بينما تمر الذكرى الأولى لاستحواذ روسيا على شبه جزيرة القرم عسكريًا، تبدو روسيا عازمة على تعزيز وجودها في البحر المتوسط، كما بدا مؤخرًا حين صرحت البحرية الروسية باعتزامها بناء قاعدة بحرية لها في قبرص، لتكون أول قاعدة لها في بلد عضو بالاتحاد الأوروبي، وتعزز وجودها المقتصر على قاعدة طرطوس التي يسيطر عليها حتى الآن نظام الأسد، ورُغم أن وزارة الدفاع القبرصية قد نفت اتفاق كهذا، إلا أن انتشار الخبر كان كافيًا لبث القلق، لاسيما بالنظر لنفوذ روسيا المتزايد في شرق المتوسط.
قبرص
تزايد الحديث عن موقع قبرص من الاتحاد الأوروبي بعد أزمتها الاقتصادية التي بدأت عام 2012، لاسيما وأن بنوكها تُعَد من معاقل الأموال الروسية السوداء البعيدة عن الأنظار، والتي تتحصل عليها شخصيات روسية عديدة من الجرائم المنظمة في بلادها، وهي أموال تصل قيمتها إلى حوالي 30 مليار دولار – رقم ليس بقليل في هذا البلد الصغير – وقد أتت معظمها إلى قبرص منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي.
تتمتع قبرص بموقع إستراتيجي في شرق المتوسط على بعد كيلومترات قليلة من تركيا ولبنان وإسرائيل وسوريا ومصر، وهي حليف تقليدي لليونان لأسباب لغوية وثقافية ودينية واضحة، لاسيما وأن تركيا، غريم اليونان التقليدي، تهيمن على الجزء الشمالي للجزيرة الذي يقطنه أتراك منذ أيام الخلافة العثمانية، وتتمتع فيه جمهورية شمال قبرص التركية بالسلطان السياسي الفعلي تحت إشراف أنقرة منذ عام 1974، أضف إلى ذلك أن أهميتها قد ازدادت مؤخرًا بعد اكتشاف احتياطي الغاز الضخم على شواطئها.
طبقًا لإحدى المصادر من الداخل الروسي، والذي تحدث عن القاعدة البحرية المفترضة تلك، سيكون من حق القوات الجوية الروسية استخدام قاعدة “بابانديرو” ومطار بابهوس الدولي في جنوبي غربي الجزيرة، والذي يقع على مسافة حوالي 50 كيلومترًا من قاعدة القوات الجوية الملكية البريطانية المعروفة بـ “أكروتيري”، وهو أمر مستغرب بطبيعة الحال، فرُغم أن قبرص ليست جزءًا من حلف الناتو وتوجد بينها وبين تركيا مشكلات عديدة، إلا أنها ملتزمة بوجودها في التحالف الغربي بعضويتها في الاتحاد الأوروبي، كما تُعَد حليفتها اليونان جزءًا من حلف الناتو.
سوريا
من المعروف أن سوريا تستضيف القاعدة الأساسية للبحرية الروسية في المتوسط بمدينة طرطوس، وهي حليف قديم لنظام الأسد منذ أيام الحرب الباردة، حيث يتيح لها وجودها على الأراضي السورية الالتفاف على كماشة حلف الناتو، الذي تنتشر صواريخه من تركيا في جنوب شرق أوروبا، إلى بولندا ودول البلقان في شمالي شرقي القارة.
بالنظر للتوتر الجاري في سوريا منذ قيام الثورة واندلاع الحرب الأهلية عام 2011 مع موجة الربيع العربي، ليس غريبًا أن تبدأ روسيا في البحث عن بدائل لنظام الأسد، ورُغم أن خروجها من طرطوس لايزال سيناريو بعيد المنال، خاصة وأن سقوط الأسد يبدو بعيدًا بالنظر للأوضاع على الأرض، وهو الظهير الأساسي للعلويين المتمركزين في محافظتي طرطوس واللاذقية، إلا أن موسكو لا تريد أن تضع بيضها في سلة واحدة، وتفضّل بالطبع بلدًا هادئًا على بلد مضطرب مثل سوريا، لا يبعد كثيرًا عن مرمي هجمات التنظيمات المتطرفة التي تعج بالقادمين من آسيا الوسطى والشيشان.
اليونان
بعد أيام قليلة على انتخابه رئيسًا لوزراء اليونان، اتجه أليكسيس تسيبراس رئيس حزب سيريزا الحاكم إلى موسكو ملبيًا دعوة الرئيس الروسي بوتين، وبالنظر للروابط التاريخية والثقافية والدينية بين البلدين، والخلفية اليسارية القوية لحزب سيريزا، بل والميول القوية لدى الكثير من أعضائه تجاه روسيا، لم يكن غريبًا أن يدعو تسيبراس إلى تقارب بين اليونان وقبرص يخلق جسرًا بين روسيا وأوروبا، في إشارة واضحة إلى إدراكه لموقع اليونان بين القطبين، بدلًا من اعتبارها جزءًا من أوروبا فقط،.
كان هذا الموقف سببًا في تعزيز مخاوف الكثيرين في الاتحاد الأوروبي من فقدان اليونان كجزء من التحالف الغربي، وهو ما دفعهم لتكثيف جهود حل أزمة اليونان المالية للإبقاء عليها داخل السوق الأوروبية، خاصة بعد ظهور دعوات بين بعض اليساريين في اليونان بالاتجاه لروسيا لحل أزمتها الاقتصادية وتزويدها بالأموال التي تريد والتخلي عن اليورو، وتصريح وزير المالية الروسي باستعداد بلاده لإقراض أثينا إذا طلبت.
تركيا
يتسم تاريخ العلاقات التركية الروسية بالعداوة في معظم الفترات، لاسيما وأن الجغرافيا قد حتمت عليهما إما العداوة أو التنافس على أقل تقدير، بيد أن هذا لم يمنع أنقرة وموسكو من التقارب في ملفات عدة، أبرزها الخط الغاز الجديد الذي قررت روسيا تشييده عبر تركيا، توركيش ستريم، بدلًا من ساوث ستريم المار عبر البحر الأسود ثم بلغاريا، وهو خط سيُعطى اليونان ميزة إستراتيجية كبيرة نظرًا لمروره عبرها ومن ثم إلى بقية دول أوروبا بشكل عام، والبلقان بشكل خاص، حيث صربيا ومونتنجرو اللتين تتمتعان بعلاقات وطيدة أيضًا مع موسكو.
***
هذه التحولات الجارية في العلاقات مع قبرص واليونان وتركيا، بالإضافة إلى التقارب الحادث مع مصر، والعلاقات التاريخية مع بعض دول البلقان، بالإضافة إلى التوتر الأخير بين الولايات المتحدة وإسرائيل، والذي سيحسّن بالطبع من العلاقات بين موسكو وتل أبيب، يعني أن روسيا قد أصبحت في موقع أفضل كثيرًا في شرق المتوسط، وبغض النظر عما إذا كانت ستنجح في بناء قاعدة في قبرص أم لا، فإن دورها المتنامي في المنطقة سيتيح لها تنويع أوراقها في اللعبة مع الغرب، وسيفتح لها نافذة بعيدة عن شرق أوروبا المأزومة.