هذه الأيام يعني أن الجن يسكنه)، وأنه اجتذب الناس بإرضائه لغرائزهم وإطلاق شهواتهم في الزنا والشذوذ، ثم إن راهبًا مبتدعًا ضالاً طرد من البلاد المسيحية فذهب إلى بلاد العرب وقابل محمدًا ولقنه الأصول المشوهة للديانة المسيحية، وأن الإسلام لم ينتشر إلا بالسيف، وأن المسيحيين لم يسمح لهم بحرية في الإمبراطورية الإسلامية، وأن محمدًا مات بأن هجم عليه قطيع من الخنازير أثناء نوبة من نوبات اتصاله بالجن فمزقوه إربًا[8].
يرى المستشرق الألماني رود بارت أن المشكلة لم تكن في نقص المعلومات، بل يؤكد أن “العلماء ورجال اللاهوت في العصر الوسيط كانوا يتصلون بالمصادر الأولى في تعرفهم على الإسلام، وكانوا يتصلون بها على نطاق واسع، ولكن كل محاولة لتقييم هذه المصادر على نحو موضوعي نوعًا ما، كانت تصطدم بحكم سابق يتمثل في أن هذا الدين المعادي للنصرانية لا يمكن أن يكون فيه خير، وهكذا كان الناس لا يولون تصديقهم إلا لتلك المعلومات التي تتفق مع هذا الرأي المتخذ من قبل، وكانوا يتلقفون كل الأخبار التي تلوح لهم مسيئة إلى النبي العربي وإلى دين الإسلام”[9].
إذن فحقيقة الأمر لم يكن سوء فهم بقدر ما كان هدفًا وطموحًا، فلقد “زادت الثقافة الأوروبية من قوتها ودعمت هويتها من خلال وضعها لذاتها في مقابل الشرق باعتبارها ذاتًا بديلة أو حتى دفينة”[10]، إذ “لم يحدث قبل ظهور الاتحاد السوفيتي أن واجه الغرب تحديًا مستمرًا من دولة أو من منهج فكري يوازي التحدي الذي واجهه من الإسلام”[11].
ولذلك، فمنذ القرن الثاني عشر الميلادي وحتى القرن الثامن عشر الميلادي ستعيش أوروبا ستة قرون في مرحلة “شيطنة العدو” الذي هو المسلمون، ستة قرون أثرها لايزال قائمًا! في هذه الستة كانت الروح العدائية تحتاج إلى أن ترسم الصورة البشعة لهذا الشيطان الذي تحاربه في الشرق (الحروب الصليبية) وفي الغرب (الأندلس) خصوصًا بعد أن انتصر عليها في الشرق فطردها من بلاد الشام، وانتصرت عليه في الغرب حين أخرجته من الأندلس، ولكنه لم يكن انتصارًا كاملاً، إذ قبل سقوط غرناطة – آخر الممالك الأندلسية – بأربعين سنة كانت جيوش العثمانيين قد دخلت القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية ومدينة قسطنطين وحاضرة القياصرة، ومن بعد هذه اللحظات توالى تعاظم العثمانيين قرنا آخر على الأقل، ثم ثباتهم على هذا التفوق سنين أخرى. فكان “من المحال على المسيحيين الغربيين، بسبب هذا الخوف، أن يلتزموا العقلانية أو الموضوعية إزاء العقيدة الإسلامية”[12].
ومن خلال استعراض المستشرق الفرنسي مكسيم رودنسون لتطور الصورة الإسلامية في الدراسات الغربية نستطيع أن نَعُدَّ الصور الإيجابية عَدًّا ضمن التاريخ الأوروبي، وسنجد من سطوة الأفكار ما يحمل أصحابها على الاستدراك دائمًا، فمن أولئك – مثلا – الطبيب اليهودي الإسباني بيتر ألفونسي (بدرو دي ألفونسو) الذي اعتنق المسيحية في أوائل القرن الثاني عشر (1106م)؛ فقد كان “صاحب أول صورة إيجابية عن الإسلام”، وكان طبيبًا للملك هنري الأول، المعروف بعدائه للإسلام، وكان يصف الإسلام باعتباره العقيدة المقبولة لمن لم يسبق له الالتزام بالعقيدة الحقيقية “المسيحية”، ويرجع رودنسون هذه النظرة الإيجابية إلى أنه طبيب يتعامل مع فضاء العلم الذي كان يؤخذ حينها على يد المسلمين، كما أنه إسباني فهو الأقرب إلى الصورة الحقيقية لهم، وفي منتصف القرن الثاني عشر كتب المؤرخ أوتو فرايزنج بحثًا ينكر فيه أن المسلمين يعبدون الأصنام، وقال “من المعروف أن جميع أبناء الشرق يعبدون الله وحده، ويعترفون بشريعة العهد القديم، وشعيرة الطهارة، بل إنهم لا يهاجمون المسيح ولا الرسل، ولا يُقصيهم عن الخلاص إلا شيء واحد، ألا وهو إنكارهم أن المسيح عيسى هو الله أو ابن الله، وتبجيلهم الغاوي محمدا باعتباره نبيا عظيما للرب الأعلى”!!
————————————–
[1] مونتجمري وات: فضل الإسلام على الحضارة الغربية ص98.
[2] محمد أسد: الطريق إلى الإسلام ص19.
[3] ر. ف. بودلي: الرسول حياة محمد ص13.
[4] مكسيم رودنسون: الصورة الغربية والدراسات الغربية والإسلامية، ضمن “تراث الإسلام” بإشراف شاخت وبوزورث ص81.
[5] وكانت هذه السفارة بين عامي (1020 – 1022هـ = 1611 – 1613م).
[6] حديث موضوع، انظر: السلسلة الضعيفة للألباني 12/29، 30 (تحت الحديث 5521)، وروي المعنى من طريق آخر مرسلاً ضعيفًا عند المنذري في الترغيب والترهيب. وإنما نقلناه هنا لضرورة السياق.
[7] أفوقاي الأندلسي: رحلة أفوقاي الأندلسي ص49، 53، 80.
[8] كارين أرمسترونج: سيرة النبي محمد ص40، 41.
[9] رودي بارت: الدراسات العربية الإسلامية ص9، 10.
[10] إدوارد سعيد: الاستشراق ص46.
[11] كارين أرمسترونج: سيرة النبي محمد ص17، 18.
[12] كارين أرمسترونج: سيرة النبي محمد ص18.